07-أغسطس-2015

فلسطيني قرب الجدار العازل في قلقيلية (Getty)

شهد المجتمع الفلسطيني خلال القرن العشرين تحولات جذرية أدت إلى خلخلة بالجملة في جوانب معيشته اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، جُلّها ناجم عن حالة الاستعمار الاستيطاني الذي فرض على الفلسطينيين وأرضهم، والتي تدخلت بدورها في إعادة خلق وتشكيل أنساق الحياة والفعل الجمعي في مختلف مناطق تواجد الشعب الفلسطيني.

شهدت المشاركة الشبابية في العمل الأهلي نقلة نوعية في عهد انتفاضة الحجارة 1987

وعليه، تصبح محاولة التعرف على طابع "العمل الأهلي الفلسطيني"، والتعرض لهوية/ هويات هذا العمل، والتعرف على محاولة طرحه حركة اجتماعية ذات حراك اجتماعي سياسي، وموقع الشباب ودوره فيه، خاضعة لفهم مجمل التحولات التي أسهمت في تشكيله. إذ يتوزع العمل الأهلي على قطاع العمل الشعبي/ الخيري، وما يرفد هذا القطاع من منظمات ونواد ومجموعات خاضعة للبنى العضوية، مثل الطائفة والعشيرة، وكذلك للفواعل المحلية، لجان محلية ومجالس بلدية.. إلخ. وأيضًا على صفة وجوده فاعلا من فواعل ما يطلق عليه في الحالة الفلسطينية تجاوزًا "المجتمع المدني"، أي قطاع المؤسسات غير الحكومية القائمة بقوة دفع التمويل الأجنبي، وأخيرًا، ارتباطه بالحزب السياسي تاريخيًا، أي فصائل منظمة التحرير والفصائل الإسلامية.

وبالوقوف لدى بدايات العمل الأهلي فلسطينيًا، يبرز امتيازه بحراك اجتماعي ثقافي سياسي مبكر نسبيًا. حيث كان هذا الحراك مرتبطا بمتغيرات مطلع القرن العشرين، وانتقال فلسطين من يد السلطة العثمانية إلى اليد الانتدابية البريطانية، وما جلبت معها من تحديات مرتبطة ببواكير المشروع الصهيوني في فلسطين، وارتبط هذا العمل منذ البدايات بواقع العمل الخيري، دون إغفال الإسهام السياسي له، وكان مركز نشاط العمل الأهلي في المدن الأساسية، القدس ويافا مثلًا، واقتصرت إدارة وتسيير مبادرات العمل الأهلي على أوساط طبقية من أبناء وبنات العائلات التقليدية الكبرى، الذين نشطوا في النوادي والجمعيات الخيرية والاتحادات، مثل الاتحاد النسائي الفلسطيني، الذي تأسس عام 1921، والجمعيات الكشفية والنواد الشبابية، مثل جميعة الكشاف المسلم، وجمعية الشبان المسلمين، وجميعة الشبان المسيحية، والنجادة والفتوة.

أما اليوم فتختلف الأطر التي يمكن رؤية العمل الأهلي في فلسطين والأدوار المتاحة للشباب فيه من خلالها، لكن الصورة المركزية تتركز في التبعثر ما بين العمل ضمن فعاليات الفصائل الفلسطينية عبر المنظمات الأهلية والشبابية التابعة لها، وما بين العمل المؤسساتي ضمن حقل منظمات المجتمع المدني الفلسطيني/ المؤسسات غير الحكومية، وبقايا العمل الخيري بصيغته التقليدية، وإن كان أكثر القطاعات بعدًا عن أن يكون ذا طابع شبابي.

يمكن تلمس تأثير صعود تيار الإسلام السياسي في فلسطين بدخول وجوه جديدة على العمل الأهلي

وكانت المشاركة الشبابية داخل فلسطين في العمل العام والأهلي قد شهدت نقلة نوعية في عهد انتفاضة الحجارة 1987، كونها فعل جمعي ديمقراطي شعبي، ما أسهم في توفير هامش أوسع للمشاركة الشبابية، عبر اللجان الشعبية والمنظمات الطلابية والتطوعية التابعة للفصائل الفلسطينية ولجان العمل الانتفاضي. ويمكن التعاطي مع التحولات في المسار العمل الشبابي الأهلي بما قبل الانتفاضة وبما بعدها، نظرًا لما شكلته من لحظة فارقة، كما أنها أتبعت باتفاقيات إعلان المبادئ "أوسلو" وإنشاء السلطة الفلسطينية. وهذا المتغير بدوره قد أسهم، بل كان عاملًا حاسمًا في التحولات الطارئة في الحقل السياسي الفلسطيني، ما انعكس على طابع العمل الأهلي والمشاركة الشبابية بشكل نكوصي، لما أتى به مسار التسوية من تراجع على مستوى العمل الجمعي والوطني بمجمله، وتعزيز حالة الفردية والانسلاخ في الوعي الجمعي.

وبعد، يمكن تلمس ما لصعود تيار الإسلام السياسي في فلسطين من تأثير ملموس على الحراك الشبابي كغيره من الوقائع الحيوية، وخاصة أنه ترافق مع دخول المجتمع الفلسطيني بعد أوسلو، سواء في الداخل أو الشتات، حقبة جديدة بمحددات وشروط لعب جديدة، إلى جانب الانحسار في الوجود والتأثير لفصائل اليسار الفلسطيني، وبالتالي للمنظمات الأهلية العاملة في أطره، فما تبقى منها انتقل ليصبح مرتهنًا لأجندة التمويل الأجنبي أكثر من خضوعه لرؤية الحزب، بل وفي حالات عدة أصبحت الكلمة العليا للمنظمة الممولة وليس للحزب، على قاعدة من يمتلك المال يمتلك سلطة القرار، فمثلاً بهيمنة أحد الأعضاء السابقين في حزب الشعب الفلسطيني، الشيوعي سابقًا، على منظمة صحية تابعة للحزب، استدرجها كما تمويلها لإنشاء مبادرة حزب جديد، وبتمويل كان مرفوضًا من قبل بعض الأصوات في الحزب لما له من علاقة بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية "CIA".

وهنا شهد الشارع الفلسطيني تمددًا واسعا لتأثير ودعم التيار السياسي الإسلامي، في ظل غياب من يحمل مشروعًا بديلًا وفاعلًا على أرض الواقع اليومي. وكان لهذا العامل من الأهمية، أن أسهم في إعادة تشكيل، جانب من السمات العامة للعمل الأهلي الفلسطيني، وبروز مؤسسات وهيئات ذات خلفية أو مرجعية سياسية إسلامية بالمعنى الحزبي، وربما يحسب لهذا الصعود الإسلامي تفعيل فئات جديدة من الشباب الفلسطيني، لم تكن سابقا تجد ما يتفق مع رؤيتها في منظمات الفصائل الفاعلة على الساحة الفلسطينية. كما وإسهامها في التنوع وطرح البدائل، بعد أن اعتاد الفلسطينيون على ما لدى فصائل منظمة التحرير.

وهكذا، فإن ساحة العمل الأهلي، قد تفاعلت بدورها مع المحيط من متغيرات. وقد وثبت من واقع العمل الاجتماعي الخيري في بداياتها، منتقلة إلى إطار العمل السياسي المباشر من خلال فصائل الحركة الوطنية وأطرها الجماهيرية، وصولًا إلى المزيد من الاستقلالية والتخصص عبر مأسسة الجسم الأهلي بمحددات مختلفة عن سابقتها. وشهد ليس فقط استمرارية الفواعل الموجودة أساسًا، بل إن هناك توسعا على صعيد استحداث منظمات ومؤسسات أهلية، لم يكن لها وجود سابق في الأطر الحزبية، بل أنشأت بشكل جديد كليًا، تعمل في فضاءات فعل المنظمات غير الحكومية.

بناءً عليه، يمسي التطرق لمسار العمل الأهلي فلسطينيًا، كاشفًا لصفة انعدام الاستمرارية، من حيث الطابع العام لهذا العمل، بل وبشكل امتاز بالقطع المتتابع في الاستمرارية، ولحالة الانتقال المستمر بين الجانب الخيري الجماهيري إلى الحزبي السياسي وصولًا إلى المؤسساتي غير الحكومي، دورها في مفاقمة التشظي وصعوبة التراكم والانتشار بين الأوساط الشبابية التي كان من الممكن تحقيقها.