03-يونيو-2023
.

تقدم السلسلة الوثائقية، رواية مختلفة عن تلك السائدة عن حرب النكبة (العربي)

برز جزء أساسي من الكتابة التاريخية الفلسطينية المرتبطة بتوثيق النكبة، ضمن الجهود المتراكمة لمجابهة السردية الصهيونية السائدة، ولعل حقل التاريخ الفلسطيني نفسه، ظهر في أحد أشكاله كاستجابة مضادة للسردية الصهيونية، محاولًا بناء سرديات فلسطينية بديلة.

يخوض "أرشيف النكبة"، في جوانب غير مطروقة من ذلك الحدث المؤسس -النكبة- في التاريخ الفلسطيني، ويتناول في واحدة من حلقات السلسلة "وثائق حامية يافا 1948"

فظهرت كتابة تاريخية فلسطينية تحاول مجابهة الأسطورة الصهيونية التأسيسية عن فلسطين الخالية، وأخرى تحاول دحض بيع الفلسطيني لأرضه، وكذا عن المجازر الصهيونية التي حدثت خلال حرب النكبة، وساهمت في تهجير الفلسطينيين من أرضهم.

ومن النقطة الأخيرة، انطلقت نقاشات واسعة حول الكتابة التاريخية وأدواتها، دارت حول الرواية الشفوية الفلسطينية مقابل الوثيقة الصهيونية. فكانت الرواية الشفوية الفلسطينية الوسيلة الوحيدة أمام المؤرخ والباحث الفلسطيني في غالب الأحيان من أجل الإثبات والكشف عن المجازر الإسرائيلية خلال حرب النكبة، وهي الرواية التي عملت الوثيقة الصهيونية على إسكاتها.

في المقابل، شككت مؤسسة التاريخ الصهيونية بالذاكرة وفي استخدامها كمصدر للتأريخ، في محاولة للتشكيك بأي رواية بديلة، ولإنهاء الصوت الوحيد الذي امتلكه الفلسطيني المُهجر؛ ذاكرته. ومع مرور سنوات، ثبتت الرواية الشفوية بعد مقابلتها بالوثائق التي كشفها تيار "المؤرخين الجدد"، من الصهاينة إلى النقديين منهم.

مع ذلك، وأمام هذه المهمة الصعبة التي وجد حقل التاريخ الفلسطيني نفسه أمامها، انشغلت الذاكرة فلسطينيًا بالتأكيد على ما تم من تهجير ومجازر، وتغافلت بدون قصد عن المقاومة الطويلة على مدار أشهر القتال في النكبة، ولو أن هذا القتال فشل في منع الحركة الصهيونية من إقامة دولتها، إلّا أنّه ساهم في حفظ "بقية فلسطين ولو إلى حين".

وما سكتت عنه الذاكرة، وجد في الأرشيف المسلوب، ومن هذه النقطة انطلق برنامج "أرشيف النكبة" الذي يعرضه التلفزيون العربي، بالتزامن مع الذكرى 75 للنكبة، ويسعى لاستعادة وثائق أرشيفية، تكشف عن جوانب غير معروفة وبارزة، دارت حول النكبة وحربها.

.

يافا في مواجهة تل أبيب

يخوض "أرشيف النكبة" في جوانب غير مطروقة من ذلك الحدث المؤسس في التاريخ الفلسطيني، ويتناول في واحدة من حلقات السلسلة "وثائق حامية يافا 1948"، والتي استقبل فيها مقدم البرنامج زاهر عمرين، المؤرخ والباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بلال شلش، سعيًا لعرض نموذج المقاومة اليافية في مواجهة تل أبيب رمز المشروع الصهيوني في فلسطين، والتي تتكثف فيها كل السرديات الصهيونية.

تبحث الحلقة مع صاحب كتاب "يافا.. دم على حجر: حامية يافا وفعلها العسكري :دراسة ووثائق"، في مقاومة يافا الطويلة أمام تل أبيب، في محاولة لتجاوز التصور السائد، الذي يكتفي في عرض لحظة التهجير، في محاولة لتكثيف حدث النكبة الفلسطينية، حيث يسعى شلش إلى عرض المقاومة الفلسطينية، والأشهر التي سبقت التهجير، وذلك لإبراز صمود أهل البلاد ومقاومتهم لسلب بلادهم، فيما تظهر مقاومة يافا كنموذج لأشهر لحظات الصمود في عموم فلسطين، وأن حرب النكبة لم تكن مجرد عصابات صهيونية تنتقل من منطقة إلى أخرى، لتنفيذ مهام الطرد المحددة بشكلٍ سلس.

وتأتي وثائق حامية يافا ضمن وثائقي التلفزيون العربي من أجل تقديم حكاية جديدة للتاريخ، تثبت من خلال الوثائق والأرشيفات، التهجير والمقاومة، وتحكي حكاية أشهر من فاعلية الفلسطيني، الذي رفض المشروع الصهيوني وقرار التقسيم. واعتمادًا على وثائق حامية يافا، يقدم شلش سردية المقاتل الفلسطيني، بعد إسكات صوته لسنوات على وقع الهزيمة، وسلب يافا ووثائق حاميتها، التي خرجت من "فم" أرشيف الدولة في عام 2016، وهذا يقدم شلش حكايته الشخصية مع الأرشيف، وطريقه للحصول على الوثائق.

تتحدى الرواية التي يقدمها "أرشيف النكبة" السرديات السائدة حول غياب التنظيم والإعداد لدى المجموعات الفلسطينية التي حاربت خلال حرب النكبة، والتي أدركت الخطر الصهيوني مبكرًا، ولم تنتظره حتى يبدأ الحرب، وذلك من خلال الاعتماد على توثيقات طه الهاشمي في يومياته المخطوطة، ووثائق جيش حماة الأقصى، ونشاط القيادي الفلسطيني عبد القادر الحسيني بحثًا عن السلاح، وغيرها من الوثائق الفلسطينية والعربية، التي تكشف عن أشهر القتال في يافا.

وكانت الحركة الصهيونية تنظر إلى يافا باعتبارها "السكين في خاصرة تل أبيب أو المشروع الصهيوني" لموقعها الاستراتيجي وقيمتها، وعلى هذا الأساس حشدت 5000 مقاتل مقابل 1000 في حامية يافا، من أجل هزيمة المدينة، على مدار 5 أشهر، من كانون الأول/ ديسمبر 1947 وحتى مطلع أيار/ مايو 1948، وهو هدف لم تتمكن منه الحركة الصهيونية، في ساحة المعركة.

وفي مواجهة تل أبيب، تحولت حامية يافا إلى قوة عسكرية منظمة، تنصب الاستحكامات، وتبدأ حرب القنص عليها، التي منعت التجول في شوارع عاصمة المشروع الصهيوني.

حكايات يافا: مدفع يافا وقتال اليوغسلاف

ومن التفاصيل الهامة التي يتطرق لها "أرشيف النكبة"، هي حكايا الجنود الأذريين والأتراك واليوغلاسف، الذين حضروا كلهم إلى يافا من أجل المساهمة في حاميتها، ضمن دوافع متباينة، والذين قاتلوا ضمن الاستحكامات المركزية بالقرب من مسجد حسن بيك في يافا، وهو الاستحكام الذي أصبح معزولًا بعد احتلال منشية يافا، وفي حينها فضل "جزء من الجنود اليوغسلاف الموت الجماعي بالانتحار" رفضًا للاستسلام.

أمّا من الحكايات اللافتة، التي تقدمها الحلقة، فهي صناعة مدفع يافا، وهي ضمن محاولات يافا لتعزيز تسليحها ومواجهة تل أبيب، في ظل عدم القدرة على توفير مصادر تسليح خارجية. والسردية التي قدمها الوثائقي، تفتح الفرصة أمام فهم جديد للحرب، باعتبارها حرب نقاط ومعارك، ورغم الهزيمة إلّا أنّ حامية يافا تمكنت من استرجاع تل الريش بعد احتلاله خلال يوم واحد، وتمكنت من إفشال الهجوم بشكلٍ كامل، على سبيل المثال.

ومن الجوانب الهامة الأخرى التي يقدمها الوثائقي، هي إعادة إنصاف القوة العربية، التي شاركت في القتال بشكلٍ فاعل، وأبرزها مساهمة آمر حامية يافا العراقي عادل نجم الدين في إعادة تنظيم الحامية، وإعدادها من أجل مواجهة تل أبيب.

.

ترتيب الهزيمة

الطرح الهام الذي يقدمه "أرشيف النكبة" هو إعادة ترتيب الهزيمة، مقدمًا عدة أسباب تحاول فهمها، رافضًا التعامل معها كهزيمة حتمية، والتعامل مع معارك النكبة الطويلة باعتبارها مسارًا واضحًا باتجاه "انتصار" المشروع الصهيوني.

ومن خلال تجربة يافا، والتي يمكن تعميمها، يضع شلش عدة أسباب لسقوط يافا وتفكك الحامية، وهي هجرة أهالي يافا ومرافقة عناصر الحامية لعائلاتهم، نتيجة القصف المدفعي الصهيوني الكثيف والعشوائي على أحياء المدينة. بالإضافة إلى حصار يافا واستبدال آمر الحامية عادل نجم الدين، من قبل فوزي القاوقجي مما سرع في انهيارها، عطفًا على الاعتماد على الاستراتيجية الدفاعية من قبل اللجنة العسكرية العليا.

ورغم الهزيمة التي لم تكن حتمية وجاءت نتيجة عدة عوامل، يجزم شلش بأن صمود يافا كان حاسمًا في مسار المعارك الأخرى داخل فلسطين، بالقول: "يافا لم تقاتل دفاعًا عن نفسها فقط، بل قاتلت كجزء من معركة شاملة كانت تجري في كل فلسطين، وحشد الطاقة الصهيونية الذي حجز في يافا، كان يمكن أن ينتقل للقدس ويساهم بالقتال فيها.. عندما صمدت يافا وقاتلت خلال شهور الاشتباك، من أبناء المدينة والعرب وغيرهم، كل هذا القتال والجهد المبذول ساهم في حماية مواقع أخرى في فلسطين.. تأخر سقوط يافا، أثمر حفظًا لبعض بقية فلسطين، لغاية 1967".

تأتي وثائق حامية يافا، ضمن وثائقي التلفزيون العربي، من أجل تقديم حكاية جديدة للتاريخ، تثبت من خلال الوثائق والأرشيفات، التهجير والمقاومة، وتحكي حكاية أشهر من فاعلية الفلسطيني، الذي رفض المشروع الصهيوني وقرار التقسيم

انتصرت الرواية الشفوية للفلسطيني، وكشفت عما تعرض له من مجازر وتهجير خلال النكبة، لكن للفلسطيني صوت في الوثائق أيضًا. هذا ما يبرزه وثائقي "أرشيف النكبة"، مسلطًا الضوء على سردية غير رائجة في الأدبيات الفلسطينية، تدور حول فاعلية الفلسطيني ومقاومته، مستندًا هذه المرة إلى وثائق دونت على تخوم الاستحكامات في يافا. وحيث يختتم الوثائقي هذه الرواية بصوت المقاتل حسين أبو حلمي، الذي وقع في حصار تل الريش وصمد فيه حتى تحريره المؤقت، فإنه يقدم سردية أكثر شمولًا تمزج بين المكتوب والشفوي.