08-سبتمبر-2019

 

"شهيد آخر [...] كلنا للوطن".. 

وهذا شهيد آخر يموت في سبيل الوطن ويشتري حريّة بلاده بمهجته. هذا هو [...] تقف آخر لمحة من لمحات عينيه في السجن. ضحية جديدة على مذبح الوطنيّة المقدس لحقت بمن سبقها من الضحايا في كتيبة المجد والشرف. ويل للظلم ويل للاستبداد والعسف، من نقمة أرواح الشهداء القديسين.. توحي إلى جنود الأمة البواسل بسرّ الجهاد للخلاص، وتنفث في روع الأحفاد حب التضحية والفداء.
 
       قد يتبادر لذهن القارئ أن هذا الاقتباس الطويل من مقال لتأبين بسّام السايح الذي فاضت روحه إلى بارئها في سجنه اليوم 8 أيلول/ سبتمبر 2019     
 
مات [...] في السجن وقد حرمه طغيان الطغاة وجبروت المتعسفين أن يبصر نور الشمس في سويعاته الأخيرة، وأن يستنشق نسيم الحرية وهو على أبواب الأبدية. ويل للظلم، ويل للاستبداد، من يوم عبوس قمطرير حين تصرخ أرواح الشهداء الجبارة، فتعصف بالاستبداد وتدكدك صروحه وتقضقض عروشه".
 
قد يتبادر لذهن القارئ أن هذا الاقتباس الطويل من مقال لتأبين بسّام السايح الذي فاضت روحه إلى بارئها في سجنه اليوم 8 أيلول/ سبتمبر 2019، لكنّ هذا النّص الطويل ما هو إلا تأبين لشهيد آخر قضى في نفس السجن، وذات الظروف، الشهيد اسماعيل كيلاني الذي اعتقل لمشاركته في ثورة البراق في صفد، واستشهد في سجنه مطلع تموز/ يوليو 1930. كتبه أكرم زعيتر ونشره يوم 4 تموز/ يوليو 1930 في جريدة اليرموك، محتجًا على نشر خبر استشهاد الشهيد في الصحف الفلسطينية من دون اهتمام أو إبراز، مبرزًا بشكل غير مباشر إهمال أسرى المقاومة الفلسطينية، خصوصًا المقاومة المسلحة ضد المشروع الاستعماري البريطاني. 
 
 
احتلت هذه القضية، قضية أسرى المقاومة عمومًا، والمقاومة المسلحة خصوصًا حيّزًا مهمًا في مقالات أكرم زعيتر ونصوصه التحريضية نحو ثورة السلاح، كان مقال زعيتر افتتاح لسلسلة طويلة ستستمر وتتصاعد وتيرتها مع تصاعد وتيرة المقاومة المسلحة ضد المشروع الاستعماري، وزيادة أعداد الأسرى والمعتقلين في سجونه. 
 
     احتلت هذه القضية، قضية أسرى المقاومة عمومًا، والمقاومة المسلحة خصوصًا حيّزًا مهمًا في مقالات أكرم زعيتر ونصوصه التحريضية نحو ثورة السلاح    
 
وعبرّ زعيتر عن مركزية قضية الأسرى لديه يوم 2 تموز/ يوليو 1931 فكتب في يوميّاته، "قضيتان تشغلان البال وتتطلبان العمل الموصول والجهد الدؤوب: أولاهما قضية تسليح اليهود، وثانيتهما قضية ما يلقاه إخواننا السجناء الأحرار من اضطهاد وسوء معاملة. بعد هذه اليومية ابتدأ زعيتر حملة في صحيفة الحياة لصاحبها خير الدين الزركلي والتي كان يتولى زعيتر تحريرها آنذاك، من أجل إثارة قضية الأسرى. فكان مقاله يوم 2 تموز/ يوليو 1931 "لمثل هذا يذوب القلب من كمد، أيتها الأمة أنقذي أبطالك من السجون".
 
 توزعت مقالات زعيتر عن الأسرى على ثلاثة محاور أساسية، الأولى حديث عام عن الاعتقال السياسي في مواجهة المشروع الاستعماري، وكانت مقالته/ خطبته "السجن بيت الكرامة" التي نشرت في 26 شباط/ فبراير 1930 في مرآة الشرق نموذج عن هذا المحور. كتب زعيتر:
 
"أجل إن السجن بيت الكرامة ومحط الإخلاص ومنارة الوطنية ومبعث القوة. الأمة لا تعترف بالعبودية ولا تُقرّها، وتقارع الظلم والاستعمار أمّة حرة رغم القوة الغاشمة. والوطنيّ الذي يقدّس الحرية ويكافح في سبيلها حرّ وإن قيّدته السلاسل والأغلال. لن تسمو المادة إلى الروح فمن تحررت روحه من ربقة الذل والاستخذاء كان حرًا أبيًا شريفًا". 
 
 
واعتنى زعيتر في يومياته في تسجيل ردة فعل الأهالي على اعتقال أبنائهم، فدوّن يوم 26 آب/ أغسطس 1931 إثر حملة اعتقالات ضد أهالي نابلس:
 
"ومما يدعو إلى الارتياح أنه رغم كون المعتقلين كثيري العدد، والأحكام صارمة، فإنه لم يتقدم أحد من ذوي الموقوفين إلى أحد من المتصلين بالسلطة راجيًا التوسط لدى السلطة، وعلى العكس من ذلك فقد كان النساء يزغردن حين يمر بهن جريح مخضبًا بدمائه، أو سجين مقيدًا بالأصفاد [.....] وقد حكم السيد رفعت الشرابي بالجلد باعتبار أن عمره 12 سنة، فادعى أن عمره 18 سنة، وقال احكموني بالسجن ما شئتم من طول زمن، أما الجلد فلن أمكنكم منه ولو مت، فحكم عليه بالسجن".
 
المحور الثاني الذي تناولته مقالات زعيتر، الاهتمام بظروف اعتقال الأسرى وقصص التعذيب والقهر الذي يتعرضون له في زنازينهم، واهتم زعيتر دومًا باستكتاب عدد من المحررين عن ظروف الاعتقال هذه محرّضًا على ضرورة تحسين ظروف الاعتقال وقضايا المعتقلين. من ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما كتبه في الحياة يوم 30 آب/ أغسطس 1931 بعنوان "أحرار الشباب في السجون يعاملون كالمجرمين". 
 
أمّا المحور الأخير والأبرز، فهو استخدام زعيتر لقضية الأسرى للتحريض السياسي على الثورة، منتقدًا في ذات الوقت إهمال الأمة للأسرى وذويهم. ومن ضمن هذا المحور يقع مقال زعيتر المقتبس في مقدمة هذا النص، كتب زعيتر مستكملاً حديثه عن الشهيد الكيلاني، وناقدًا أمته: 
 
"أيها القوم إن إسماعيل الكيلاني أوجه عند الله وأشرف في مجالي الجهاد والشرف من الباشا الفلاني الرعديد والبك الفلاني الجبان. فهذا قد جاد بنفسه والجود بالنفس أقصى غاية الجود.. يموت منذ أيام ونحن لا ندري من أمره شيئًا! أين الوفود التي استقبلت جثته واحتفت بدفنها؟ أين الورود؟ أين الأكاليل؟ مات في سبيل الأمة ولكنها ضنّت عليه حتى بطلب الرحمة، احتمل من أجلها آلامه ولكنّها لم تشيّع رفاته، كتم ما قاساه لئلا يمُنَّ عليها. ولكنها صدفت عنه وأعرضت عن ذكره. أجحود ونكران، أم سهو ونسيان؟".
 
 
لم يكتف زعيتر كما تدوِّن يومياته بالمقال، على الرغم من أن هذه المقالات خصوصًا التي نشرت في "الحياة" عرّضت زعيتر لمحاكمة جديدة من السلطات الاستعمارية بعد إغلاق صحيفته، ومن النشاط العملي الذي مارسه زعيتر تأسيس جمعية العناية بالمساجين مطلع العام 1932، وكذلك دعوته لدوام التواصل المباشر مع الأسرى بالزيارة. واهتم زعيتر اهتمامًا خاصًا بـ"الفدائي" محمد عبد الغني أبو طبيخ الذي حاول اغتيال النائب العام نورمان بنتويتش. فلم يكتف زعيتر باحتفاء "مرآة الشرق" أثناء رئاسة تحريره لها بفعل أبو طبيخ ونشرها لقصيدة طوقان "الفدائي" فاستذكر أبو طبيخ دومًا، كتب زعيتر في يومياته مطلع تشرين الأول/ أكتوبر 1931: "تم في هذا الشهر إنهاء خدمات نورمان بنتويتش النائب العام، [.....] ومهما يكن الأمر فإن بنتويتش من أركان الصهيونية، ولو كنت أستطيع أن أزور في السجن عبد الغني أبو طبيخ لهنأته بالخلاص من بنتويتش". 
 
وكتب زعيتر في يومياته ليوم 10 شباط/ فبراير 1932:
 
"في الصباح الباكر كنت استقل السيارة إلى عكا لزيارة سجنائنا الأحرار [.....] بادرت إلى تقديم نفسي إلى مدير السجن، وجرت بيننا المحاورة التالية:
 
[.....] هو: لدينا أمر حتم أن يحظر عليك خاصة الاجتماع إلا بواحد، فإما أن تذكر لنا اسم من تشاء، وإما أن تعود أدراجك.
 
وفكرت كثيرًا، ونازعني عاملان، عامل الإقدام على زيارة سجين واحد وإبلاغه تحية الجمعية [جميعة العناية بالمساجين] ليفضي بها إلى إخوانه الأحرار، وعامل العودة محتجًا وخائبًا، وبعد لأي قلت: لا بأس يا حضرة الضابط ليكن ما تريدون.
 
- ولكن أي سجين تحب أن تقابل؟
- [محمد] عبد الغني أبو طبيخ!
- [محمد] عبد الغني أبو طبيخ؟! من هو هذا الذي اخترته من بين جميع المساجين؟ 
- إنه من قباطية. أنه مطلق النار على بنتويتش.
- ها ها طيب (وبلع ريقه) بس. لكن. معليش...
- لقد اخترت هذا وأنا أعلم أن الأخ صبحي الخضرا يجتمع بالإخوان الصفدين... وانتظرت دنو الإذن بمقابلة الشاب الفدائي الذي قال للمحققين: إني أطلقت الرصاص على بنتويتش لأنني اعتقدت أنه سبب كل بلاء على أمتي وبلادي. 
 
ولقد حمدت لنفسي إلهامها إياي من اخترته، وبعد فينة أقبل الأخ صبحي بك الخضرا، واستأذن بزيارة أحرار صفد فأذن له ودخلنا معًا. وهمس في أذني: قد تتاح لك فرصة رؤيتهم من بعيد. وفي مدخل السجن جسر يشرف على هوة سحيقة، وقف عليه صبحي بك وقال: من هنا ألقى الشهيد محمد عبد الغني حجازي بنفسه أو ألقي به، وهنا كان مصرع البطل.
 
- فلنقرأ له فاتحة كتاب الله. "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون".
 
قال صبحي: هل تعلم يا أكرم أننا عجزنا عن تدبير نفقات دفن البطل وتشييد قبره! 
 
قلت: أجل وأعلم أنه لاقى في العرين من الاضطهاد ما انتهى به إلى هذه الخاتمة، وأنه استشهد فلم يرتفع في البلاد صوت، ولم يتنزل أحد المتزعمين إلى السير في موكب دفنه أو التعزية فيه".
 
مع كل هذه العناية من زعيتر وأمثاله سيعاني الأسرى الأمرين، لن يخرج محمد عبد الغني أبو طبيخ إلا بعد قضاء حكمه، وستبقى أسرته تعاني الأمرين، خصوصًا بعد اشتداد نار الثورة، وتهجير وتشريد قادتها وكوادرها، وأسر وقتل البقية، وستبرز المراسلات بين الأسرى والهيئة العربية العليا بعد تأسيسها، وبين ذوي الشهداء والأسرى والهيئة أيضًا، وكذلك بعض النصوص الأدبية المتواضعة التي خرجت لأسرى اعتقلوا خلال سني الثورة الكبرى على أشكال نصوص مسرحية، أن السجن لم يكن فقط قهرًا للأسرى، وإنما قهرًا لمن بقي. 
 
ختم زعيتر نعيه للشهيد السايح/ عفوًا للشهيد الكيلاني:
 
"أيتها الأمة:
يا ويح جنديِّك المجهول مجندلاً     على الصعيد سليب الثوب عريانا
قد مات دونك لم يمنن عليك يدًا      ولم ينل منك عند الموت أكفانا"