20-أكتوبر-2018

ينتظر محبو فصل الشتاء أمطاره وسماءه الملبدة، وربما ثلوجه، ويتجهزون لأجوائه الباردة بالأغطية والملابس الثقيلة، وكذلك بوجباته ومشروباته التي تمنح جلساته دفئًا خاصًا، لكن ليالي هذا الفصل غير مرجوّة القدوم في قلوب الغزّي الأربعيني محمود الجعفري وأطفاله الثمانية.

تلك الليالي القادمة كما التي مضت، ستُحدث ضجيجًا في صدورهم، وستتآكل أطرافهم من بردها ومياهها، بينما سيكون الجعفري على مواعيد يومية لمواجهة السيول والرياح التي تعصف بكوخه البدائي المُقام من "النايلون"، ويخلو من الماء أو الكهرباء، بل من أدنى مقومات الحياة.

في رفح، يسكنون في منازل من "نايلون" ويحيطونها بالسواتر الترابية لاتقاء "شرّ" المطر

أمام ذلك الكوخ البلاستيكي؛ سيبدأ الجعفري خلال أيامٍ قليلةٍ تسبق منخفضات الشتاء بنقل الرمال نحو المنزل لإقامة ساتر ترابي عالٍ في إحدى جهات الكوخ، سينقل الأطفال مع والدهم بواسطة العربة والدُلي الرمال وهم "فرحين".

اقرأ/ي أيضًا: غزة: عائلات تُجاور الصرف الصحي هربًا من الغلاء

قبل أن يتحدث الجعفري لـ الترا فلسطين، لم يكن يتذكّر عمره تمامًا مخمنًا أنه (43 عامًا)، فهموم حياة هذا الرجل المريض بالسكري أكبر من أن يحسب للعمر حساب، يقول: "أعيش في بيت من النايلون لا عندي كهرباء ولا ماء، نعيش على الشمعة، الماء أنقله بعربة يجرها حمار سلّفني إياها أحد أهل الخير".

[[{"fid":"75195","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":480,"width":640,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]

هنا يسكن الجعفري مع أطفاله الثمانية

يضيف، "الصيف أكل جلودنا، أولادي الثمانية عندهم حساسية ووالدتي تعيش معنا في نفس المنزل وهي مريضة ومسنة، الفئران والكلاب تزورنا كل ليلة في هذا المكان ونطاردها ليل نهار. قربنا نرتاح من همه - يقصد الصيف - لكن جاي هم الشتاء، سأغرق أنا وأولادي لأن ألواح الزينكو التي أوقِفُها كل سنةٍ حولنا تُدخل المطر علينا ونُفاجأ بالسيول تحتنا".

ينام أطفال الجعفري في رفح على شمعةٍ وتعد والدتهم الطعام حينما يتوفر على ورق الشجر

ورغم ثقل تلك الرمال عليهم واتساخ أجسادهم الشاحبة فقرًا، إلا أن أطفال الجعفري سيتمتعون بلعبة إقامة "الجبل" في كل عام، ثم لا يلبث أن ينجرف الجبل مع السيول في ليلة شتاء عاصفة، فيتحوّل إلى كابوسٍ يحيط بكوخهم البدائي المقام بمعزل عن سكان حي تل السلطان في مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة.

يستحضر سيناريو الغرق حيث لا منجد ولا مجيب لمناشداتهم: "أحمل أمي على ظهري من بين الأمطار لأخرجها قبل الغرق"، أما أطفاله فيعاونون بعضهم برفقة والدتهم على النجاة. "العوزة أكلت وجهي قدام الناس" قالها وهو يبكي على حاله.

الفئران والأفاعي والعقارب ستبدأ بمغادرة كوخ عبير الحمران (38 عامًا) ذو الـ100 متر - في جحر الديك ناحية حدود المحافظة الوسطى - بعد معارك مرجفة خاضتها معها طوال فصل الصيف لتحمي طفليْها منة الله وأسامة منها.

واليوم تتجهز لليالي الشتاء قارسة البرد، إذ تحرمها طبيعة منزلها القديم من إشعال شمعة أو قليلًا من الحطب لتنعم بجو دافئ، خوفًا من أن تشتعل غرفتها المقامة من النايلون والخشب.

لا يُمكن أن تُشعل نارًا للتدفئة حتى لا يشتعل حريقٌ يأكل المنزل المقام من النايلون والخشب

تقول عبير لـ الترا فلسطين: "ياما ناشدت أهل الخير والأشغال وكل المؤسسات ليبنوا لي بيت، وكل سنة أغرق وأتشرد أنا وأطفال وزوجي المريض بالسكري والضغط، لكن هذا العام أرجو أن يساعدنا أحد على الأقل بالحرامات أو ملابس شتوية لأولادي".

وتُضيف، "أو إذا كان في خير في الدنيا ناشدولي أهله ليستأجروا لي منزل على الأقل في أشهر الشتاء أو الأربعينية".

اقرأ/ي أيضًا: أهل غزة للإسرائيليين: المجاري علينا وعلى أعدائنا

يتسبب البرد القارس والأمطار التي تدخل من فوق المنزل المكشوف، ومن تحته، بأمراض لطفليْ الحمران، وقبل عام أُجرى لأحدهما استئصالًا لورمٍ حميد.

تقول: "أولادي كل شتاء بيطلبوا مني دفاية، فلا هي متوفرة ولا البيت بيسمح يكون فيه شيء موّلع، غاز أطبخ عليه ما عندي، ما عندي خزانة لملابس أولادي، الموجودة مكشوفة والفئران تسكن فيها".

[[{"fid":"75193","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":429,"width":634,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

منزل عبير حمران وعائلتها

وفي منزلٍ آخر مغطى بالصفيح والنايلون، اّيل للسقوط، في حي التفاح، تضرر في عاصفة "هدى" الجوية خلال شتاء عام 2015، ثم استكمل تدميره عدوان إسرائيلي عام 2016، تقيم عائلة مكونة من 17 فردًا بينهم ثلاثة أزواج ومرضى. وإلى اليوم لم تُثر هذه الأسرة الغزّية إنسانية أي جهةٍ مسؤولة.

لمجرد أن سألناه عن حالهم، أجاب أحمد - الابن الأكبر لأسرة عبد الحكيم عجور -  متسائلاً: "هل تريدون مساعدتنا، جاءنا الكثير وما حد رجعلنا"، مضيفًا، "كنا نعيش في غرفتين لجيراننا طوال السنوات الماضية، واليوم أخلونا منهما لأنهم يريدون تزويج ابنهم، يعني رجعنا لهذه الخرابة المدمرة من أيام منخفض هدى وتضررت بالحرب".

لم أكن أعرف من أحمل، والدي المريض أو أطفال إخوتي أو إخوتي الصغار، خرجنا بعد أن انشق المنزل نصفين من العاصفة

يروي مشاهد الغرق التي نجوا منها مبينًا أنه "خلال منخفض هدى وقع نصف البيت ونحن داخله، خرجنا والأمطار تكاد تغطي كل أجسادنا، نجونا بأعجوبة ولم أكن أعرف من أحمل، والدي المريض أو أطفال إخوتي المتزوجين أم إخوتي الصغار، خرجنا بعد أن انشق المنزل نصفين من العاصفة".

[[{"fid":"75196","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"4":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":375,"width":640,"class":"media-element file-default","data-delta":"4"}}]]

 

ويضيف، "رغم هذا رجعنا للبيت لنستتر فيه، جاءت الحرب وكمّلت علينا، ومن يومها لليوم لم يسأل بنا أحد، وسنغرق هذا الشتاء فلا مجاري لتصريف المياه، وأصلاً لا يوجد لنا حمام أو مطبخ. هل تعرفين الصفر؟ نحن نعيش تحته أضعاف أضعاف".

اقرأ/ي أيضًا: هل تُصبح الأمطار حدثا سارًا في غزة هذا الشتاء؟

وكانت نتائج مسح نشرها الإحصاء الفلسطيني منتصف السنة الجارية، أفادت أن نسبة الفقراء في قطاع غزة زادت عن نصف السكان بنسبة بلغت 53.0%، أما بناءً على خط الفقر المدقع فقد بلغت نسبة الفقراء في قطاع غزة لـ 33.8%.

الترا فلسطين خاطب وزارة الأشغال العامة والإسكان بالأسر الشاكية أعلاه، فقالت على لسان وكيلها ناجي سرحان: "إننا لا نستطيع أن نذهب إلى الناس إن لم يأتوا لنا بأنفسهم لتقديم طلبات بناء ومساعدة". واستدرك، "إذا كان هؤلاء قد تقدموا بطلبات بناء أو ترميم فإن المشكلة تكون في عدم توّفر برنامج ترميم ممول، أي أن المؤسسات المانحة التي قدمنا لها قائمة أسماء عدد من الأسر المحتاجة أعطت أولولويات حسبما تريد من العدد والبيانات".

ووفق سرحان، فإن لدى الوزارة 34 ألف طلب لأسر تصنفها على أنها حالات اجتماعية، بينها 4 آلاف حالة طارئة مصنفة تحت خط الفقر المدقع. لكنه أشار إلى مخاطبة مؤسسات بـ500 حالة عاجلة، ويُحتمل أن تتم الموافقة على 400 حالة منها، "لهذا فإن المشكلة في توفر مشروع تمويل لهم، ونحن لا نستطيع في ظل هذه الأوضاع أن نحقق واحد في الألف لهؤلاء الناس".


اقرأ/ي أيضًا:

سكان القرية السويدية: لو كان رابين حيًا شمت بنا

الشتاء في لهجتنا العاميّة

رحلة شتوية في تراث فلسطين