20-مارس-2019

صورة توضيحية - gettyimages

لم تحظ الأسيرة المحررة فيروز عرفة من قبلُ بفرصةٍ للحديث عن الأمراض التي تلازمها حتى الآن بسبب التعذيب الذي تعرضت له في سجون الاحتلال الإسرائيلي خلال اعتقالها في بداية السبعينات من القرن الماضي، إذ أصيبت بقرحةٍ في المعدة وضعفٍ في السمع بالأذن اليسرى، وضعفٍ في الإبصار بالعين اليمنى، وكسرٍ في عظام الصدر، ثم أصيبت لاحقًا بالسرطان وقضت سنواتٍ في العلاج منه.

إلا أن ما يؤلم السيدة التي أفنت شبابها في النضال هو "عدم اكتراث أي جهةٍ فلسطينيةٍ بالمناضلات اللواتي قضين زهرة شبابهن في العمل الوطني. نحن النساء بلغنا الآن الستين من العمر، وكل واحدة منا بحاجة إلى رعاية لا تتحصّل عليها، نريد أن نحفظ كرامتنا في الكبر" كما تقول.

"كأنّما عفا علينا الزمن"

عملت فيروز أواخر الستينيات وبداية السبعينات تحت قيادة محمد الأسود "جيفارا غزة"، حتى اعتقالها عام 1971 حين كشف الاحتلال الإسرائيلي الخلية كلها، فتعرّضت للتعذيب الذي بسببه عانت من وضعها الصحي.

أسيرات سابقات قاتلن في الثورة الفلسطينية يُعاملن الآن بطريقة "لا تحفظ كرامتهن"

تقول: "ضربني جنرال إسرائيلي بقدمه بقوة في صدري فانكسر الضلع، بعد الإفراج عني واصلت النضال كما غيري من المناضلات، ولكن مع قدوم السلطة لم ينتبه إلينا أحد واستمرت معاناتنا حتى الآن".

اقرأ/ي أيضًا: الاعتقال المتكرر للفلسطينيات.. كم سطرًا بلغنا من الحكاية؟

فيروز واحدة من بين أكثر من 70 أسيرة محررة وسابقة خُضن الثورة الفلسطينية منذ بداياتها، وناضلن في مرحلة كانت النساء يدفعن الثمن من أعمارهن، إضافة لحرمانهن من فرص العمل والتعليم.

تقول: "عاملونا كأننا عفا علينا الزمن، وضع المناضلات سيء، أذهب لمقابلة المسؤولين من أجل زميلاتي اللواتي عزّ عليّ حالهن"، وتكمل أن بعض المؤسسات تقدم للفدائيات مساعداتٍ بطريقةٍ "لا تحفظ كرامتهن"، بمنحهن بطانية أو "كوبونًا" أو كيسًا من اللحم، ويلتقطون لهن الصور أثناء الاستلام، "فهل هكذا تُكرّم المناضلات؟ بعد أن كنا نحمل بندقية وقنبلة ميلز نحمل كيسًا من اللحم" أضافت فيروز.

عام 2008 أسست عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية مريم أبو دقة، جمعية الدراسات النسوية الفلسطينية للتنمية، كأول جمعيةٍ تهتم بالأسيرات السابقات، وخاصة "الفدائيات القدامى". وباعتبار أبو دقة أسيرة محررة فقد سعت للبحث عن زميلاتها في النضال للمطالبة بحقوقهن جماعيًا.

عقوبات مضاعفة

في مقر الجمعية تجلس الأسيرة المحررة نهلة البايض أول أسيرة في قطاع غزة عام 1971 إلى جوار رفيقتيها في النضال والاعتقال صبحة الجمل وفيروز عرفة. حالةٌ من الضحك الشديد انتابتهن عندما عُدن بالذاكرة إلى الوراء وتبادلن الحديث حول السجّانة "تِكفا" التي اعتدن العراك معها حين كُنَّ أسيرات، فهي لا تريد أي صوت وهن يردن مواصلة التحدّث سويًا وكان هذا يستفزها.

كل موجة الضحك لم تمحُ آثار حزنٍ كست وجوههن التي طغت عليها علامات التقدّم في السن، تقول البايض بينما تتذكر تلك المرحلة: "رحم الله الشهيدين عبد القادر أبو الفحم ومحمد الأسود، أفخر بأني عملت لسنوات طويلة تحت قيادتهما".

وتروي البايض كيف انضمت للثورة الفلسطينية عام 1968 حين كانت في السابعة عشر من عمرها، إذ كان والدها حافظ البايض يأوي في منزلهم المناضل حسين الخطيب وخليته، فطلبت منهم التطوّع في الثورة، ولم يكن هذا الطرح سابقة بالنسبة لها، فقد كانت تنشط برفقة معلماتٍ من مدرسة الزهراء في كتابة المنشورات الوطنية سرًا ونسخها بالكربون وتوزيعها في الصباح ولصقها على الجدران بواسطة عجينٍ من الطحين والماء.

"كانوا يستغربون صمودنا تحت كل هذا العذاب وما يعلمون أن نار الثورة أكبر من كل ما يفعلون"

انضمت البايض لاحقًا إلى خليةٍ يرأسها عبد القادر أبو الفحم، وكان اعتقالها الأول لمدة تزيد عن ستة أشهر، قبل أن يفرج عنها ويستشهد أبو الفحم داخل سجون الاحتلال، ثم تلتحق بالعمل مع القائد محمد الأسود ليكون اعتقالها الثاني عقب استشهاده مباشرة، والإفراج عنها بعد عام وإجبارها على موعد محدد للزواج من ابن عمها الذي خطبها قبل الاعتقال.

اقرأ/ي أيضًا: مطاردون سابقون يحكون عن التخفي ومراوغة الاحتلال

وتضيف، "كان المحققون الإسرائيليون يتعمّدون مضاعفة التعذيب على النساء. كان المحقق يمسك شعري بقوة ويضرب رأسي في حائط مرشوش بالإسمنت كأنه أسنان مسامير، وتم تهديدنا بالاغتصاب، والتحقيق معنا ليلاً حين نكون منهكين، كانوا يستغربون صمودنا تحت كل هذا العذاب وما يعلمون أن نار الثورة أكبر من كل ما يفعلون".

قضت في السجن هذه المرة سنة، وعند خروجها أجبرها الاحتلال على الزواج بعد أقل من أسبوع، وقد تقدمت دبابات جيش الاحتلال موكب فرحها. تضيف ضاحكة: "زفوني بالدبابات". أما اعتقالها الثالث فقد كان طفلها يبلغ 10 شهور فقط، وخطّ خطواته الأولى داخل السجن، ومع ذلك خرجت لتواصل النضال، ودفعت الثمن حين رفض الحاكم العسكري كوهين مردخاي قرار تعيينها إذ كانت خريجة معهد معلمات.

نهلة البايض

وتكمل، "رغم كل هذا واصلت النضال كما غيري، ولكن الآن بعد أن كبرنا حقوقنا ضائعة، نحن المناضلات القدامى نحتاج أن نعيش كبشر، لدينا مناضلات لا يملكن مبلغ مواصلات للوصول إلى الجمعية، ومناضلات دفعن الثمن من أعمارهن وفقدان فرص التعليم والآن فقيرات، ناضلن في وقت كان النضال يكلفها ضياع مستقبلها ومستقبل العائلة".

وتضيف، "عند قدوم السلطة الفلسطينية كان يفترض الاهتمام بنا، لكن ما حد سأل فينا. يفترض تسوية وضعنا. القانون يقول أن من اعتقلن لثلاث سنوات فقط يتلقين رواتب ولكن لا يقيسوا حجم الضرر الذي دفعته من اعتقلت أقل من ثلاث سنوات، فهي لم تتمكن من مواصلة حياتها بشكل عادي".

عتب

الأسيرة السابقة صبحية الجمل، واحدة من الفدائيات اللواتي ناضلن في مرحلة أواخر الستينيات وبداية السبعينات، لكن السيدة الستينية تشتكي الآن عدم اكتراث أي جهة فلسطينية للمناضلات اللواتي تحدّين الاحتلال حين كان يجوب أزقة الشوارع والمخيمات بجيباته العسكرية ويقتحم البيوت، في وقتٍ كان اقتناء شريط وطني (كاسيت أغاني وطنية) تهمة.

تقول الجمل: "اعتقلني الاحتلال الإسرائيلي عام 1971 حين كان عمري 17 عامًا، بعد أسبوع واحد من استشهاد شقيقي عبد الحميد الذي كنت أقوم بالعمل الفدائي إلى جواره، تعرضت للتعذيب داخل السجون ولكن لم أعترف بشيء".

"يتذكروننا عند توزيع الكوبونات أو الأغطية والملابس، وهذا يؤذي المناضلات"

تحمل الجمل عتبًا شديدًا على مؤسساتٍ "تتعامل مع المناضلات بطريقة المساعدات الإنسانية، كلما توفّرت فرصة لتوزيع كوبونات غذائية أو أغطية أو ملابس أو توزيع لحوم، وهذا يؤذي المناضلات" كما تقول. وتستدرك، "ما هكذا تتم معاملتنا، لم يكن من الصعب على السلطة الفلسطينية استيعابنا في الوظائف الحكومية".

اقرأ/ي أيضًا: ناصر أبو سرور.. ظريف الطول الذي نادته مزيونة 26 سنة

وبسبب انخراطها في العمل النضالي، لم تحظ الجمل بفرصة عمل إلا في وقت متقدم في إطار جمعية أهلية، لكنها الآن تقاعدت ولم يعد لديها مصدر دخل، وهي كغيرها فقدن فرصة الزواج وتأسيس أسرة لتخوّف الكثير من العائلات من ارتباط ابنهم بمناضلة لما كان يفرضه الاحتلال على النساء وعائلاتهن من تضييقات تصل إلى حد حرمان العائلة كلها من فرص العمل.

جمعية مطلبية

"عرفنا بعض على الصوت"، بهذه الكلمات استهلت مريم أبو دقة -التي ترأس مجلس إدارة الجمعية- حديثها عندما سردت كيف تعرّفت المناضلات على بعضهن، فالفتيات اللواتي كانوا بعمر 17 عامًا أصبحن الآن ستينيات.

تقول أبو دقة: "كان قبلنا أسيرات، مرحلة الستينيات والسبعينات كانت زخم العمل الفدائي، والنساء اللواتي اعتقلن لم يكونوا عابرات سبيل، بل فدائيات، وكان الاحتلال يركز على الصغيرات بعمر 14 عامًا فما فوق. أنا اعتقلت بعمر 15 عامًا، للأسف كثيرون لا يعرفون هذا التاريخ، لم يكن هناك صليب أحمر ولا مواقع تواصل اجتماعي ولا مؤسسات تدافع عنا".

وأضافت أن الاحتلال اعتاد "عقاب الشعب الفلسطيني بالفتيات كوننا مجتمع محافظ"، ولكن انقلب السحر على الساحر وزاد زخم العمل الفدائي في وقت انتشر فيه المد القومي، وبرزت قوات التحرير الشعبية والجبهة الشعبية وحركة فتح لتخوض النضال الوطني، "المجتمع الفلسطيني كان يحترم الفدائيات ولكن هذا لم يلغِ الكامن في العقول" وفق قولها.

حين اعتقلت أبو دقة كانت قبلها في السجن أسيرات محكومات بالسجن 20 سنة، وهن عايدة سعد وصبحية سكيك وخديجة الحلو وهانم المصري، وكان الاحتلال يشدد التعذيب على النساء، وكثيرًا ما أتوا بالعائلة بأكملها للتحقيق.

"عزّ علي أن أسيرات النضال يعانين كل هذا. طوال هذه السنوات بلا رعاية ولا راتب، ولم يكملن التعليم، وبعضهن لم يتزوجن"

بعد عودتها إلى البلاد عام 1994، زارتها بعض الأسيرات السابقات واشتكين من ظروفهن الاجتماعية، تضيف، "عزّ عليّ أن أسيرات النضال يعانين كل هذا، طوال هذه السنوات بلا رعاية ولا راتب ولم يكملن التعليم، بعضهن لم يتزوجن لأن الناس كانت تفضّل الابتعاد رغم احترامهم للنضال، وبعضهن ذهبن زوجة ثانية لأن أهلهن أرادوا إغلاق هذا الملف، ومنهن من بقين بلا مأوى".

اقرأ/ي أيضًا: "زهرات" تحكي كيف تقضي الأسيرات القاصرات أيامهن

عام 2008 فكرت أبو دقة بإيجاد جمعيةٍ ترعى المناضلات، "في ظل وجود جمعيات تتعامل معهن بتقديم مساعداتٍ بين فترة وأخرى بطريقة لا تحترم كرامتهن، وكان هذا مستفزًا" وفق قولها، فكانت فكرة جمعية الدراسات النسوية من أجل إعادة الاعتبار للتاريخ الذي سطرنه ولكتابة قصص نضالهن، وتدريبهن على مهنٍ يحترفنها بدلًا من انتظار المساعدات.

وأوضحت أن الجمعية بدأت بمشاركة 12 أسيرة سابقة ومحررة، والآن وصلن إلى 102 أسيرة، مضيفة أنها أول من أفصحت عن عدد النساء اللواتي دخلن سجون الاحتلال، وهن 15 ألف امرأة، والآن تقبع في السجون نحو 60 أسيرة.

وبيّنت أبو دقة، أن الجمعية تضغط من أجل تعديل القانون الخاص بالأسرى لاستيعاب المناضلات اللواتي قدمن شبابهن في النضال الوطني، "لقد دفعن الفاتورة من أعمارهن، ولهن الحق في الحصول على راتب شهري، والحق في الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي أسوة بغيرهن. هناك الكثير من المناضلات اللواتي لا يتمكن من توفير فاتورة علاجهن، وتعمل الجمعية من خلال علاقاتها على المساعدة ولكن الأصل أن تكون هذه الحقوق متوفرة، وهذه مسؤولية الحكومة وعليها التحرّك لتسوية هذا الملف".

يُذكر أن ملف رواتب الأسرى أصبح الآن أحد أبرز ملفات الصراع بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، وعلى خلفية هذا الملف اقتطعت حكومة الاحتلال نصف مليار شيكل من عائدات الضرائب الفلسطينية، ما دفع السلطة لرفض استلام جميع الضرائب، وأدخلها أزمة مالية صعبة.


اقرأ/ي أيضًا: 

المحررة عطاف عليان والفدائي الذي قتلها عشقًا

امرأة من النقب: عن سلوى التي احترق عالمها

السيدة ميشلين والفتاة الملثمة