29-يوليو-2019

بينما كان الحاج صالح منهمكًا في هزّ قطعةٍ من الورق المقوى أمام نار "المَنْقَل" (شواية الفحم)، وتقليب قطع اللحم، كان حصان "أبو عبد الله" العنيد يبدد بوطئ حوافره سكون المنطقة الزراعية على جانبي الشارع المؤدي إلى مخيم النصيرات الجديد وسط قطاع غزة.

صاحَ صاحب الحصان مخاطبًا صالح، بعد أن اخترقت رائحة الشواء أنفه: "صحة يا حاج"، ليُقسم الأخير على الله ألا يرد ذلك "الشقيُّ" دعوته؛ فلبّى.

فلسطينيون يتحدثون لـ الترا فلسطين عن تجاربهم في أكل الأفاعي والقنافذ والحلزونات حيّة

وضَعَ الحاج صالح، اللحم الذي فاحَت منه رائحة الفلفل والكمون في صينية، وبدأ يأكل؛ والضيف يشاركه التلذذ بالطعم ويتغنى بمذاق "التتبيلة"، هكذا حتى قضيا على الطعام كله.

اقرأ/ي أيضًا: المفتول: طبخة النبي سليمان

أسند "أبو عبد الله" ظهره إلى جذع شجرة زيتون، وضرب بيديه على كرشه بعد أن شكر الحاج على كرمه ووليمته "الفاخرة"؛ لكن ما هي إلا لحظاتٌ حتى انقلب المشهدُ رأسًا على عقِب. لقد ألهم الله الضيف أن يسأل صاحبنا عن نوع هذا السمك الذي أكله لتوّه، ليجيبه متعجبًا :"أيُّ سمكٍ هذا؟!"، أشار الرجل بكلتا يديه نحو "المنقل" وردّ ضاحكًا: "هذا الذي أطعمتني منه"، ليطلِقَ الأول ضحكةً عالية ويردَّ بكل ثقة: "هذا لحم عربيد اصطدته قبل قليل عن شجرة الليمون هناك".

الزميلة آلاء أبو عيشة مع الحاج صالح

في الحقيقة لا يتذكر الحاج صالح حتى هذه اللحظة، اسطوانة الشتائم التي "غنّاها" أبو عبد الله على مسمعه بعد أن تقيأ كل ما في جوفه؛ لكنه يذكر جيدًا كيف أنه وقع على ظهره من كثرة الضحك.

يقول الأديب والسياسي الإنجليزي جوناثان سويفت: "أول من أكل محارةً لا بد وأنه كان شجاعًا"، وهذا هو تمامًا ما يؤمن به ثلاثةُ "شجعان" قرروا أن يفتحو أبواب معداتهم لاستقبال غير المألوف من المذاقات، بعد أن تأكدوا أن ما يأكلونه ليس "حرامًا"، وفق الشريعة الإسلامية. لدينا هنا: الحاج صالح محمد عاشق لحم الأفاعي، ومحمود أبو العمرين متعقّب القنافذ المُغرم بحسائها، ودجانة أبو الرب -المجرب المبتدئ-  للحم الحلزون.

ذبح الأفعى "علم وفن"!

أول مرةٍ تناول فيها السبعيني صالح لحم الأفعى كانت عام 1968، عندما قرر الالتحاق بجيش التحرير الفلسطيني في سوريا، وكانت من ضمن برنامج التدريب هناك؛ فرضياتٌ تقول للمجنّد "تصرَّفْ" في حال ضاع يومًا في صحراءٍ أو غابة دونما طعامٍ أو شراب.

يقول: "في ذلك اليوم علّمَنا المدرِّبُ كيف نأمن سُمَّها بأن نقطع رأسها من أمام العنق، فنتخلص بذلك من الحويصلات الهوائية التي تخزن فيها السم -ومكانها تحديدًا خلف عيونها- بالإضافة إلى الأنابيب المجوفة التي تصل بهذا السم منها إلى الأنياب".

بصراحةٍ مفرطة أكّمل، "كان الوقت صيفًا، ولم أكن مضطرًا يومذاك، رأيتها تتسلق شجرة، لقد كانت أفعى ضخمةً جدًا، أمسكتُ بها ولما تملّكتُها أخرجتُ سكينًا كان في جيبي وقطعتُ رأسها على الفور". لم يجد صالح نفسه بعدها إلا وقد سلخ جلدها، وأخرج أمعاءها، ثم أشعل نارًا وبدأ بتقليب قطعٍ نيئةٍ منها مستعدًا لتجربة العمر وهو بكامل قواه العقلية.

لحم الأفاعي لا يُؤكل إلا مشويًا على الحطب، ولا يُمكن أن يُقلى، وطعمه يُشبه لحم السمك

يضيف في شرح المذاق، "كان لحمُها يشبهُ بطعمه لحم السمك، ولو أضفنا إليه الكمون والملح والفلفل والثوم، لما استطاع متذوقه أن يفرق بينهما أبدًا".

شاهد/ي أيضًا: فيديو | "الجريشة".. من البيدر إلى موائد الأفراح

زميلُنا الصحفي فكري الغريب أكّد ذلك عندما قرر أن يخوض التجربة، ويقبل -بكل شجاعة- دعوة الحاج صالح على أفعى مشوية يوم المقابلة نفسه.

"لحم الأفعى لا يُستساغُ إلا مشويًا على الحطب، ولا يمكن أن يُقلى أو يُصنع منه الحساء"، هذا على ذمة صالح، الذي أكد أن كوبًا من الشاي بعد انتهاء الوجبة هو بمثابة "نزهةٍ للقلب لا مثيل لها".

إن كل من تجندوا في الجيش سواءً في دولٍ عربيةٍ أو أجنبيةٍ تعرضوا لدرسِ الأفعى هذا، وغالبيتهم يعرفون تمامًا عن ماذا يتكلم الحاج صالح.

وعمومًا صديقنا القارئ، فإن الأصل في أكل لحم الأفعى "الحُرمة" تبعًا لاتفاق الحنابلة والشافعية لما قد يلحق بآكلها من ضرر، سيما وأنّ نبي الإسلام محمد أمر بقتلها، لكن المالكية ذهبوا إلى جواز أكلها، "إذا أُمِنَ السمُّ فيها بأن يُقطع الحلقوم والودجين من أمام العنق بنيّةٍ وتسمية"، وهذا ما يفعله الحاج صالح تمامًا.

القنفذ و"كمين" الماء

في بقعةٍ أخرى من النصيرات أيضًا كان الثلاثيني محمود أبو العمرين يستعد لحفلة شواءٍ أخرى برفقة صديقه أبو فراس. في أرضٍ مسوّرةٍ جلبا كرةً من الشوك انكمشت في حضرتنا نحن الغرباء. قال أبو فراس مهوّنًا الفكرة على نفسه، وهو الذي سيتذوق لحم القنفذ لأولِ مرةٍ في حياته، "كول اللي تحبه، واترك الأكل يتخانق (يتصارع) جوة بمعرفته".

محمود بدأ بأكل لحم القنافذ عندما كان ابن أربعة عشر عامًا، حيث كان يرافقُ عمًا له في رحلاته إلى ما يسميه "البر"، أي المناطق الخالية من العمران -وكانت واسعةً جدًا وقتذاك- فيمكثان هناك ساعاتٍ طويلة يصيد خلالها عمه القنافذ الضخمة التي قد يصل وزن الواحد منها إلى "2 كغم"، ثم يعود إلى بيته فيقيم عليها وليمةً كبيرة يدعو إليها أعز صحبه.

يقول: "مبدئيًا أي نوعٍ من الطعام طالما لم يحرّمه دين، فيجب أن يحاط بهالةٍ من التقديس والاحترام، حينها يجب أن نوقن أن الأمر يعود إلى ذوق الإنسان نفسه، والذي يعد احترامه حقًا من حقوقه الإنسانية".

محبو لحم القنفذ يُطلقون عليه اسم الخاروف البري لشدة تشابه طعم لحمه بطعم لحم الخراف

يشرح أبو العمرين عملية طبخ القنافذ باختصار قائلاً: "نملأ وعاءً بالماء الساخن، نضع فيه القنفذ وغالبًا يكون قد التفّ على نفسه ليحميها بأشواكه، بعد بضع دقائق وعندما يشعر القنفذ بأنه لا يستطيع التنفس تحت الماء، يفتح ذراعيه وقدميه ويرفع رأسه حتى يستطيع التنفس، هنا تكون عملية ذبحه يسيرة".

بسكينٍ حادة، وبعد "بسم الله" جزّ أبو العمرين رقبة قنفذٍ اصطاده قبل أيام، ثم بدأ بسلخه تمامًا كما يُسلخ الأرنب، وبالفعل هذا كان شكله! وضعه على "منقل" الشواء، وانتظر حتى نضَج، ثم بدأ بتناوله برفقة صديقه "أبو فراس".

أخبرنا "أبو فراس" أنه كأنما يأكل لحم الضأن (خاروف)، فتدخل محمود قائلاً: "أحسنت الوصف، أصلاً يطلق عليه محبوا لحمه اسم الخاروف البري لشدة تشابه طعم لحمه بطعم لحم الخراف".

"وصية" في طب ابن سينا

حدَّثَنا محمود أن القنافذ تؤكل مشوية، "وأطيب ما يمكن أن تتذوقها كحساء، حيث يقطّع البصل والفلفل الحار ويقلّبان ببعض الزيت، ثم يوضع القنفذ مقطعًا فوقهما، حتى إذا تماسك لحمه، أضيفت الماء المغلية، ثم تُضاف بعد وقتٍ قِطَع البندورة، وعند قرب النضج يرشُّ الملح والفلفل الأسمر وبعض الزعتر الجاف، وهذا حسب الذوق.

القنفذ يحبُ العنب، وهذا يفسر وجوده في المناطق الزراعية بكثرة سيما القريبة من الكروم، فيقطع قطوفها ويأكل منها حتى يشبع ثم يتمرغ بها، وفي الكروم يسهل صيده خصوصًا في أواخر الربيع وطوال فصل الصيف، وفق أبو العمرين.

اقرأ/ي أيضًا: "لحم الفقراء" في تراث فلسطين

وأصح الأقوال عند أهل "العلم الشرعي" في أكله أنه "حلال"، وهذا مذهب الإمام الشافعي وفقًا للآية القرآنية: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير} إلى آخر الآية.

وقد ورد في كتاب (الأدوية المفردة من كتاب قانون الألواح والقواعد) لابن سينا، الحديث عن فوائد أكل لحم القنفذ، ومنها "علاج بعض الأمراض الجلدية كالثعلبة والتقرحات، كما يخفف من آلام المفاصل والأعصاب، ويلين الجهاز الهضمي ويدر البول، ويسهم في علاج السل والتخفيف من التشنجات العصبية، وبياض العين".

الحلزون بالخلطة السرية

دُجانة أبو الرُب من قباطية جنوب جنين، وقبل أن يزور فرنسا العام الماضي في رحلة عمل، كان قد سمع الكثير عن قرية عابود غربي رام الله المعروفة بأكلةٍ شعبية يسميها أهلها "الحلازين"، وهي عبارة عن حلزون بري يطبخ بعدة أشكال: شوربة مثلًا بالملح والكمون وأوراق الليمون، مع صلصة الليمون والثوم والبقدونس، أو "طرطورة" مطبوخة مع البندورة، وفي الحالتين لا يتم طهو إلا الحية منها أما الميتة فلا.

يقول: "كان لدي أصدقاء كثر من هناك، ولطالما طلبوا مني مشاركتهم أكلها مرة مع بداية موسم الشتاء، لكن شاء القدر أن أتذوقها في طرفٍ آخر من الكرة الأرضية. هناك في فرنسا".

"لحم الحلزون لا يُشبه الدجاج ولا العجل ولا السمك، وهو لحمٌ شديد اللذة"

في وصف مذاقه -كما كان- في أحد المطاعم الفرنسية يضيف، "هو لحم، لكنه لا يشبه لحم الدجاج ولا لحم العجل ولا لحم السمك! هو لحمٌ شديدُ اللذة لا يشبه لحمًا ذقته في حياتي". بعد تفحّص الطبق في ذلك اليوم برفقة أحد أصدقائه -وكان يصور التجربة صوتًا وصورة- استطاع استنباط أن طريقة طهوه كانت أقرب للسلق، مع شوربة خفيفة رافقتها في الطبق، ممزوجة بخلطة بهاراتٍ "شهية جدًا" على حد وصفه.

يعلّق: "كلما مررتُ عن هذا الفيديو غرقتُ في الضحك، فتفاصيلُهُ في كفة، وما بعده في كفة، عندما أغلق صديقي الكاميرا كنتُ مع كل لقمةٍ أميل إلى جهةٍ مع الموسيقى لفرط اللذة". واستدرك، "بعد هذه التجربة، أصبحتُ على يقينٍ تام بأن الطعام ثقافة، وليس مجرد حشوٍ للمعدة".

على أية حال، فإن أكل أفعى، أو قنفذ، أو حلزون في فلسطين، ورغم أن البعض قد تأنف نفسه من مجرد التفكير بالتجربة، لن يكون صعبًا للغاية أمام أكلاتٍ غريبة ومشهورة في مجتمعاتٍ أخرى: بعض دول آسيا مثلًا التي يسرفُ أهلُها في أكل الحشرات "كونها غنية بالبروتين"، والصين التي تشتهر بعض مطاعمها بوجبة مخ القرد، أو كوريا الشمالية التي يأكل بعض أهلها حساء الكلاب كطبقٍ شعبي يدعم الصحة، ناهيك عن العناكب المقلية أو حساء السلاحف، أو الأخطبوط "الحَي النَي" أيضًا.


اقرأ/ي أيضًا: 

"المعلاق" وجبة الخليل السحرية كل صباح

خبيزة غزة.. لموائد المسحوقين رفيق

الزبيب الفلسطيني.. ما تبقّى لكم من حلوى