02-نوفمبر-2016

يتوخى هذا المقال الكشف عن أسطورة "المشروع الوطني الجامع"، وعن جملة الكلام السياسي بخصوص إعادة بناء البيت الفلسطيني ووحدة التمثيل الذي يطلق بإيجاز وبصورة عامة دون أن يكلف أحدهم نفسه عناء التفحص النقدي لهذا الطرح.    

سيكون انطلاقي من تحوير سؤال "غاياتري سبيفاك" عندما طرحت ذات مرة ما إذا كان يستطيع التابع أن يتكلم ليصبح السؤال في السياق الاستعماري الفلسطيني عن تحديد منْ هو التابع أصلًا.

تنهض الفكرة هنا على مقولة سالبة ترى أنه ليس هناك ارتباط منطقي بين الاستعمار وافتراض وحدة معاناة المستعمَرين. وبالتالي فإن افتراض وحدة قوى المجتمع المستعمَر في مواجهة القوى الاستعمارية هو افتراض خاطئ. وعليه فإن علاقات الإنتاج الاجتماعي في مجتمع التابعين (المستعمَرين) تتضمن قيودًا تعيق الفوران الثوري وزخم الصراع التناحري. فهناك من بين المستعمَرين من لا يتوانى عن العمل ضمن مشروع سياسي يعيد ترسيخ الشروط الملائمة لإعادة إنتاج التراكم أو التوسع الاستعماري في نهاية الأمر. فضلًا عن وجود قوى اجتماعية في مجتمع المستعمَرين خارج مقولة التابع.  

(1)   

بات الحديث عن مشروع وطني فلسطيني جامع، وإعادة بناء الذات الفلسطينية، والكيان التمثيلي القادر على تمثيل كافة الفلسطينيين في أماكن تواجدهم، الادعاءات المركزية التي يطرحها فلسطينيون للخروج من "الأزمة" دون الاكتراث للسياق الذي تدور في فكله مقولة "الأزمة" لتحديد ماهيتها وطبيعتها وأطرافها والمسؤولية التاريخية عنها: أزمة منْ ولما وماذا ومتى وأين وكيف؟  

وذلك في إطار ما اصطلح عليه البعض بـ"استعادة الشرط الكولونيالي" وتبني "الصراع التناحري" مع الاستعمار الاستيطاني الإحلالي. فأصبح هذا الطرح الشرط الذي يعلَّق عليه إعادة بناء البيت الفلسطيني وترميم وحدة تمثيلهم.

والافتراض هنا أن تلك الادعاءات التي يمكن اختزالها في مقولة "المشروع الوطني الجامع" ليست هي الادعاءات المركزية بقدر ما هي تابعة لادعاءٍ أكثر منها مركزية. فمن غير الممكن الوصول إلى هذا المشروع الوطني الجامع المتبني الصراع التناحري بدون الإجابة على سؤال مركزي آخر لا أحد يطرحه: من هو  الفلسطيني التابع؟ ومن هو الفلسطيني المستعمَر" ومن هو الفلسطيني المضطهَد؟ ومن هو الفلسطيني المتضرر من الاستعمار الصهيوني؟

ليس هناك ارتباط منطقي بين الاستعمار ووحدة اضطهاد ومعاناة المستعمَرين، والقول إن كل الفلسطينيين يعيشون ذات المعاناة فكرة غير دقيقة

فليس هناك ارتباط منطقي بين الاستعمار ووحدة اضطهاد ومعاناة المستعمَرين كما أسلفت. والقول إن كل الفلسطينيين يعيشون المعاناة نفسها هي فكرة غير دقيقة. وساستطرد ببعض المظاهر التي قد تبدو بسيطة من حيث الشكل لكنها تعكس بنية علاقات الانتاج الاجتماعي في السياق الاستعماري.

 فثمة  عديد من المظاهر يعيشها الفلسطينيون يوميًا تكشف عن فوارق العيش ومستوى الاضطهاد وكثافته، نعدد منها على سبيل المثال:  

هناك من الفلسطينيين من تُفتح أمامهم المعابر للسفر دون غيرهم حتى لو وصل، وهو ما وصل فعلًا إلى حد الموت (كم من مريضٍ توفي بسبب استمرار اغلاق المعابر؟!!). ولن ننسى كيف أن المعابر فُتحت في أثناء الحرب الأخيرة (2014) لتسيير عملية التفاوض على تسوية تبينت أنها أوهام باعتها لنا إسرائيل بتواطؤ من النظام المصري.

اقرأ/ي أيضا: عزمي بشارة: المدينة الغائبة

وهناك فلسطيني حين يسعل( مجرد سعلة) يحول للعلاج في الخارج، بينما ألوف من المرضى ينتظرون حتفهم في مستشفيات غزة البائسة. وهناك فلسطينيون من أصحاب القصور وهناك ممن يعيشون في الاكواخ، وهناك من يقبع في القمة وأغلبية في القاع.

وهناك فلسطيني لا تقطع عنه الكهرباء لأكثر من 15 ساعة في اليوم. هناك فلسطيني يعيش حياته هانئًا مستقرًا وتتسم بالهدوء وطيلة البال، مقابل من يعيش التهجير واللجوء والظلم اليومي. وهناك فلسطيني تُؤمَّن له وظيفة مسبقًا قبل الشهادة الجامعية، مقابل من يحمل شهادات عليا ولا يجد له عملًا (وإن وجد فبعد طلوع الروح). هناك فلسطيني لديه أرصدة في البنوك، وآخر لا يتحصل قوت يومه. هناك فلسطيني يحمل أكثر من جواز سفر يتنقل بسهولة وبكل أريحية ويقطن أينما يريد. بينما هناك فلسطيني قضى عمرة في أقل من 365 كيلو متر مربع. هناك فلسطيني يعيش حروب الاستعمار الصهيوني دومًا بينما آخر لم يختبر  تجربة الحرب ولم يتذوق ألم فراق الأب والأم، الأخ والأخت، والزوج والزوجة.  

 وهناك فلسطيني دائم التواصل مع "القيادة الإسرائيلية" تسهل له الأخيرة الخروج والدخول متى شاء. وفلسطيني يعيش المعاناة اليومية من جراء النظام الاستعماري، وآخر  يعمل على محاباته.

هناك فلسطيني يرى إسرائيل شريكًا وجارًا، وآخر يراها استعمارًا من غير الممكن مصالحته. وهناك فلسطيني يريد تفكيك النظام الاستعماري وآخر يطمح إلى احتلال موقع فيه ولا يسعى إلى  التأطير  الانعتاقي منه.

هناك فلسطيني "إسرائيل" بالنسبة له مشروع تجاري يستثمر فيه. فهناك طبقة تعمل على توليد مشروع سياسي تستعيد فيه سلطة النخب الاقتصادية وحين تتعارض المبادئ السياسية التحررية مع الحاجة إلى استرجاع أو توطيد وإدامة سلطة النخب، فإنه يتم التخلي عن تلك المبادئ.

وهناك فلسطيني يسعى إلى قطع ديمومة الاشتباك بيت المستعمَر والمستعمَر الصهيوني، بل ويستثمر في الصراع من أجل توطيد سلطته التابعة والوظيفية. أولئك الذين يعتبرون أن الصراع من أجل التحريك السياسي والاستثمار في تحقيق ما هو عملي وآني وسريع. ويبحثون عن صراع عرضي وصدام مؤقت ومحدود، ويبذلون ما في وسعهم للحيلولة دون الفوران الثوري والنضال الطويل الأمد. ليس النضال عندهم سوى مجرد ظاهرة منعزلة تختزل الصراع في مناطق جغرافية محدودة تلك المساحة التي يوفرها لهم المستعمِر يتلهون فيها ليتمكن من إعادة إنتاج العلاقات الاستعمارية.

وهناك فلسطيني يجوب الأرض بحثًا عن مكان، وآخر يريد مشروعًا في الضفة وغزة أو وقد يقبل في أحداهما دون الأخرى.

(2)

 ما الذي يجمع كل هؤلاء في مشروع وطني جامع؟ ما يجعل من مقولة المشروع الوطني الجامع هي أقرب للسراب، ومن اشتراط وجود كيان تمثيلي لكافة الفلسطينيين وهم. لأنه من غير الممكن لأولئك كافة أن يتبنوا السياسة نفسها من "إسرائيل"، ولا يمكن أن يتبنوا الصراع التناحري الذي يطالبه أصحاب المشروع الوطني الجامع كشرط للوصول لهذا المشروع. فبعض الفلسطينيين "إسرائيل" أقرب لهم من الفلسطيني الآخر.  

فالتموضع الاستراتيجي للفلسطينيين ليس واحدًا، ما يلقي بظلال سلبية على فكرة الكيان التمثيلي الجامع. ويحضر هنا المفكر الفلسطيني اسماعيل ناشف الذي قسم تموضعات الفلسطينيين في ثلاثة مستويات: عليا، وسطى، وقاع. فالطبقة العليا مهادنة ومتواطئة، والوسطى بلا موقف ومترددة وانتهازية وغالبا ما كان منها العملاء الأمنيين، ويبقى القاع لمن له مصلحة في الصراع مع الاستعمار ومن هذا المستوى يخرج الفدائي والمناضل والاستشهادي.

(3)

 إن مقولة المشروع الوطني الجامع والكيان التمثيلي استيهامات ونستولوجيا متوهمة ماضي الحركة الوطنية حين كانت متوحدة على مفهوم العدو ومشتبكة معه. والسبب في ذلك هو أننا قرأنا تاريخنا الوطني قراءة إلى حد ما خاطئة عندما اسقطنا عليه رغباتنا الحاضرة. إذ لم يكن هناك مشروع وطني فلسطيني جامع يحتضنه ويعبر عنه كيان تمثيلي جامع.  

مقولة المشروع الوطني الجامع والكيان التمثيلي استيهامات ونستولوجيا متوهمة ماضي الحركة الوطنية حين كانت متوحدة على مفهوم العدو

فلم تكن منظمة التحرير هي الكيان الجامع وإن بدت كذلك. وهذا لا ينتقص من تاريخنا الوطني أبدًا. فالحقيقة التاريخية هي أن حركة فتح هي التي شكلت مخيالنا السياسي وهي من قادت الصراع التناحري مع الاستعمار ومن خلفها الفصائل المسلحة كافة، وهي من هيمنت على منظمة التحرير من أجل هزيمة هذا المشروع الكولونيالي. وهي من جعلت المنظمة تنطق بصوتها الذي هو في نفس الوقت صوت كل الفلسطينيين. فتح هي من كانت الطرف المركزي في الكفاح المسلح، والعمود الفقري للثورة الفلسطينية، والمهيمنة على الحقل السياسي. وما تصورناه اجماعًا وطنيًا هو إرادة فتح معممة وقد التقت مع إرادة فصائل العمل الوطني والفلسطينيين كافة. وخير من جسد هذا الفهم ذلك الشعار الفتحاوي: يولد الفلسطيني فتحاويًا بالفطر. والمعنى يكون الفلسطيني ثائرًا مقاومًا دومًا.

لكن بعد أن حادت فتح عن جادة الصواب عندما اختطفت المنظمة لمشاريع الهزيمة ( ولا أقول التسوية، فلا فرق هاهنا بين الهزيمة والتسوية) تآكل عمود الخيمة، دون أن يكون هناك عمود خيمة آخر يسندها. ومن هنا النتيجة التي لا يريد البعض الاعتراف بها أو لا يريد أن يتوصل إليها: إن على الفلسطينيين أن يفكروا في أنماط تنظيمية مغايرة أكثر مرونة وهلامية لكي يسيّرون صراعهم تقطع مع الشكل السابق: مركز متحكم في كل مفاصل الحركة، وأطراف تدور حوله. وهو الذي ترتب عليه الانفراد بالسياسة وبخيارات الفلسطينيين إلى درجة التوحد وشخصنة القرار والوصول إلى مجتمع يتحكم فيه فصيل، وفرد يتحكم بالفصيل. وهذا موضوع آخر.       

اقرأ/ي أيضا:

مكتبات مثقفي نابلس.. سيرة ضياع وتفريط 

الضفة الغربية: زراعة الدخان "عادي" وتجارته ممنوعة