20-أكتوبر-2016

في منطقة نائية، وعلى بعد 20 كيلومترًا من قلب مدينة بيت لحم مهد السيِّد المسيح، بُني دير مار سابا قبل 1500 عام، على سفح واد سحيق في المكان الذي حطّ فيه القديس سابا رحاله، في رحلة التعبد والبحث عن العزلة.

يكاد يكون الدير منحوتًا في بطن هذه الجبال في مشهد ساحر، ويعتبر من الأديرة التي تمنع دخول النساء

ما إن تصل إلى تلك المنطقة، حتى ينتابك شعور بالسكينة وخشوع الجوارح، كيف لا وأنت لا تسمع سوى زقزقة العصافير وهدير سيل واد النار أو واد قدرون في قعر الوادي. يكاد يكون الدير منحوتًا في بطن هذه الجبال في مشهد ساحر، حيث يذهب كثيرون إلى هناك من أجل المتعة والمشاهدة والتنزّه، وليس فقط للصلاة بالنسبة للمسيحيين. 
على مدار سنوات طويلة عاشت عائلات عدة من بلدة العبيدية الواقعة شرقي بيت لحم بجوار الدير، وربطتها به علاقة طيبة من التآخي والتشارك، كغيره من الأماكن في فلسطين.

القدّيس سابا 

تضم القاعة الرئيسة للكنيسة الداخلية في الدير الكبير نسبيًا رفات القديس سابا، وهو جثمان محنّط منذ مئات السنين، وكان الغزاة الصليبيين قد نقلوا هذا الجثمان إلى إيطاليا، وتحديدًا إلى كنيسة القديس مرقص في مدينة البندقية، ومكث هناك نحو سبعة قرون، إلى أن عاد إلى مكانه عام 1965.  

 

رفات القديس سابا المحنط

 

تقول الرواية إنّ كابوسًا كان يلاحق البابا بولس السادس آنذاك، هو سبب إعادة الرفات، فقد كان يظهر القديس سابا وهو يحاول إيذاء البابا، طالبًا منه العودة به إلى الدير الذي نقل منه.
ويحتوي الدير على مكتبة كبيرة وقديمة، فيها أقدم الترجمات العربية للكتاب المقدس. ويعتبر هذا الدير من الأديرة التي تُمنع النساء من دخولها، وذلك تنفيذًا لوصية القديس سابا قبل وفاته، فيحرص الرهبان في الدير على منع النساء من الدخول، وفقًا لأسطورة تقول إنه إذا دخلت امرأة الدير فإنه يبدأ بالاهتزاز وينهار على من فيه.

أحد أسوار دير مار سابا

البداية من دير مَرِد "كاستيريا"

يروي أحد اهالي بلدة العبيدية، الحاج أحمد أبو ساري ربايعة في الثمانينات من عمره لـ "ألترا فلسطين" كيف كان يساعد رهبان الدير، الثوار إبان ثورة عام 1936، حين كان عمره آنذاك 7 أعوام فقط، ففي إحدى الليالي وأثناء ذهابه مع والده لإيصال الطعام والمؤونة إلى دير مرد "كاستيريا" (يقع في وسط البرية الشرقية لبيت لحم ويتبع دير مار سابا)، والمؤونة في العادة خبز وزيتون أسود يابس، وما إن وصلا الدير، وجدا مجموعة من الثوار يحملون أسلحتهم، ويقفون بباب الدير حين جاء لهم أحد الرهبان ويدعى "بانداليمو" بالماء والطعام والمال.

درج دير مار سابا

وما إن اشتدت الظروف الصعبة آنذاك رحل رهبان دير مرد إلى دير مار سابا القريب، حيث نقل أهالي العبيدية أمتعة الدير وأغراضه على دوابهم قاطعين بها الجبال الوديان.
بعد عقود طويلة عاد الرهبان إلى دير مرد لترميمه والسكن فيه، إلا أن قوات الاحتلال منعتهم من ذلك بحجة أنه يقع في منطقة تدريب عسكري ولا يسمح لهم بترميمه، عدا عن حجة أخرى ساقوها لعرقلة عمل الرهبان، وهي أن هذا الدير "معبد فرعوني قديم ولا علاقة للمسيحية فيه" كما يقول أبو ساري.

ولائم "للمخاتير" والعامة

كان "دير مار سابا" يُعد الطعام يوميًا لأهالي المنطقة الذين يسكنون حوله، وكانت نحو 20 عائلة آنذاك تسكن بالقرب من الدير، فأطباقه المقدمة عبارة عن يخنة الباذنجان والفاصوليا، والخبز المحمص ويسمى "طلامي"، تقدم الوجبات لعامة الناس والزوار، ومنهم من كان يأخذ حصة أهل بيته بوعاء جلبه معه إلى الدير، كما أن مخاتير وأعيان المناطق المحيطة آنذاك كان لهم يوم مخصص يزورون فيه الدير، فيكرم وفادتهم في غرفة مخصصة لهم، يتناولون فيها ما لذ وطاب من الطعام والشراب، وتُملأ أمتعة دوابهم بالمؤن.

تآخي إسلامي مسيحي و"منفعة متبادلة"

تلك الأعطيات والموائد والولائم كانت تعبر عن التآخي الإسلامي المسيحي، وكذلك المنفعة المتبادلة، فكان أهالي تلك المنطقة يعملون على بناء الجدارن الاستنادية للدير، ويصلحون قنوات المياه التي توصل مياه الأمطار إلى الآبار داخل الدير، وينظفونها قبل موسم الشتاء، عدا عن ترميم المغر والغرف داخل الدير وحمايته من قطاع الطرق، وتخصيص حراس ونواطير لهذه المهمة، مقابل أجر مادي يعادل نصف دينار أردني شهريًا، آنذاك.

"أبو ناب صاحب الدواب" مسلم يُقلُّ المُطران

لدير مار سابا طقوسه الخاصة في عيد الميلاد، فما إن يحين موعد عيد الميلاد حتى تبدأ حملة تنظيفات كبيرة داخل الدير يقوم عليها الرهبان بأنفسهم، وفي يوم استقبال المطران القادم من القدس يقول أبو ساري إن مواطنًا مسلمًا من الخليل ويدعى أبو ناب، هو المتكفل بنقل المطران من كنيسة القيامة في القدس، إلى دير مار سابا شرقي بيت لحم.

مار سابا شرقي مدينة بيت لحم

بخيوله العشرة المزينة بالزركشات والأجراس الصغيرة يُقلُّ "أبو ناب صاحب الدواب" كما كانوا يسمونه في الماضي، المطران من جبل المكبر إلى واد النار حتى وصوله إلى منطقة قريبة من دير مار سابا تسمى المئذنة، وهي تلة على جانب الوادي ومقام عليها مئذنة حجرية بارتفاع مترين ونصف المتر، حيث يستقبله عدد كبير من الرهبان بزيهم التقليدي، حاملين الأجراس والقناديل التي تحتوي على البخور، ثم يسيرون في موكب من التراتيل والصلوات.

"طاح المطران وطلع غرقان"

كانت العادة، أنّه إذا أمطرت السماء في يوم احتفال المطران بعيد الميلاد في دير مار سابا، فإنه يغدق بالعطايا والأموال على رهبان الدير والحضور، وذلك تعبيرًا عن امتنانه لله تعالى على نعمة المطر، ويردد الناس والأهالي المثل القائل "طاح المطران وطلع غرقان"، أما إذا لم تُمطر في ذلك اليوم، فإن أُعطيات المطران تكون شحيحة بشح مطر ذلك اليوم، ويردد الناس المثل "طاح المطران وطلع حفيان".

وكانت خيول المطران تُستقبل في اسطبل كبير داخل الدير أو ما يعرف بـ "الياخور"، ويتم إطعامها وسقايتها، وتنظيفها والاهتمام براحتها طوال فترة الاحتفال بالعيد.

من مداخل دير مار سابا

طريق عودة ليست طريق القدوم

وفي طريق عودته إلى القدس يسلك المطران طريقًا آخر غير التي جاء منها، فعند القدوم يأتي المطران عبر الوادي "واد النار"، أمّا في العودة فيسلك طريقًا تمر من وسط بلدة العبيدية إلى منطقة واد الحمص بين العبيدية والقدس، وصولًا إلى جبل المكبر، على خيوله المزركشة برفقة مخاتير وأعيان البلدة، إلّا أن حاشية المطران كبيرة فيضطر أهل البلدة لجلب دوابهم من حمير وبغال وخيول ويحملون الرهبان ومن تبع المطران إلى القدس عند وصولهم جبل المكبر.

منه خرج التقويم المسيحي

ومنذ عقود طويلة ظل دير مار سابا محط الاهتمام، فيقول قال رئيس بلدية العبيدية سليمان العصا، لـ ألترا فلسطين إن هذا الدير يعدُّ من أقدم الأديرة في العالم، ومن أكثرها أهمية لقربه من مدينة الميلاد بيت لحم، فمنه خرج تقويم الصلاة والصيام للعالم المسيحي، ويعيش الرهبان فيه حياة بدائية حتى اليوم دون كهرباء أو أدوات اتصال حديثة.

منطقة دير مار سابا

وأكد العصا أن البلدية تعمل مع عدة جهات في السلطة الفلسطينية، وعلى رأسها وزارة السياحة والآثار ووزراة الخارجية، والحكم المحلي والتخطيط، لإدراجه على قائمة التراث العالمي في اليونيسكو، للحفاظ عليه وعلى طبيعة المنطقة الأثرية والدينية.

15 راهبًا بمهام مختلفة

ويعيش في هذا الدير حاليًا 15 راهبًا فقط، ولهم مهام مختلفة، كما يقول الأب بروذروموس لـ "ألترا فلسطين"، فمنهم من يعمل على إعداد الطعام، ومنهم من يشعل قناديل الكنيسة الداخلية ويهتم بأمر الصلوات، ومنهم من يستقبل السياح على مدخل الدير.

صورة لدير مار سابا

ويروي بروذروموس كيف تأتي المؤن إلى الدير عبر سيارة رباعية الدفع مملوكة للدير، حيث يخرجون كل أسبوع للتسوّق وشراء مؤنة الدير، من خضار وفواكه ومواد تموينية أخرى، من أسواق بيت لحم، كما يُعدّون أطباقًا يومية لرهبان الدير فقط، وليس كما درجت العادة قديمًا بإطعام عامّة الناس والزوار.
فلا يمكن لمن زار هذا الدير أن ينسى أثر تلك الزيارة في نفسه، لا بل يتعداها إلى أيام من التفكير والتأمّل في حياة هؤلاء الرهبان، الماكثون في قلب الصحراء بحثًا عن السمو الروحي.