تواجه إسرائيل أزمة حادّة في قطاع التكنولوجيا الفائقة (الهايتك)، وهي أزمة تتجاوز الأبعاد الاقتصاديّة لتشمل الجوانب الاجتماعيّة والمكانة العالميّة لإسرائيل. هذه الأزمة، الّتي تفاقمت بعد عمليّة السابع من تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، ليست مجرّد تحدّ اقتصاديّ، بل هي معركة تؤثّر في نسيج المجتمع ومستقبله. وتتوسّع الأزمة عبر عدّة جبهات حاسمة تشمل الاقتصاد، التماسك الاجتماعيّ، ومكانة إسرائيل كرائدة عالميّة في مجال التكنولوجيا.
استعرضت لجنة العلوم والتكنولوجيا في الكنيست الإسرائيليّ، معطيات من مركز الأبحاث والمعلومات، الّتي أظهرت انخفاضًا بنسبة 56% في الاستثمارات بقطاع التكنولوجيا المتقدّمة في إسرائيل خلال عام 2023
الجبهة الاقتصاديّة
على المستوى الاقتصاديّ، تمثّل أزمة الهايتك تهديدًا وجوديًّا لركيزة الاقتصاد الإسرائيليّ، حيث يشكّل قطاع التكنولوجيا الفائقة العمود الفقريّ للاقتصاد. هذا القطاع يساهم بشكل كبير في الناتج المحلّيّ الإجماليّ والصادرات، ويوفّر فرص عمل للآلاف من الإسرائيليّين.
الأزمة الحاليّة، الّتي تفاقمت بفعل التغيّرات في الأسواق العالميّة والتوتّرات الجيوسياسيّة، تهدّد بتقويض هذا القطاع الحيويّ. وكان للحرب آثار فوريّة على سوق العمل، حيث أدّى استدعاء العاملين للخدمة العسكريّة الاحتياطيّة إلى تعطيل العمل في الشركات التكنولوجيّة الكبرى والصغرى على حدّ سواء. ومع مرور الوقت، أصبح غياب الأشخاص في المناصب الإداريّة ملموسًا، ممّا زاد من صعوبة أداء فرق العمل لمهامّها، حتّى عندما لا يكونون يعملون في إسرائيل.
واستمرار القتال يضع الشركات التكنولوجيّة الإسرائيليّة أمام معضلة حقيقيّة: هل يجب على الزبائن الأجانب توقيع عقود طويلة الأمد مع الشركات الإسرائيليّة أم يفضّلون المنافسين في دول أخرى؟ الزبائن الّذين يختارون التكنولوجيا العالية الإسرائيليّة يرغبون في التأكّد من وجود خطط لاستمراريّة الأعمال في حال توسّع نطاق الحرب أو حدوث انقطاع طويل للتيّار الكهربائيّ. ولهذا السبب، بدأت بعض الشركات التكنولوجيّة الإسرائيليّة في نقل المناصب الإداريّة إلى الخارج لضمان استمرار العمليّات بسلاسة حتّى في ظلّ الظروف الصعبة.
وفي تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، واجه قطاع الهايتك في إسرائيل صعوبات كبيرة نتيجة للحرب، حيث تمّ إلغاء 2,100 وظيفة خلال هذا الشهر وحده. وأظهرت جلسة لجنة العلوم والتكنولوجيا أنّ الحرب أثّرت بشكل كبير على شركات التكنولوجيا المتطوّرة، حيث تعاني هذه الشركات من صعوبة في توظيف عمّال جدد وتراجع كبير في جمع الأموال. وقد أعرب مدراء العديد من الشركات عن مخاوفهم من التأثيرات الطويلة الأمد لهذه الحرب على قطاع الهايتك، ممّا قد يؤدّي إلى ضرر كبير بالاقتصاد الإسرائيليّ.
ووفقًا لبيانات App Great، الشركة الّتي تقدّم خدمات التعاقد الخارجيّ للشركات التكنولوجيّة في أوروبا الشرقيّة، فإنّ الطلبات على توظيف المناصب الّتي تتعامل مباشرة مع العملاء، مثل مدراء المنتجات، ودعم العملاء، ومدراء المشاريع، ارتفعت بمقدار خمس مرّات منذ بداية الحرب. وفي المهن التكنولوجيّة، هناك زيادة بمقدار ثلاث مرّات في الطلب على مهندسي الحلول في الخارج، بينما هناك زيادة بنسبة 70% في الطلب على موظّفي التطوير. هذه الزيادة تعكس حاجة الشركات إلى بناء فرق عمل "مستقلّة" قادرة على العمل بكفاءة حتّى في غياب المدراء بسبب الظروف الأمنيّة.
واستعرضت لجنة العلوم والتكنولوجيا في الكنيست الإسرائيليّ، معطيات من مركز الأبحاث والمعلومات، الّتي أظهرت انخفاضًا بنسبة 56% في الاستثمارات بقطاع التكنولوجيا المتقدّمة في إسرائيل خلال عام 2023، لتصل إلى 6.9 مليار دولار فقط. كما سجّل الربع الرابع من 2023 تراجعًا حادًّا في جمع الأموال إلى 1.4 مليار دولار، ممّا يعيد القطاع إلى مستوياته في الربع الأوّل من 2019.
وأكّد الباحث آساف باتير من معهد سياسات الأمّة الناشئة (SNPI)، أنّ إجماليّ الاستثمارات في قطاع الهايتك لعام 2023 بلغ 7.3 مليار دولار، وهو أدنى مستوى منذ عام 2018، مشيرًا إلى أنّ هذا الانخفاض في إسرائيل كان ضعف ما سجّل في الولايات المتّحدة. هذه المعطيات تشير بوضوح إلى التأثيرات الاقتصاديّة العميقة الّتي تفرضها الحرب على هذا القطاع الحيويّ.
الجبهة الاجتماعيّة
على الجبهة الاجتماعيّة، الأزمة في قطاع التكنولوجيا الفائقة ليست مجرّد أزمة اقتصاديّة؛ إنّها أيضًا معركة اجتماعيّة تمسّ قلب الهويّة العامّة لإسرائيل. هذا القطاع كان مصدر فخر للإسرائيليّين، ورمزًا للعبقريّة والمثابرة. ومع تراجع هذا القطاع، تزداد مخاطر زيادة البطالة والاضطرابات الاجتماعيّة، ممّا قد يؤدّي إلى اتّساع الفجوة بين شرائح المجتمع المختلفة. وقد يجد مجتمع التكنولوجيا الفائقة، الّذي كان يومًا قوّة موحّدة، نفسه منقسمًا حول أفضل طريق للمضيّ قدمًا على الصعيد السياسيّ والعسكريّ والاقتصاديّ، ممّا يزيد من التوتّرات الاجتماعيّة القائمة.
غياب المدراء الّذين استدعوا إلى الخدمة العسكريّة الاحتياطيّة للمشاركة في الحرب في غزّة أدّى إلى صعوبات كبيرة في أداء الفرق التكنولوجيّة لمهامّها. ولهذا السبب، بدأت الشركات في بناء فرق "مستقلّة" لا تعتمد بشكل كبير على وجود المدراء في إسرائيل. هذا الاتّجاه يعكس القلق الاجتماعيّ العميق والتوتّرات الّتي يواجهها قطاع التكنولوجيا الفائقة في هذه الفترة الصعبة.
من جانب آخر، يشير رامي ناحوم، أحد مؤسّسي App Great، إلى أنّ رومانيا أصبحت المستفيد الرئيسيّ من زيادة الطلب على المديرين المحلّيّين في الخارج. ويقول: "الرومانيّون منفتحون جدًّا على المناصب الإداريّة بشكل لافت مقارنة بدول شرق أوروبا الأخرى، ومن الأسهل توظيف قادة الفرق هناك". وبعد الحرب، قرّرت شركته تعيين مدير موارد بشريّة محلّيّ في رومانيا ليكون جسرًا ثقافيًّا بين الفرق؛ لأنّ الإسرائيليّين لا يعرفون دائمًا الديناميّات المحلّيّة. هذا يوضّح كيف أنّ التحدّيات الاجتماعيّة تمتدّ إلى ما هو أبعد من حدود إسرائيل، حيث تتطلّب هذه الأزمة حلولًا إبداعيّة للتغلّب على الفجوات الثقافيّة والاجتماعيّة.
الجبهة العالميّة
أمّا على الساحة الدوليّة، فالأزمة تهدّد بتآكل مكانة إسرائيل كـ "أمّة الشركات الناشئة"، الّتي كانت منارة للابتكار والإبداع، فاستمرار الحرب يضع الشركات التكنولوجيّة الإسرائيليّة في مواجهة معضلة أمام عملائها الأجانب، الّذين يفضّلون الشركات القادرة على ضمان الاستمراريّة في سير الأعمال دون التأثّر بالأوضاع الأمنيّة والسياسيّة. وهذا يدفع الشركات الإسرائيليّة إلى بناء فرق "مستقلّة" بالخارج قادرة على العمل بكفاءة حتّى في غياب المدراء.
كما نقل عن ناحوم أعلاه، بأنّ شركته قرّرت توظيف مدير موارد بشريّة محلّيّ في رومانيا ليكون جسرًا ثقافيًّا بين الطواقم. فإنّ هذا القرار يعكس الحاجة إلى التعامل مع الديناميّات الثقافيّة المختلفة لضمان استمراريّة الأعمال وتحقيق النجاح على الصعيد الدوليّ.
من ناحية أخرى، تضيف أهوي ماراد، أنّ المدير التنفيذيّ لشركتها قد خطّط بالفعل للانتقال إلى نيويورك بغضّ النظر عن عواقب الحرب، كجزء من استراتيجيّة نموّ الشركة المستمرّ. ومع ذلك، لا شكّ في أنّ الانتقال إلى تعزيز طبقة الإدارة العليا في الخارج له تأثير إيجابيّ في هذا الصدد أيضًا.
عمليّة 7 تشرين الأوّل/أكتوبر، زجت قطاع الهايتك الإسرائيليّ في معركة متعدّدة الجوانب ومفتوحة على الاحتمالات كلّها. وأزمة التكنولوجيا الفائقة في إسرائيل ليست مجرّد تراجع اقتصاديّ؛ إنّها حرب متعدّدة الأبعاد تؤثّر بعمق على الاقتصاد الإسرائيليّ، والمجتمع، والمكانة العالميّة.
أمّا كيفيّة تعامل إسرائيل مع هذه الأزمة، سيحدّد ليس مستقبل قطاع التكنولوجيا الفائقة فقط، بل أيضًا دورها الأوسع على الساحة العالميّة. هذه الأزمة تفرض على الحكومة الإسرائيليّة اتّخاذ خطوات جذريّة لضمان بقاء هذا القطاع الحيويّ وللحفاظ على مكانتها كقوّة تكنولوجيّة عالميّة، ولكنّ تركيبتها الحاليّة المتطرّفة دينيًّا وقوميًّا تعيق اتّخاذ مثل هذه الخطوات، فالمتطرّفين دينيًّا يرفضون تقاسم عبء الخدمة العسكريّة مع العلمانيّين، والمتطرّفين قوميًّا يرفضون وضع الحدّ للتصعيد العسكريّ الّذي يتطلّب استدعاء أعداد كبيرة من العاملين في شركات الهايتك للمشاركة في الحروب.