21-يناير-2018

في كل جلسة تقص الحاجة جميلة زقوت "أم محمد" حكاية شقيقها محمد إبراهيم الزقوت الذي اغتاله جيش الاحتلال الإسرائيلي عام 1966 بعد أن شكل هاجساً لديهم، فقد عُرف محمد بسرعته وذكائه، واتخذ من أحراش مدينة رفح جنوب قطاع غزة نقطة لمهاجمة الجيش والالتجاء إليها بعد أن حفظ خفاياها.

ووفق الحاجّة زقوت (64 عاماً)، فقد حفر محمد خندقاً تحت أحد الأشجار، كان يستخدمه مخبئاً عن أنظار جيش الاحتلال، وغطّاه بلوح من الخشب ألصق عليه الرمال وبقايا أوراق وسيقان الشجرة. كان على زقوت التي بلغت حينها (15 عاماً) إيصال الطعام والشراب لأخيها بعد أن أعلمها كيفية التخفي قبل دخول الأحراش، وكان عليها أن تسلك في كل زيارة له طريقاً مختلفة خوفاً من وجود من يتتبع أثرها.

كانت أحراش قطاع غزة قبل النكسة ملاذاً لرجال المقاومة، ومخبئاً لسلاحهم، ونقطة انطلاق لتنفيذ عمليات ضد الاحتلال

لم تنقطع زقوت عن زيارة الشجرة حتى بعد استشهاد أخيها، فقد كانت المنطقة مكاناً للتنزه ولعب الأطفال هرباً من زحمة المخيمات، كما كانت مكاناً لصيد الطيور، لكنها حُرمت من ذلك عندما بدأت قوات الاحتلال بتجريف الأحراش وبناء الثكنات العسكرية ثم المستوطنات.

اقرأ/ي أيضاً:

بعد عام 2005 وخروج المستوطنين من قطاع غزة، حاولت زقوت أن تتعرف على مكان الشجرة عندما اصطحبها أحد أبنائها في جولة بالمستوطنات المحاذية لبحر مدينة رفح، لكن دون فائدة. تقول: "لم أستطع التعرف على المكان فقد تغير كثيراً، ولكن لن ينكر الاحتلال ما أقدم عليه المقاومين من عمليات أوجعتهم في هذا المكان".

وتمتد الأحراش من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، وتتركز في بيت حانون وخان يونس ورفح. ووفق جهاز الإحصاء المركزي فقد بلغت مساحة الأحراش في قطاع غزة 2500 دونم في عام 1927، كانت مزروعة بأشجار الأكاسيا، لكنها تقلصت إلى 2000 دونم في عام 1999.

كانت مساحة الأحراش في قطاع غزة عام 1927 تبلغ 2500 دونم، وتضم أحراشاً حرجية على أراضي من الرمال البيضاء والنظيفة

في خان يونس، كانت الأحراش تقع إلى الغرب بين آخر العمران السكاني ومنطقة المواصي، وتضم أشجاراً حرجية على أراضي من الرمال البيضاء والنظيفة، وفق ما أفادنا به كامل أبو ماضي، رئيس سلطة الأراضي في قطاع غزة، وهو من سكان خان يونس.

وأضاف أبو ماضي، أن أحراش خان يونس زُرعت إبان الحكم المصري لقطاع غزة بعد النكبة وقبل النكسة، وقد كلّفت السلطات المصرية حراساً من طرفها لملاحقة من يحاولون قطع الأشجار، باعتبار هذه الأحراش محمية طبيعية.

وامتدت هذه الأحراش من شمال معسكر خان يونس حتى دير البلح، ومن غرب المعسكر حتى البحر، ومن الجنوب حتى مدينة رفح، وكانت مكاناً مناسباً للطيور المهاجرة مطلع فصل الشتاء، لذلك كانت، وفق أبو ماضي، فرصة لهواة صيد الطيور الذين اعتادوا أن ينصبوا شباكهم فيها طيلة موسم الهجرة.

ويشير أبو ماضي إلى أن هذه الأحراش كانت أيضاً مكاناً للهو الأطفال، وتنزه الكبار، ولرعي أصحاب الماشية، ومخبئاً للفدائيين ورجال المقاومة، قبل أن يطبق الاحتلال على قطاع غزة، ويبدأ مساعيه للسيطرة عليها تحت ذريعة أنها "أراضي ملك للدولة". وأضاف، "كانت الدعاية الإسرائيلية تتحدث عن الشواطئ الذهبية في قطاع غزة، وتدعو السياح الأجانب للاستجمام فيها".

كانت الأحراش ملهى للأطفال وملعباً لهواة صيد الطيور، وبعد النكسة كانت الدعاية الإسرائيلية تتحدث عن الشواطئ الذهبية في غزة وتدعو السياح لها

ويبين أن سلطات الاحتلال طوّقت هذه الأحراش بالأسلاك الشائكة والحراسة العسكرية، ومنعت الدخول إليها، وأقامت مشاريع إسكان في أجزاء بسيطة منها، مثل حي الأمل في خان يونس، وتل السلطان في رفح، لكن المساحات الأكبر بقيت تحت أيدي المستوطنين الذين كانت تسكن أعداد قليلة منهم في مساحات شاسعة.

اقرأ/ي أيضاً:

بعد قيام السلطة الفلسطينية، نفذ جيش الاحتلال ما أسماه "إعادة الانتشار"، ونقل مواقعه من منتصف المدينة إلى الأحراش التي تشكل المستوطنات جزءاً كبيراً منها، وكانت تلة "قوز النص" في خان يونس موقعًا عسكرياً تحوّل المواطنون إلى أهداف قنص للجنود المتمركزين فيه.

ويعترف أبو ماضي بأن التعديات الزراعية والسكنية على الأحراش في قطاع غزة بلغت 10 آلاف دونم، بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي منه.

المواطن عطا أبو رزق لا يزال يذكر أياماً جميلة قضاها في الأحراش منتصف القرن المنصرم، كانت الأحراش فيها متنفساً للهو، وملاذاً أثناء حرب الأيام الستة، مضيفاً، "جاءت المستوطنات في بداية الثمانينات وحرمتنا وحرمت كل الأجيال التي لحقت بنا من التمتع بها، ومازال هذا الحرمان مستمراً على عموم سكان قطاع غزة، وبالتحديد سكان مناطق الجنوب خان يونس ورفح رغم انسحاب المستوطنات منها قبل 12 عاماً".

ويشير أبو رزق إلى توزيع جزء من هذه الأراضي على موظفي حماس بدل مخصصاتهم، ومنح جزء آخر لجمعيات ومستثمرين ومزارعين ومربي دواجن وأبقار، فيما تستثمر أذرع المقاومة جزءاً ثالثاً للتدريبات وإقامة المواقع العسكرية، ويذهب جزء رابع لمنتجع أصداء الاستثماري، وسجن أصداء أيضاً.

وزّعت حكومة حماس مساحات من الأحراش على موظفيها بدل رواتبهم التي لم تتمكن من دفعها، وحصلت جمعيات ومستثمرون على مساحات أخرى

وتابع، "لم يتم تخصيص أي جزء من هذه الأراضي للمنفعة العامة للناس، أو متنفسات حرجية تمكن العائلات المستورة من قضاء أوقاتها فيها دون تكاليف مالية".

 بينما يذكر أستاذ الإعلام عماد محسن، أن المقاومين اجتهدوا في إخفاء المواد التي يمارسون بها فعل المقاومة في منطقة الأحراش، حيث كانوا يميزون الأشجار بطريقة توحي لهم بمكان إخفاء المعدات القتالية، كما كانت في بعض الأحيان نقاط انطلاقة لهم في عملياتهم ضد أهداف الاحتلال.

وأضاف، "كما كانت الأحراش مكاناً مناسباً للمذاكرة، وتحديداً طلبة الثانوية العامة الذين كانوا يهربون إليها من زحام المخيم واكتظاظ المنازل بساكنيها، فكان الأفق الممتد وسيلة لزيادة الاستذكار والتأمل في فضاء المكان".

ويؤكد محسن، أن الأحراش كانت مكاناً يضم الرؤية الاستراتيجية لتطوير خان يونس، وكان الجميع ينتظر انسحاب إسرائيل من مستوطناتها المحيطة بالأحراش، حتى تبدأ عملية التنمية وإنشاء البنية التحتية والمرافق اللازمة لخدمة السكان، إلا أن ذلك لم يحدث، فما إن انسحب الاحتلال حتى شرعت حكومة حماس في توزيع الأراضي على الجمعيات والمؤسسات لفترات تمتد إلى عشرات السنين، ثم أجهزت على المنطقة من خلال توزيع الاراضي على الموظفين الحكوميين كبديل عن رواتبهم التي لم تتمكن من الوفاء بها.

و تبلغ مساحة الأراضي في قطاع غزه وفق سلطة الاراضي 365 ألف دونم، منها 255 ألف دونم تصنف بأنها أراضي الأهالي والأوقاف والسلطات المحلية، أي بنسبة 69,9%، فيما تبلغ مساحة الأراضي الحكومية 110 آلاف دونم بنسبة 30,1%.


اقرأ/ي أيضاً: