29-أكتوبر-2022
الحمار - الحمير - غزة - فلسطين - ابو الصابر - الموروث الشعبي الفلسطيني

يقترن بزوغ الشمس الباكر في قطاع غزة جيّدًا بطقطقة حذوات الأحصنة والحمير وصرير العربات رباعية العجلات التي يقودها باعةٌ متجولون، أو حتى عمال نظافة تابعين للبلديات المحلية، ليُشكّل لوحةً شديدة الأُلفة لأهالي القطاع الذين ضاق بعضهم ذرعًا بتلك الدواب.

الحمار الذي يسمّى "أبو صابر" في الموروث الشعبي الفلسطيني نظرًا لصبره وتحمّله، قد يختفي من غزة بعد منع سلطات الاحتلال الإسرائيلي إدخاله للقطاع 

إلا أن اصطكاك تلك الحذوات المهترئة بالأسفلت المُوسّم دائمًا بروث "أبو صابر"، قد يندثر تدريجيًا ليُحقّق "أماني" من يضجرون لرؤية الحمير ذات الأظهر المُدماة، أمام سياراتهم على الطريق السريع ويُجبرون على إبطاء مركباتهم أملًا في تجاوز تلك العربات البطيئة.

أعمال شاقة تقوم بها الحمير في غزة

ومع بدء الصيف، لاحظ زبائن تجّار المواشي في غزة تراجع الخيارات أمامهم لاقتناص حمارٍ عفيٍّ بالغٍ ليكون رفيق أعمالهم؛ سواء في بيع الخضار والفاكهة أو نقل مواد البناء، أو حتى قضاء رغبة أطفال "الباشاوات" الذين قد يرغبون في تجربة اعتلاء أظهر تلك الدواب مقابل شيكلٍ واحد لدقائق، فيما لا يُلقي نظراؤهم ممن ألِفوها أكثر من أنفسهم- بالاً لهذه "الركوبة" السخيفة.

Sameh Rahmi/ Getty
Sameh Rahmi/ Getty

فلطالما تكرّر مشهد صبيةٍ في سنّ العاشرة، يقودون عربات الدواب وهم ينهالون بعصيّهم السميكة ضربًا مبرحًا على أظهر الحمير التي قد ترفض السير مليمترًا واحدًا كردة فعلٍ غاضبة، إلا أن المشاة سرعان ما يزجرونهم على فعلتهم.

Majdi Fathi/ Getty - حمار يعاند صاحبه على شاطئ غزة
Majdi Fathi/ Getty - حمار يعاند صاحبه على شاطئ غزة 

في إحدى حظائر تربية الحمير والأحصنة، التي يُديرها هاني النادي، (45 عامًا) يقول إن سلطات الاحتلال أبلغته أن تجارته في هذا القطاع الحيواني لن تستمرّ، وأنه تسلّم قبل أيام آخر 30 حمارًا ليُعيد بيعها في غزة.

وبحسب مربّي هذه الدواب، فإن الحمار الواحد كان يُباع بـ700 شيقل فقط، إلا أن قرار وقف توريدها المفاجئ من "إسرائيل" جعله يُعيد النظر في ذلك الثمن، ليصل إلى ثلاثة أضعاف تجنبًا لأي خسارة محتملة.

 Majdi Fathi/ Getty - حمير في قطاع غزة
 Majdi Fathi/ Getty - حمير في قطاع غزة

ويقول النادي لموقع "الترا فلسطين" الذي التقاه في حظيرته، إن جمعيةً إسرائيلية مختصةً بالرفق بالحيوان أكدت له أن "العنف" المُمارس على الحمير وتهريبها إلى مصر عبر الأنفاق لاستغلالها في صناعة بعض مستحضرات التجميل، هو المبرّر لوقف توريدها له.

تقرير لمؤسسة "دونكي ساكنتشري" البريطانية، يقول إن الصين متورطة في استخراج عقار "إيجاو" المعروف بـ"غراء الحمير" والمستخرج من جلود هذه الحيوانات بعد سلقها ليُعاد استخدامها في صنع منشطات الصحة والجمال من جلود 5 ملايين حمارٍ سنويًا، يُستورد نصفها من خارج الدولة الآسيويّة.

لكن صاحب الحظيرة بدا غير مقتنعٍ مطلقًا بـ"المبرّر" الذي ساقته الجمعية؛ قائلًا إن مصر لن تنتظر استيراد الحمير من غزة، باعتبار أن هذا الحيوان واسع الانتشار في المناطق الريفية في الجمهورية، في حين أن غزة كلها بحجم شارعٍ صغير فيها.

واليوم، فإن صحّ ادّعاء الجمعية الإسرائيلية؛ فإن أصوات محركات عربات "التوكتوك" العاملة على السولار ستحلّ محلّ النهيق الذي قد لا يُعاد سماعه صباح مساء، في وقتٍ كانت تلك الحمير تصطدم بالسيارات المتوقفة وتُحدث شرخًا عميقًا في أبوابها دون أن يتفوّه مالكها بكلمة لتعنّت الصبيّ الأخرق- قائد ذلك الحمار.  

مزاعم إسرائيليّة: الحمير التي تُنقل من "إسرائيل" إلى غزة، يتم تهريبها إلى مصر، لذبحها وتصدير جلودها إلى الصين لاستخدامها في مستحضرات التجميل

وزعمت قناة "كان" الإسرائيلية في تحقيق بثّته مطلع العام الجاري أنه يتم سنويًا نقل آلاف الحمير على متن شاحنات من "إسرائيل" إلى قطاع غزة، ومن هناك إلى "نهاية مأساوية وعنيفة في مصر والصين" بعد زيادة الطلب على جلود الحمير بشكل كبير في الصين خلال السنوات الأخيرة، حيث تُستخدم الجلود في صناعة مستحضرات التجميل. وتحدّث تقرير القناة العبرية عن أنّ الصين وصلت إلى الحد الأقصى من قدرتها على تربية الحمير داخل حدودها، واستجابة للطلب الكبير على جلود الحمير، بدأت استيرادها من افريقيا ومصر، والأخيرة تستورد جزءًا كبيرًا من الحمير من قطاع غزة الذي يستوردها أصلًا من "إسرائيل"، وفي مصر يتم احتجازها في ظروف قاسية، ويتم ذبحها ثم تصدير جلودها إلى الصين.

أمّا الأحصنة، فلا تُعتبر خيارًا بديلًا عن أبناء عمومتها؛ فالأولى "مزاجية وشديدة العصبية ولا تحتمل فظاظة صاحبها، عدا عن أسعارها التي تفوق أسعار الحمير". يقول عبد العزيز دُغمش، الذي يعمل على عربةٍ يجُرّها "عنتر" ذو الندوب على ظهره. 

في الوقت الذي يفتقر قطاع غزة لإحصائيّة دقيقة عن أعداد الحمير، تشير تقديرات لجمعية الحياة البرية في بيت لحم، إلى أنّ أعداد الحمير في الضفة الغربية قد لا يتجاوز 15 ألفًا 

ويستذكر مالك "عنتر" الذي يرتدي سروالًا أزرقًا من "البولستر" في قدميه الأماميتين، أن هذه الدواب كانت عونًا أيام وقف توريد الوقود سواءً من مصر أو "إسرائيل" للقطاع المحاصر، حيث امتُطيت أظهرها لأشهر بديلًا عن السيارات المتوقفة مع بدايات اشتداد الحصار في 2007، عدا عن أشهر حظر التجوّل في زمن جائحة "كورونا" قبل عامين، حين كان الحمار "ملك الشارع" بلا منازع.

في بلدة جباليا شمال غزة، يقول العديد من الشبّان الصغار العاملين في نقل الخردة وحجارة البناء، إن أحلامهم بامتلاك حمار وعربة بألف شيقل بات بعيد المنال مع نبأ ارتفاع أسعارها، في وقتٍ سمعوا آبائهم مرةً أن أحدها كان يُباع بـ500 شيقل فقط.

وعلى الرغم من ارتباط مسمّى "الحمار" بالشتم والقدح البذيء اجتماعيًا بحسب الموروث الثقافي العربي؛ إلا أن الدور الذي تقوم به الحمير لا يُمكن إنكاره في التوازن البيئي، فهي تأكل الأعشاب الضارّة، وتقلل من انتشارها، وفي بعض مزارع النخيل يتم الاستعانة بالحمير لأنها تأكل سوسة النخيل التي تفتّك بالأشجار.

ويبقى "أبو صابر"، جزءًا من موروث الفلسطينيين حتى في أمثالهم الشعبية التي عجّت بسيرته، إعجابًا مرةً وأخرى تندّرًا. نذكر منها: 

"التكرار بعلِّم الحمار"، "أبلد من الحمار"، "الحمار حمار ولو بين الخيول رِبي"، "الغزالة الشاطرة تغزل برجل حمار"، "الكلام لك يا جارة وافهمي يا حمارة"، "اللي عنده حنّة بيحني ذيل حماره"، "بقدرش على الحمار بينط على البردعة"، "حمارتك العرجة ولا حصان خالك"، "راح الحمار يطلب قرنين رجع بلا ذنين"، "ولّعت له ناري، وأكل في داري، وسرق حماري"، "ركبّناه ع الحمار مدّ ايده ع الخُرج"، "مثل حمار الحجارة، طالع محمّل نازل محمّل"، "لا تشترى حمارة وأهلها في الحارة"، "اربط الحصان عند الحمار، يا بعلِّمه الشهيق يا بعلمه النهيق"، "والله لو انّك شعير ما نهقت عليك الحمير"، "بيتعلّم البيطرة في حمير النور".

أمّا عربيًا، فتروي أسطورةٌ أن حمارًا وجحشه الشاكي من سخرية البشر من بني جنسه حين نهق فجأةً: "ألا تراهم يا أبي كلما قام أحدهم بفعل مشين يقولون له يا حمار! وكلما ارتكب أحدهم رذيلة ينعتونه بالحمار! أنحنُ حقا كذلك؟". فعاجل الحمار الأب جحشه هازًّا أذنيه ناهقًا: "يا بُنيّ! هل رأيت حمارًا يسرق مال أخيه؟ وينهب طعام أخيه الحمار؟ ويكنز الشعير وغيره جائع؟ هل رأيت حمارًا عنصريًا يعامل الآخرين من الحمير بعنصرية اللون والجنس واللغة؟ هل رأيت حمارًا يشتم أخاه الحمار أو أحد أبنائه؟ هل سمعت عن قمة حمير لا يعرفون لِم اجتمعوا؟ وهل رأيت حمارًا يضرب زوجته وأولاده؟ وهل سمعت يومًا ما أن الحمير الأمريكان يخططون لقتل الحمير العرب للحصول على شعيرهم؟ هل رأيت حمارًا عميلًا لدولة أجنبية ويتآمر ضد حمير بلده؟".

واختتم الحمار "الحكيم" ناصحًا صغيره ناهقًا: "نحن معشر الحمير نعرف من نحن، خلقنا الله لحكمة ونحن نعمل بمقتضاها، ولكنّ البشر هل يعرفون حكمة خلقهم؟ فيا جحشي حكّم عقلك الحماريّ واتركهم يقولون ما يشاؤون، فيكفينا فخرًا أننا حمير". فأعجب الجحشُ بنصائح أبيه ونهق: "نعم سأبقى كما عهدتني يا أبي وأفخر أنني حمار ابن حمار!".