تحت زخات الرصاص؛ ركضت الحاجة نجاح المصري، 62 عامًا، بنصف حذاء وحلقٍ جاف ويدٍ راجفة تصطحب 10 نساء بأطفالهن، في رحلة نزوحٍ جديدة شهدوا فيها أشكالًا من الموت، كما استنشقوا الدماء وسم الغاز على مدار أكثر من 60 يومًا من العذاب غير المسبوق والحصار الخانق لشمال غزة.
مدرسة "أبو تمام" بمشروع بيت لاهيا شمال قطاع غزة كانت آخر محطة أوَت إليها الحاجة المصري قبل النزوح، بعد التنقل بين 10 مراكز للإيواء عجت بالازدحام وبكاء الأطفال وحسرة النساء وعجز الكبار.
"حاصرنا الاحتلال بالمدرسة، وكل من كان يتحرك يُستهدف، كان في كل دقيقة شهيد، ثم أجبرنا الاحتلال على الإخلاء باقتحام طائرات الكواد كابتر ساحة المدرسة"
وحول كيفية تهجيرها القسري تقول: "الاحتلال طلعنا من المدرسة بعدما قصف ساحتها وهددنا عبر طائرات الكواد كابتر ومكبرات الصوت بضرورة الإخلاء في غضون دقائق والتوجه إلى مدارس غرب غزة وإلا سيكون المصير القتل"، مضيفةً أنها اضطرت لتنفيذ الأوامر مع بقية النازحين تحت سطوة الخوف.
وأضافت: "نزحت مشيًا على الأقدام، وفي الطريق رميت أغراضي وحقائبي والأغطية؛ لأنني تجاوزت الحاجز الفاصل بين مدينة غزة وشمالها وأنا ألهث برفقة أحفادي، إذ كانت طائرات الكواد كابتر فوقنا، وإلى جانبنا الدبابات طوال فترة مرورنا على الحاجز".
9 ساعات من السير على الأقدام و10 مرات من الغثيان كانت ضريبة النزوح التي دفعتها الحاجة المصري، لافتةً إلى أنها تخبطت من التيه وسقطت أرضًا بفعل العطش والإرهاق الشديدين، عدا عن بُعد المسافة وخوفها وبكاء الأطفال.
كما أشارت المصري إلى شُح المواصلات واقتصارها على عربات الدواب التي كانت تنقل النازحين بتكلفة عالية لم تكن تمتلكها، مضيفةً: "في الطريق تمنيت أن نُضرب بقذيفة ونستشهد؛ لأننا تعذبنا عذابًا غير طبيعي لم أتوقعه في حياتي".
أما عن آخر الأيام التي قضتها المصري في مدينة بيت لاهيا فتقول: "آخر وقت لنا في الشمال كانت الآليات تضرب الصاروخ ويطلع رأس قلبك معه، الليل مع النهار كان خوف وهروب، الشظايا على ملابسنا، المياه مالحة، انقطع عنا الأكل والشرب حتى اضطررنا لأكل حبات الفول والحمص بدون خبز، والوضوء كان بالتيمم".
كما أكدت على تدهور المنظومة الصحية في الشمال، موضحةً أن شعور العجز والحسرة هو أقسى ما كانت تشعر به مع كل استهداف، حيث لا مشافٍ وكل من يُصاب يُقدَّم له الإسعاف الأولي بطريقة بسيطة جدًا وبدائية عبر النقاط الطبية، ويكون الموت هو المصير المحتوم.
وأضافت: "الحياة كانت صعبة جدًا، حتى دخول الحمام كان مشكلة كبيرة واضطررنا لاستخدام دلو الماء لقضاء الحاجة، وكل 15 أو 20 يومًا كان الاستحمام".
البؤس في أبشع معانيه
أما عن الحياة بعد النزوح فتقول المصري: "نحن عايشين وميتين، وحاليًا نقعد ونصلي ونأكل في الشارع لأنه ما في خيم، نجلس طوال النهار على قطعة قماش، نعتمد على وجبة واحدة من التكيات الخيرية، وعند النوم نتوزع ليلًا بين الجيران، حقيبة اليد هي الوسادة، ننام على الحصى بلا أغطية، وأطفالنا أصابتهم التهابات صدرية، فلا ملابس ولا مستلزمات".
لم تختلف حكاية المصري عن قصة الشابة نهى سلمان، 29 عامًا، التي حوصرت في مدرسة بيت لاهيا في ظروف وصفتها بالكارثية. مضيفةً: "حاصرنا الاحتلال بالمدرسة، وكل من كان يتحرك يُستهدف، كان في كل دقيقة شهيد، ثم أجبرنا الاحتلال على الإخلاء باقتحام طائرات الكواد كابتر ساحة المدرسة"، لافتةً إلى أن آخر ساعة أُصيب خلالها 30 طفلًا.
وأوضحت سلمان أن الاحتلال كان يُلقي منشورات تهديدية من 3 إلى 4 مرات يوميًا، كما منع حركة سيارات المياه العذبة وأدخلها دائرة الاستهداف، للحد الذي اضطر فيه النازحون لنقل 100 لتر عبر عربات الحيوانات لسد الحاجة الأساسية خلال فترة قصيرة قبل انقطاع المياه كليًا، وعزم غالبية الناس على الصيام عقب انقطاع الطعام.
تسرح سلمان وهي ترسم لنا مشهد أطفالها يقفون لـ 3 ساعات بخوف على الحاجز يحملون حقائب الهروب أمام جنود الاحتلال، لافتةً إلى تعمدهم مضايقة النازحين عبر دخان الدبابات وتعفير الرمال، بينما طلبوا منهم شتم المقاومة.
وأضافت: "عبرنا الحاجز بخوف، كل 5 أشخاص على حدة، وأنا إلى الآن مريضة من هول ما شفت، كلاب مرعبة ومسعورة على الطريق، مصابون على الأرض، فصل النساء عن الرجال وتركهم للمصير المجهول".
"الكواد كابتر حرب لوحدها حرب"
واستطردت: "الكواد كابتر لوحدها حرب، فهي لا تفارق النازح، وإذا ما حاول أحد الشبان التسلل وسط النساء تظل تلاحقه بصورة موجهة حتى تخرجه من بينهم، كما تشل حركة النازح؛ فهو ممنوع أن يسعف أو يلتفت أو يتوقف أو ينحني إذا ما وقع منه شيء؛ لأنها فوق رأسه".
وبصوتٍ مخنوق برائحة القنابل الدخانية وعيون دامعة تُترجم معاني الخوف من الغدر والقهر بعد النجاة، تقول سلمان: "شفنا العجائب من الإسرائيليين، أولادي ضاعوا، منعوا عنّا المياه، فرقونا، في الطريق دم وجرحى وأشلاء، وكلاب تنهش الجثث، ملابس الناس وهواتفهم وأدواتهم".
وبينما أكدت سلمان أنها غادرت بيت لاهيا مُكرهة بعد اعتقال الاحتلال لإخوانها واستشهاد عدد كبير من أقاربها في مجزرة دامية، تعيش رفقة أطفالها بخيمة تفتقر لكل مقومات الحياة، بعيدة عن زوجها الذي فضل النزوح إلى مدارس مدينة بيت حانون من أجل إعداد التكيات الخيرية لمن تبقى هناك.
أمام هذه المحنة سألت سلمان: "هل ستعودين لبيت لاهيا ولو بخيمة في حال أُزيل الحاجز؟"، انهارت من البكاء وأجهشت بالقول: "أنتظر دقيقة بدقيقة لأعود إلى بيت لاهيا".
من جانبه، أكد طارق الدقس، 29 عامًا، الذي خرج من أسفل الركام بعد قصف الاحتلال لمنزلهم خلال حصار الاحتلال لمناطق الشمال أن ما يحدث هو تطهير عرقي للإنسان، مضيفًا: "في النهار توغل وقتل، الليل مرعب وطويل، المشافي خرجت عن الخدمة، والسماح بدخول الوفود ممنوع، ومصابنا يموت؛ لأنه لا إسعاف ولا دواء ولا كادر طبي".
وأشار الدقس إلى أن الاحتلال فرض عقابًا جماعيًا على كل من تبقى في مناطق الشمال طوال الحصار، لافتًا إلى أنه غادر مدينة بيت لاهيا تحت التهديد بعدما نزح إليها من جباليا؛ رفضًا لمغادرة مناطق الشمال وتشبثًا بالبقاء بعد أكثر من 60 يومًا من الحصار.
وشدد الدقس على خطورة الطرقات والأماكن التي يلجأ إليها النازحون داخل أحياء بيت لاهيا، حيث يعيشون في بيوت مدمرة، مؤكدًا أنه لن ينسى مشهد اشتعال النار بأجساد المواطنين خلال تغطيته الصحفية لإحدى المجازر بحق النازحين داخل مدارس بيت لاهيا.
حين تساوت الحياة والموت
وأضاف: "الموت كان بالنسبة لنا كشباب أفضل من النزوح بعدما تساوت الحياة بالموت، فنحن شهداء مع وقف التنفيذ"، لافتًا إلى توحش الاحتلال في ضرب وإهانة الشباب خلال الاحتجاز، عدا قتله للبعض وتعرض آخرين للإخفاء القسري في ظروف إنسانية صعبة.
وعن رحلة النزوح، فقد أشار الدقس إلى تعمد الاحتلال إهانة النساء والتنكيل بالرجال وتعريتهم أثناء النزوح، مضيفًا: "الطرقات وعرة ومدمرة ومحاصرة بالنار، كنا ننقل جرحانا عبر عربات الدواب بسبب غياب سيارات الإسعاف، وللأسف كنا نموت حرقًا وجوعًا وقهرًا".
أما عماد أبو سيف، 26 عامًا، الذي شهد أيضًا على أهوال الحصار في بيت لاهيا، فقد أكد على قسوة الظروف المعيشية في المناطق المحاصرة، مضيفًا: "القصف بكافة أنواعه لا يتوقف، جوع حاد، الطواقم الطبية منهكة، الملابس مهترئة ولا يوجد جديد، الاتصالات صعبة، والإضاءة معاناة خاصة في ظل صعوبة الشحن والتحرك".
وأشار أبو سيف إلى أن رائحة الموت والدماء تفوح من كل شوارع وأزقة الشمال، ولا خيار سوى الصمود، واصفًا حياة الناس "بالجحيم الذي لا يمكن الهرب منه".
يعلق في ذاكرة أبو سيف مشهد لإحدى الأمهات التي ودّعت أبناءها الشهداء وهي تنزف بينما تحمل ابنها المصاب بعد نجاته في مشهدٍ صادم.
وفي وقتٍ سابق، أكد مدير مستشفى كمال عدوان، د. حسام أبو صفية، على كارثية الوضع داخل المستشفى وفي محيطها، مضيفًا: "هناك المئات من الضحايا وعدد كبير من الشهداء والجرحى، بينهم 4 شهداء من الكوادر الطبية في المستشفى، ولم يتبق أي جراحين".
وأشار أبو صفية إلى إجبار الاحتلال فريق الوفد الإندونيسي الطبي الوحيد الذي يقوم بالعمليات العلاجية على مغادرة المشفى إلى نقطة التفتيش، كما شن سلسلة من الغارات الجوية على الجانبين الشمالي والغربي من المستشفى، واستهدف مولدات الأكسجين.
وطالب أبو صفية مؤسسات حقوق الإنسان والمؤسسات الدولية بالتحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه جراء جرائم الحرب المتكررة التي أصبحت روتينًا يوميًا لدى الاحتلال.