02-أكتوبر-2016

صورة تعبيريّة/ GettyImages

بزَغَ الفجر! حتى ذلك الوقت كانت "شهد" غارقةً في إقناع نفسها بأن ما سيحدث خلال ساعات ليس إلا شيئاً من "بديهيات الحب".. "ماذا يعني أن يخطبني أبيض؟".. تبتسمُ لسقف غرفتها كلما تذكرت "خالد" وهو يحاول أن يقول لها "أحبك" عبثاً..  يتصبب جبينه عرقًا بينما يحوم حول مرادفاتٍ أخرى.. تعاود الضحك، وتقرر أن تنام أخيرًا..

نامت.. لكن لدقيقتين فقط! "لااااا.. مامااااا"، صرخت "شهد" بهستيريا بعد أن قفزت عن سريرها تتلمّس طريقها وسط الدخان نحو باب الغرفة! "إلى هذه الدرجة نعم، وصل الأمر بأهل خالد حين أرسلوا إليها صبيحة اليوم المقرر لعقد قرانهما عبر النافذة هدية "مولوتوف" (زجاجة حارقة).

يفكّر الواحد منهم ألف مرة قبل أن يتقدم لخطبة فتاة "بيضاء البشرة".. وقد يضطر "الأبيض" لخوض حربٍ ضروس إذا قرر خطبة "سمراء"، فنظرة المجتمع تعطي الأحقيّة في تقييم الشخص لجمال وجهه!

اتصل والد شهد بـ "خالد" يخبره بضرورة تأجيل "زيارة المحكمة" إلى حين تبتلع العائلة صدمة "نار الفجر".. بكى هو، وبكَتْ، ومضت بعدها الأيام باردةً مقيتة حتى ساق الله قدرًا تلك الصدفة التي جمعت بين "العروس ذات البشرة السوداء" "شهد" وأم العريس "صاحب العينين الخضراوين" عند أحد مواقف السيارات بغزة!

"أنتِ؟!" زمجرت الأم في وجه الصبية التي عرفتها من شعرها شديد التموّج، فيما أدارت الأخيرة ظهرها لها ومضت خشية مواجهةٍ "غير محسوبة العواقب" في الطريق العام.. لم يرُق ذلك للأم التي صار صوتها يعلو كلما ابتعدت الفتاة عن خطاها؛ فصرخت تُسمِعُ الناس :"إوعي تفكري اللي ببالك ممكن يصير يا عبدة.. يا بنت العبيد"!... وفقط!

رغم قساوتها، كانت تلك الكلمة "مفتاح الفرج".. في ذات الليلة جاء "خالد" منهارًا يطلب من والد "شهد" أن يكون عقد القران غدًا.. وأمام عاصفة تلك المشاعر الصادقة لم يمتلك الأب إلا أن يمنحه أخيرًا صكّ القبول.

اقرأ/ي أيضًا: غزة.. الحرب قبل الحب

في "حارة العبيد" كما يطلق عليها أهالي قطاع غزة –إلا من رحم الله- حيث التجمع الأكبر لأصحاب البشرة "السمراء جدًا"، سجّل التاريخ الكثير من المواقف "الموجعة"، التي حفرت في سجل الذاكرة –يا للأسف- نظرةً عنصريةً لدى البعض للقيمة الإنسانية حتى! سيما لو خصصنا حديثنا اليوم عن قضية "الزواج"..عندما يفكر الواحد منهم ألف مرة قبل أن يقدم على خطبة "بيضاء".. أو عندما يضطر الأبيض إلى خوض حربٍ ضروس إذا قرر خطبة "سمراء" ضد العادات والتقاليد ونظرة المجتمع التي تعطي الأحقيّة في تقييم الشخص لجمال وجهه، غاضةً الطرف عن عقله وروحه.. "شهد" السمراء، و"نهى" البيضاء بطلتان من نفس "الحارة"، وقصتان مدهشتان لمزيجٍ راقٍ بين "أسود" و"أبيض"..

"عرسٌ" تحت الحراسة!

عندما كان تعارف "شهد" و"خالد" للمرة الأولى في إحدى جمعيات حقوق الإنسان، كان لا بدّ من أن تصبح قصة عشقهما من "بديهيات الحب"، وهما اللذان يؤمنان بأن لون القلب هو الأهم.. "كيمياءٌ غريبة" كما تصفها "شهد" مزجت بين عقليهما حتى أدرك كل منهما أنّ الآخر هو نصفه الضائع.. كان "خالد" شابًا مستقيمًا فقرر أن يقصد البيت من بابه مع إرهاصات مشاعره الأولى، وهنا بدأت الحكاية..

اسمع يا خالد، الإشي اللي في بالك مش ممكن يصير لو على جثتي، يمّا الوحدة بتتباهى بكنّتها.. هادا اللي ناقص، نناسب السمران!

- إيش بتحكي إنت؟ بدك أياني أخطبلك هاي؟ خلصو البنات من الدنيا يا خالد؟ طب ما فكرتش بولادك كيف راح ييجو؟ إنت ما شاء الله ألف بنت بتتمناك وأحلى خلفة ممكن تيجيك.. من وين جبتلي هالقصة؟
يما يا حبيبتي، أنا مقتنع فيها، ومش مهم كيف تيجي خلفتي؛ المهم تيجي بصحة وعافية، إنتي ضامنة لو تزوجت ملكة جمال ما ييجيني ولاد عندهم مشاكل أو إعاقات؟
اسمع يا خالد، الإشي اللي في بالك مش ممكن يصير لو على جثتي، يمّا الوحدة بتتباهى بكنّتها.. هادا اللي ناقص، نناسب السمران!

رغم أنف "تلك النظرة العنصرية" أقيم للاثنين "أحلى فرح" كان جلّ مدعوّيه "من غير أهل شهد" ضباط شرطة من قوات الأمن الوقائي –في حينها- تحسّبًا لأي اعتداء.. "فالتهديدات استمرت أياماً بـ تخريب العرس... أو قتل العروس!!".

تقول "شهد": "في العام الأول من زواجنا، كان الناس يزورون بيتنا ليتعرفوا إلى طبيعة حياتنا معًا.. كيف يعيش أبيض مع صاحبة بشرة سوداء؟ هل حقًا يحبني خالد؟ كان بعضهم يراهن على فشل قصتنا بمجرد (أن يصحو خالد من نزوته) كما كانوا يقيّمون الوضع، لكن "الدهشة" كانت تباغتهم عندما يصدمون بطبيعة علاقتنا معًا: ذلك التفاهم، والتعاون، والحب الذي قد لا يجدونه في بيوتهم حتى.

اقرأ/ي أيضًا: شمال غزة.. منطق الصراع الهادئ

بعد مرور عام على زواج الاثنين، تقريبًا انتهت محاولات أم خالد "المباشرة" في التنغيص عليهما، فلجأت إلى "الروحانيات" عندما كانت "شهد" تفاجأ بماءٍ مسكوبةٍ عند باب شقتها مرة، أو بلفافةٍ من القماش محشوة بالطلاسم زرعها أحدهم في غطاء كرسي الصالون.. أو غير ذلك!

- كنتُ أمسك السحر بيدي وآخذه إلى خالد، ثم نضحكُ معًا.. كان عندنا يقين بأن حبّنا لن يستطيع شيءٌ الوقوف أمامه ما أراد له الله أن يبقى.. وكنا على وشك أن نصبح ثلاثة..

كانت "شهد" كلما مشت برفقة زوجها في الشارع يظنّونها أجنبية معها مرشدها السياحي! "تخيلوا" تضيف ضاحكةً وهي تستذكر دهشة الناس عندما يعلمون الحقيقة.

"شهد" كمعظم صاحبات البشرة الغامقة في قطاع غزة، تتمتع بشخصية قوية، وثقة –غير مسبوقة- بالنفس، لدرجة أنها يمكن أن تضحك غير مكترثة إذا ما ناداها أحدهم في الطريق بكلمات المعاكسة الصبيانية هذه (نسكافيه.. شوكولاته.. الخ).

تقع ما يطلق عليها اسم "حارة العبيد" وسط شارع الجلاء شمال مدينة غزة، ويعيش فيها ما يقرب 11 ألف فلسطينيّ "أسمر"

على العموم، أنجبت "شهد" طفلاً أخذ من أمه سمرة وجهها وخفة ظلها، ومن أبيه بياض قلبه وطهر روحه.. ورغم ذلك لم تفكر جدته في أن تتعرف إليه إلا عندما..

- مرض خالد وعمر طفلنا أربع سنوات.. استشرى المرض في كل جسده! وكانت فرصة نجاته ضئيلة حسب تشخيص الأطباء (وهذا فقط ما ألان قلب أمه لتزوره).. تخيلوا!

- كل ما تمنيته وقتذاك أن أكون معه خلال علاجه في مستشفيات الداخل المحتل، لكن كان هذا صعبًا عندما رافقَته أمه.. كان آخر طلبٍ له حسب ما أخبرنا صديقٌ للعائلة صورةً لي ولابنه.. قبّلها واستودعَنا الله، ثم سلم روحه..

لو أن الإنسان يستسلم لفطرته النقية (والحديث لشهد) لما ضيّع على نفسه لحظاتٍ كان يمكن أن تجعل للحياة طعماً آخر.. اليوم علاقتي بأهل خالد رائعة.. كلما رأيت اليوم ابني "أبو سمرة" يضحك مع جدته، غبت في طيات الذاكرة، وحلقتُ في خيالي إلى حيث خالد هناك على وعده: "إذا كتب الله لنا الجنة.. سأطلبك منه زوجةً هناك أيضًا يا شهد".

اقرأ/ي أيضًا: خبيزة غزة.. لموائد المسحوقين رفيق

أيخطف الأب ابنته؟

أما في قصة "نهى".. فقد يكون الوضع أقرب إلى الطبيعي في ظل النظرة الذكورية الغالبة –على مستوى قطاع غزة تحديدًا- (أسمر يتزوج من بيضاء) عنوانٌ عادي أمام تفاصيل مدهشة..

في ذلك اليوم، طلبت "نهى" من زوجها المهندس "ابن الحارة المذكورة" أن يقف بسيارته أمام باب إحدى الصيدليات كي تشتري شريط دواء، نزلت وتركت ابنتها (وكان لونها أقرب إلى الأبيض وقتذاك) مع أبيها داخل السيارة.. بطبيعة الحال بدأت الصغيرة ذات العامين والنصف تصرخ مناديةً "ماااما" وهي تحاول إخراج رأسها من نافذة السيارة المفتوحة، وعلا الصوت بينما الأب يحاول جذب ابنته إلى الداخل وقد غضب من تصرفها..

على بعد بضعة أمتار، لاحظ شرطيٌ ما يحدث، فهرول نحو السيارة مهاجمًا الأب، وقد حاول سحب الطفلة منه "ظناً منّه بأنها مخطوفة"! ولم ينقذ الأب لحظتها إلا أن ابنته خافت من الرجل الغريب وعادت إلى حضنه تصرخ "بابا" ثم هدأت!!

تقدّم لها رؤوف "الأسمر"، وكل صوتٍ حولها كان يقول لها: "انتظري نصيبًا أفضل، وماذا ينقصك حتى ترضي به

"نهى" الطالبة الجامعية الجميلة جداً، عندما تقدم لها زوجها "رؤوف" دهشت عائلتها إلا هي.. وكان تعليقها: وماذا يعني ذلك؟ كل ذي صوتٍ حولها كان يقول لها: "انتظري نصيبًا أفضل، وماذا ينقصك حتى ترضي به.. أطفالك غدًا لن تغنيهم شهادة أبيهم عن لونهم يا حلوة".. أما هي فـ"ركبت رأسها" كما يقول المثل، وقررت أن تتحدى نظرة المجتمع "المقيتة" تلك فتصبح زوجة المهندس "رؤوف"..

"النبرة تكفي"

يحكي رؤوف عن بدايات زواجه فيقول: "المشكلة ليست فقط عند البيض، فحتى أصحاب البشرة السمراء، غالبيتهم أقلموا أنفسهم على أنهم غير مقبولين خارج منطقتهم، ورضوا بهذا الواقع الذي ينتقص من قدرهم لذواتهم! فكنت عندما أخرج مع زوجتي أول فترة من زواجنا أصدم بنظرتهم المندهشة! كل النظرات تلاحقني داخل الحارة حتى تشاجرت مع كثيرٍ منهم، وكذلك الحال خارج الحارة أيضًا.. الكل ينظر ويتساءل باستغراب "أهذه زوجته؟ كيف قبلت؟ ونبرة صوت الكثير من النساء اللاتي كن يصادفنها في السوق وهنّ يسألنها عني :"هذا زوجك؟!" كانت تكفي لتخبرني بحجم الصدمة".

تقاطع حديثه "نهى" فتزيد وهي تضحك: "أحببته جداً، لم أتوقع أن أجد في قلبه كل هذا الحنان وكل هذا الحب، وعلى العكس أحاول أن أخفي سعادتي معه عن عيون بعض صديقاتي الغارقات في المشاكل مع أزواجهن".

وحتى يكف عن نفسه أذى نظرات الناس لدى خروجه مع زوجته، قرر "رؤوف" شراء سيارة "ولو بالدَين"! بل إنه غطى نوافذها باللاصق الأسود مراراً حتى وقتٍ قريب.. حتى بدأ الناس يعتادون على مروره معها بعد أكثر من 12 عامًا على زواجهما.

"معاناة" نهى لا تتعلق بفكرة زواجها من "رؤوف".. لا أبداً، اليوم صارت القضية متعلقة بأطفالها منه، الذين خرجوا إلى هذا العالم بعضهم بلون أبيه تماماً، وبعضهم الآخر بدرجة لونٍ أقل بقليل.

- تخيلوا! عندما تأتيني طفلتي باكيةً بعد زيارتي لمدرستها وهي تتوسل إليّ ألا أكررها، أو حتى أن أسأل عن مستواها الدراسي لما يسببه ذلك من بلبلة في المدرسة كلها (..) تحديداً يوم سمعت إحدى المعلمات تقول لأخرى :"شايفة هديك البنت السمرا؟ اجت إمها اليوم عالمدرسة.. بس إيش!! راحت عليكي!! بيضا بيضا، كيف بنتها هيك ما تعرفيش"!

رؤوف يعطي أبناءه (المتفوقين في دراستهم) بين الفينة والأخرى دروسًا قيّمة في "الثقة بالنفس" تبعًا لزوجته: انتبهوا، طالما أنّ لديكم العقل فأنتم أجمل الخلق.. من يناديكم "جالاكسي" قولوا له بأن يناديكم "سنكرز" لأنكم تحبونها أكثر".

تضحك وتتابع: "لو عاد بي الزمن إلى الوراء مجدداً لاخترتُ رؤوف، هو أطيب وألطف من رأيتُ في حياتي.. بل إنني أتمنى لكل من أريد لهم الخير مثله (بعيداً عن قضية لون البشرة).

اقرأ/ي أيضًا: أبراج المراقبة أشواك في حلق غلاف غزة

الأطفال وأزمات نفسية

الحاج أحمد الروّاغ الذي يقترب بعمره من الثمانين، هو بالنسبة لأهل الحارة –رغم أنه يعيش في منطقةٍ مقابلة لها- مختاراً يقصدونه في حل مشكلاتهم، لعمره وحكمته وعلمه، يقول: "نظرة التفرقة خفّت هذه الأيام عنها في سنوات ماضية، تحديداً فيما يتعلق بزواج الرجال السمر من الفتيات البيض، لكن المشكلة تبقى لو كان الوضع معكوسًا وغالبًا لا تتم مثل هذه الزيجات إلا نادرًا".

أنتم أجمل الخلق.. من يناديكم "جالاكسي" قولوا له بأن يناديكم "سنكرز" لأنكم تحبونها أكثر".

وحسب الحاج الرواغ فإن أصحاب البشرة "السمراء جداً" جاؤوا –كأجداد- من السودان، واستقروا في قرية "روبين" القريبة من يافا ما قبل عام النكبة، حتى اضطرهم احتلال الأرض وقتذاك إلى الهجرة ناحية قطاع غزة نجاةً بأرواحهم، فتجمعوا في منطقةٍ واحدة كأقلية بدأت تمتد وتتكاثر على مدار السنوات التالية لعام 1948.

ويضيف: "ما يميزنا رغم وجود النظرة العنصرية سيما في موضوع الزواج، أننا محبوبون هنا، بالذات لو حقق الواحد منا ذاته وتفوق على أقرانه من البيض (..) يصبح حينها مثارًا للفخر، ومطلبًا للصداقة بين البيض أنفسهم"، مردفاً: "معظم أصحاب البشرة الغامقة معروفون بثقتهم العالية بأنفسهم، وأيضاً خفة ظلهم، ولا ينقصنا إلا أن تختفي النظرة العنصرية لدى البعض تجاهنا والتي تسبب لأطفالنا في بعض الأحيان أزمات نفسية صعبة".

وتقع ما يطلق عليها اسم "حارة العبيد" وسط شارع الجلاء شمال مدينة غزة، ويعيش فيها ما يقرب 11 ألف فلسطينيّ "أسمر" تبعًا للمختار الرواغ.

* الأسماء الواردة في التقرير مستعارة تبعًا لطلب أصحابها.

اقرأ/ي أيضًا:

الزواج في غزة.. "سياسة ونصيب"!

فنانو غزة.. تهريب الأمل

طلبة غزة.. تجمعهم أرجوحة العيد!