30-مارس-2016

غرافيتي على جدار الفصل العنصري

لا إراديًا أفكر في ملابس الجثث. أفكر تحديدًا في اليوم الذي اشتروا فيه ملابسهم التي يرتدونها الآن وهم ميتون. ألم يشعر ذلك الرجل المقتول برصاصة في الصدر عندما اشترى قميصه المخطط بثلاثة ألوان إحداها الأحمر، ألم يشعر أن لهذا القميص فألٌ سيئ؟ ألم ينخزه القماش الممزق بفعل الرصاصة الآن عندما جربه أول مرة في غرفة القياس في إشارة تحذيرية له كي لا يشتريه ليتجنب الموت؟ أقصد ليتجنب شراء القميص الذي بدونه لن يكون مشهد موته مكتملًا، فالرجل الممدد الآن وسط الشارع قتله قناص ما عندما كان يرتدي قميصه المخطط. والقميص جزء من مشهد الموت. جزء مهم لن يحصل الموت بدونه، أليس كذلك؟

أفكر في ملابس الجثث، تحديدًا في اليوم الذي اشتروا فيه ملابسهم التي يرتدونها الآن وهم ميتون

عندما أشاهد الأخبار، أو عندما أدفع نفسي لمشاهدتها حتى لا يؤنبني ضميري لتجاهلي عذاب الآخرين وموتهم. تجلس بجواري أغراض الضحايا: ملابسهم، "صباح الخير" التي قالوها في صباح يومهم الأخير، أوراق امتحاناتهم غير المصححة بعد في مكاتب أستاذهم، الفكرة الأخيرة في رؤوسهم لحظة الموت، الخوف من الموت، الأسماء المُحتملة لأطفالهم الذين لم يولدوا، اشتهاؤهم للطعام، لون وسائدهم، الصوت الذي تُصدره أبواب بيوتهم عند الفتح والإغلاق، شفرات الحلاقة، الحليب المتبقي في صدور الأمهات. هذا الحليب الذي لن يرضعه أطفالهن بسبب اليُتم يمكنه بسهولة أن يملأ رأسي وأن أغرق به! لطالما فسرت ضيق النفس الذي يصيبني عندما أشاهد الأخبار هكذا.. أختنق، لا أستطيع أن أتنفس.. إنه الحليب، أَطْفِئ التلفاز.

اقرأ/ي أيضًا: لا تلووا ذراعنا بالشهداء

نشرات الأخبار لم تكن فقط مكانًا للاختناق غرقًا، بل كانت أيضًا مختبرًا لتحليل فصيلة الدم. لطالما ظننت أن دمي فلسطيني. ولكنه لا ليس كذلك. تقرأ المذيعة جزءًا من رسالة الصحفي المصري محمود شوكان المعتقل منذ عامين في سجون السيسي إلى نقيب الصحفيين: "أحيا ميتًا، اليأس قد توغل إلى كرات دمي الحمراء ووصل لكبدي، والنوم أصبح عقلي يرفضه، وجسدي أصبح يتصبب عرقًا باستمرار دون توقف، فقدان للوعي لدقائق أمر أعتاده بشكل يومي، جسدي النحيل الغارق في الأمراض أصبح لا يساعدني علي الاستمرار في تحمل مشقة الحبس".

أحزن، أغضب، أبكي وأشعر أن دمي مصري. ولكني أتذكر أنني عشت ذات القهر وأنا أتابع التقارير التلفزيونية في ذكرى الثورة التونسية. الكثير من التقارير بدأت بمشهد الرجل الإله -هكذا أسميه- يصرخ الرجل في الشوارع الفارغة ليلًا: "بن علي هرب، ما عادش تخافوا من حد، تحررنا، الشعب التونسي حر، الشعب التونسي ما يموتش، الشعب التونسي العظيم، تحيا تونس الحرة، المجد للشهداء.." يبكي الرجل ويبكي دمي معه، دمي تونسي وأريد أن يصبح كلام الرجل نشيدنا الوطني في تونس وسأجعله نغمة رنين هاتفي المحمول أيضًا.

أتشوش عندما أتذكر أنني فلسطينية وأنهم قالوا لي أن دمي فلسطيني. فعندما أقرأ ما يكتبه أصدقائي السوريون من قصائد وأشعار عن الوجع والحريّة والموت يصبح رأسي ثقيلًا وإذا كنت واقفة أجلس، وإذا كنت جالسة أقف، حتى يأخذ الوجع حقه الطبيعي في الحركة داخل جسمي. 

اقرأ/ي أيضًا: عشرون رسالة غير محجبة

أتابع صفحة الفنانة السورية يارا صبري أحاول إضافتها ولا يسمح الفيسبوك لي بذلك. تنشر يارا صورًا للمفقودين داخل سجون النظام السوري، أقرأ أسماءهم، تواريخ ميلادهم وتفاصيل المرة الأخيرة التي شوهدوا فيها حتى يتسنى للناس مساعدة بعضهم في الوصول إليهم او إلى ذويهم.. أضع " لايكات" على كل الصور لا أعرف لماذا أفعل هذا! يُخيل لي أنني أعرف أحدهم، كأني مررت عنه وكأن كتفه هذا صدم كتفي في شارع ما، أشعر أنني سورية وأن وجه هذا الرجل مألوفٌ لي وأني رأيت قميصه هذا.. قميصه مخطط بثلاثة ألوان، إحداها الأحمر..أختنق مجددًا!

تعلمت من الوجع السوري والمصري والتونسي أن أخاف أن يكون لي فصيلة دم وأنا أشاهد الأخبار

تعلمت من الوجع السوري والمصري والتونسي أن أخاف أن يكون دمي فلسطيني. أن أخاف أن يكون لي فصيلة دم وأنا أشاهد الأخبار. وفصيلة الدم ليست فقط جواز سفر فربما تكون فكرة أو معتقدًا أو انتماء سياسي. فلقد رأيت أناسًا كثيرين تمنعهم فصيلة دمهم من البكاء أمام الجثث الملقاة في شاشة التلفاز. وكانت فصيلة دمهم تمنحهم القدرة على تبرير القتل في مصر أو تجاهله في سوريا، وكانوا يمجدون القتلة أحيانًا ويستخفون بدماء المقتولين. كانوا يسمون الحروب أسماءً أخرى تُنقص من عذاب من يعيشونها. كانوا يسألون عن أسماء الضحايا وجنسياتهم وأحزابهم وآلهتهم قبل أن يترحموا عليهم، نعم كانوا يستخفون بالحرية التي يطلبها السوريون ويعتبرونها كلمة مدسوسة، وكانوا لا يترحمون على القتلى في مصر ولا يشفقون على الشباب المسجونين، وكانت الحرية في تونس لا تهمهم إلا بالقدر الذي يحبون فيها رئيس البلاد أو يكرهونه، إنه عصر "المؤامرة الكبرى"! عل من وممن؟!، ربما تبقى أسئلة معلقة على قوس الإيديولوجية، أو ما تبقى منها. 

هذا ليس عن مصر وتونس وسوريا وفلسطين فقط، هذا عن كل لحظة كانت فيها شاشة التلفاز مليئة بالجثث والدم والملابس والحليب وأناس لم يكونوا ليموتوا لو أن أحدًا منا بكى بصدق عليهم قبل أن يموتوا وسحبهم من شاشة التلفاز حتى لا يكتمل مشهد الموت بدلًا من أن يتغنى بفصيلة دمهم أمام موتهم. لو أنه رمى فصيلة دمه مرة واحدة وحضن أغراض الضحايا لعرف أن فصيلة الدم ليست سوى كذبة اخترعها القاتل ليُسهل على نفسه مهمة القتل.

اقرأ/ي أيضًا: 

المؤامرة.. صديقتي المفضلة

لا تسامحينا يا فلسطين!