25-نوفمبر-2024
بيت رامي أبو غزالة من الطين والحجارة في خانيونس

بيت رامي أبو غزالة من الطين والحجارة في خانيونس | أحلام حماد - الترا فلسطين

ينبش الفلسطينيون في خانيونس جنوب قطاع غزة وسط ركام منازلهم المدمرة ويستخرجون حجارة (قوالب البناء)، ويستصلحونها، ويستخدمها في إعادة ترميم أجزاء من المنازل المدمرة، بينما آخرون يبنون بيوتًا طينية متواضعة مجاورة للركام والأنقاض، ويقيمون فيها ويفضلونها على حياة الخيام.

يخلط الطين بالتبن ليعطي قوامًا بديلًا عن الإسمنت، ويستخدم في عملية البناء كي تتماسك الحجارة مع بعضها البعض، وتكون قادرة على مقاومة العوامل الجوية، في ظل الحرب الإسرائيلية المستمرة

في خانيونس، المدينة الأكبر من حيث المساحة في القطاع الساحلي، عاث جيش الاحتلال الإسرائيلي فسادًا وتدميرًا لنحو 4 شهور، عندما اجتاحها بريًا في الفترة من كانون الأول/ديسمبر 2023، وحتى نيسان/أبريل 2024، و"لم يُبق فيها حجرًا على حجر"، كما يقول أهل غزة تعبيرًا عن حجم الدمار الهائل.

ونالت المناطق الشرقية من مدينة خانيونس الحصة الأكبر من هذا الدمار، لقربها من "السياج الأمني" الإسرائيلي الذي يفصل قطاع غزة عن مستوطنات الغلاف، ومنه انطلقت قوات الاحتلال في اجتياحها البري للمدينة.

منطقة الزنة، وهي الأقرب إلى "السياج الأمني"، كان مرور الاحتلال بها كأن "زلزالًا مدمرًا أصابها"، ولم يبق فيها منزلًا أو شجرًا أو بنية تحتية، وقد حولتها جرافات الاحتلال وغاراته الجوية وقصفه المدفعي إلى خراب.

وكان للثلاثيني رامي أبو غزال منزلًا في هذه المنطقة لكنّه تحول إلى "أثر بعد عين"، ليخوض مع عائلته تجارب يصفها بالمريرة داخل خيام متهالكة لا تقيهم من حرارة الصيف ولا برد الشتاء وأمطاره، ومن هذه المعاناة تولدت لديه فكرة البناء باستخدام الطين، على غرار بيوت الأجداد قبل النكبة.

ركام المنازل في اعادة البناء
يُستخدم ركام المنازل في إعادة بناء المنازل | أحلام حماد - الترا فلسطين

يجول رامي (37 عامًا) في حديثه لـ "الترا فلسطين" ببصره في أرجاء المنطقة وقد لفَّها الدمار وأتى على كل شيء فيها، ويقول: "لم يبق لنا الاحتلال أي شيء، كل ممتلكاتنا مدمرة، منازلنا وأراضينا الزراعية وذكرياتنا (..) كله راح تحت جنازير الدبابات وانفجارات الصواريخ والقذائف".

ومن وحي تجربته القاسية في الخيمة، التي لم تسلم من نيران الاحتلال واحترقت مرات عدة، قرر رامي بناء منزل من حجارة منزله المدمر وباستخدام الطين عوضًا عن مادة الأسمنت المفقودة في قطاع غزة، حيث تمنع سلطات الاحتلال الإسرائيلي إدخال مواد البناء للقطاع المحاصر.

"كأن الاحتلال لا يريد لنا أن نستقر"، يضيف رامي، وهو يتحدث عن تدمير الاحتلال للمنزل الأول الذي بناه بهذه الطريقة، ويضيف: "بينما كنت منغمسًا في بناء منزل من حجارة الركام والطين توغلت قوات الاحتلال في المنطقة ودمرته كليًا".

لم يستسلم رامي، واستخلص حجارة من بين أنقاض منزليه المدمرين، وأعاد بناء منزل جديد، مبينًا أنه يخلط الطين بالتبن ليعطيه قوامًا بديلًا عن الإسمنت يستخدمه في عملية البناء كي تتماسك الحجارة مع بعضها البعض، وتكون قادرة على مقاومة العوامل الجوية، ولعلها تكون قادرة أيضًا على الصمود في وجه الاهتزازات الناجمة عن قوة الانفجارات.

يخلط الطين مع التبن ليكون بديلاً عن الاسمنت
يخلط الطين مع التبن ليكون بديلًا عن الإسمنت | أحلام حماد - الترا فلسطين 

واستخدم رامي ألواحًا من الصفيح -تعرف شعبيًا باسم الزينكو- لتغطية سقف المنزل الطيني، الذي حرص على تغطية جدرانه بقطع من البلاستيك للحفاظ على تماسكها وحمايتها من الأمطار. ويقول إنه انتشل قطعًا من الأثاث المدمر من بين الأنقاض وأعاد تدويرها واستخدامها كأبواب ونوافذ للمنزل الجديد. ويعبر رامي أبو غزال عن سعادته البالغة بهذا "الإنجاز"، وبانتقاله بعائلته لهذا المنزل بدلًا من الإقامة في خيام يصف الحياة فيها بالبائسة والقاسية.

لم يُعاصر رامي أبو غزال، هذا النمط من البيوت الطينية الذي كان سائدًا في فلسطين قبل النكبة في العام 1948، لكن الثمانيني حسن عدوان كان طفلًا في الخامسة من عمره عندما وقعت النكبة واضطرت أسرته إلى الهجرة من بلدتها بربرة، ورغم فارق العمر الكبير بينهما إلا أنهما يتفقان على أن "منزلًا من الطين أفضل ألف مرة من الخيمة".

ولا تزال صورة البيت الطيني الذي كان يقطن به قبل النكبة عالقة في ذاكرة عدوان، الذي كبر وترعرع في مخيم للاجئين، وتزوج وأنجب 11 ابنًا وابنة، وله 29 حفيدًا وحفيدة، ويقول: "هذا الجيل لا يعي بيوت الطين، ولا البيوت الصغيرة من القرميد التي أقمنا بها في المخيمات بعد النكبة"، ويضيف: "يبدو أن الأيام تعيد نفسها ونعود للخيام وبيوت الطين".

بيت من الحجارة والطين في خان يونس
بيت من الحجارة والطين في خانيونس | أحلام حماد - الترا فلسطين

وبعد شهور من العيش في خيمة تنقلوا بها من مكان إلى آخر، قرر أبناء حسن عدوان بناء منزل من الطين يقيمون به، بعدما دمرت قوات الاحتلال منزلين للعائلة مكونين من عدة طبقات في بلدة عبسان شرق مدينة خانيونس. ويضيف عدوان: "الشتاء مقبل علينا، والخيمة لا تصلح مع أجواء البرد والأمطار، سنقيم في هذا المنزل الطيني حتى يفرجها الله من عنده". لكن هذا اللاجئ المسن يخشى من توغل إسرائيلي مباغت على غرار مرات كثيرة سابقة يجبرهم على النزوح مرة أخرى.

ويبدو أحمد وطفة أفضل حالًا، إذ عاد إلى منزله في وسط مدينة خانيونس بعد انسحاب جيش الاحتلال، فوجده لا يزال قائمًا، ورغم ما لحق به من دمار كبير قرر وأسرته الإقامة به.

وخلال الشهور السابقة استخدم أحمد وطفة، قطعًا مع القماش والبلاستيك لتغطية أماكن الجدران المدمرة، ويقول لـ "الترا فلسطين"، إنه بعدما شاهد تجارب آخرين من أصحاب المنازل المدمرة في البناء من الطين، قرر إعادة بناء الجدران المدمرة باستخدام حجارة من الركام والطين.

"نريد أن نستر أسرنا ونحمي أطفالنا من البرد والأمطار"، يقول الرجل الأربعيني، الذي كان يعمل في مجال البناء قبل اندلاع الحرب وفقد عمله ومصدر رزقه الوحيد، ويضيف: "رحلة إعادة الاعمار لا تزال بعيدة وستمتد لسنوات طويلة ونريد الآن حلولًا سريعة".

كذلك هو الحال بالنسبة لوائل فرحان (49 عامًا)، الذي قرر بناء منزل صغير من الطين مكون من غرفة واحدة ومطبخ وحمام، بعد المعاناة التي عايشها وأسرته (5 أفراد) في الخيمة، ويقول لـ "الترا فلسطين": "هذه الخيمة لم تعد صالحة للعيش، لقد تهالكت من كثرة التنقل وطول مدة الحرب".

يؤكد وائل فرحان أن هذه الخيام "لم تصنع لمثل هذا الواقع الصعب في غزة، فهي خيامٌ للرحلات والتنزه والأوضاع الطارئة وليست للحروب الطويلة".

وكانت لأسرة فرحان تجربةٌ قاسيةٌ في الخيمة، إذ أصابتها شظايا صواريخ غارة إسرائيلية قريبة ذات مرة، كما غرقوا في مياه الأمطار في مرة أخرى خلال الشتاء الماضي. من هنا، يؤكد وائل فرحان أن هذه الخيام "لم تصنع لمثل هذا الواقع الصعب في غزة، فهي خيامٌ للرحلات والتنزه والأوضاع الطارئة وليست للحروب الطويلة".

خسر وائل فرحان منزله في شرق خانيونس، إذ دمَّره جيش الاحتلال الإسرائيلي كليًا ولم يعد صالحًا للسكن، وهو الآن يقول إن "بيتًا من الطين أفضل الخيارات في الوقت الحالي، ويوفر الخصوصية للنساء، وهي مفقودة في الخيام المتهالكة والمتلاصقة خاصة في منطقة المواصي"، حسب قوله.

وتشير تقديرات أولية صادرة عن هيئات محلية ودولية إلى أن الحرب الإسرائيلية تسببت في دمار هائل طاول كل مفاصل الحياة في قطاع غزة. ووفقًا لهذه التقديرات فإن نسبة الدمار تبلغ 86 في المئة، وتشمل مئات آلاف المنازل والوحدات السكنية التي نالها دمار كلي أو جزئي.