09-سبتمبر-2018

مثل إنسان أّوّل لا يجيد القراءة ولكن عيناه تخبرانه بأن هذا النّص نصٌ جميل، وأن هذه الكلمات تستحق الإعجاب، استمع لحوار رجل لاتيني وزوجته حول فستان. فستان أحمر باهت ومزيّن بورود بيضاء صغيرة، يضع الرجل كتف الفستان على كتف زوجته، ويشرح لها بالاسبانية ما لا أفهمه، وبينما تتنقل هي بنظرها بين المرآة وبينه، يبدو العالم مكانًا آمنًا الآن. كل شيء يسير على نحو بطيء وهادئ، وهكذا يبدو أنّ آدم وحواء يعودان إلى مكانهما الأول ربما.

  معجزة ما قد تحدث تجعل شعوبًا تسرد بإعجاب قصة الفلسطيني الذي أبقى على خيط الوصال مع بلاده المسروقة بشكل مؤلم وذكي في آن واحد 

العائلات اللاتينية في الولايات المتحدة الأمريكية هي الأقرب إلى القلب، وبعيدًا عن الألفة التي يسهل على اللاتينيين خلقها في قلبك من أول محادثة، وبعيدًا عن الخفة والبساطة التي تميّزهم، فإن هتافهم بعد التعرّف عليك "آآآه بالستينيا.." بالستينيا الكلمة الاسبانية التي تأسر القلب، ففيها ما يكفي من الحب لتعرف أنك لا تحتاج أن تشرح أين تقع هذه البلاد، أخيرًا ينظر إليك أحدهم دون علامات تعجّب واستفسار عندما تخبره من أين أنت، أخيرًا لن تكون إجابة هذا السؤال صعبة ومعقدة وتحتاج إلى خريطة!

الإعجاب بشعوب أمريكا الجنوبية عامة يتخطّى مشاعرهم الطيبة تجاه القضية الفلسطينية، فهو مرتبط بهم كأفراد ثم كعائلات ثم كجماعات (ثقافية/عرقية /قومية). الانتصار الذي أحرزته هذه الشعوب مجتمعة لم يكن ليكون لولا ثلاثة أبعاد للإعجاب هذا: بالفرد، العائلة والمجتمع اللاتيني الذي يضم أعراقًا وقوميّات مختلفة. الانتصار الثقافي والاقتصادي الذي حققه الأمريكيون الجنوبيون في جارتهم الشمالية يصلح ليكون دليلًا إرشاديًا للشعوب المحتلة.

حسنًا، حُبّهم للطبخ، حياتهم العائلية النشطة، أسرهم الكبيرة الممتدة وأطفالهم الذين يملأون المنتزهات ومراكز التسوق والمطاعم بالحياة، ليست مشاهد عاطفية تصيبك بالحنين لبلادك العربية فقط، بل تصيبك بحالة نادرة من الشفقة على نفسك ومن الفرح من أجل غيرك، والغيرة منه في نفس الوقت، ستقع فريسة لهذه الحالة في كل مرة تتصل على شركة التأمين الصحي ويكون أول ما تسمع "إذا كنت تتحدث الاسبانية اضغط واحد".

"أنا سعيدٌ من أجلكم" هذا ما تخبر نفسك به، ولكن هل أنت سعيدٌ حقًا من أجل نجاح غيرك الذي لا بد وأن يسلط الضوء على فشلك أنت؟ أم أن انتصار "الرجل الملون" على "الرجل الأبيض" هو ما يهم في هذه المرحلة، فأيًا كان لون هذا الرجل فإنه أمل لكل الشعوب الملونة لتعيد تصفية حساباتها مع الاحتلال الأبيض للعالم. إنها لعبة نفسية خطيرة ومرهقة على كل حال.

للحياة طريقتها الخاصة في تصفية حساباتها على ما يبدو، فالإنسان يمكنه أن يعود إلى بلادٍ طرد منها ويُجبر من طرده على تقبل وجوده بل ويجعله محتاجًا له. ماذا يخطر على بال الحياة يا تُرى وهي تشاهد طوابير العمال الفلسطينيين عند معبر (آيال)؟ هل يخطر على بالها أن تعيد ما فعلته وهي ترى  طوابير المهاجريين المكسيكيين والسلفادوريين والبورتوريكيون عالقين على الحدود مع أمريكا؟ المشهدان مختلفان ومتشابهان في آن معًا.

إنه المشهد الذي نكره ولكننا نبني عليه أملًا ما، يبدو هذا متناقضًا؟ ليس مشهد العمل في "إسرائيل" هو الطريق لعودة البلاد ولكن هل يمكنه أن يكون تمهيدًا له؟ فبينما نغرق في مشاكلنا الاقتصادية ونخسر حروبنا السياسية بسببها هل يمكننا استغلال الحاجة "الإسرائيلية" للأيدي العاملة الفلسطينية لتكون هي التمهيد الاقتصادي الذي يجلب التغيّرات السياسية؟ هل يمكن لأحدهم أن ينظر إلينا بإعجاب ذات يوم ويغازلنا كأفراد يعملون بشكل جدي ليعيلوا أسرهم ويقووا مجتمعاتهم اقتصاديًا؟

يقول صوت داخلي ليس الحل أن يعود الإنسان إلى أرضه المسروقة ويعمل فيها كأجير، يقول صوت آخر: ماذا لو كانت عودته يوميًا إلى أرضه تحميه من الفقر ومن النسيان؟ ليس الأمر بهذه السهولة ولكن معجزة ما قد تحدث تجعل شعوبًا تسرد بإعجاب قصة الفلسطيني الذي أبقى على خيط الوصال مع بلاده المسروقة بشكل مؤلم وذكي في آن واحد.


اقرأ/ي أيضًا:

في أبعاد الاستهداف الأمريكي لـ"الأونروا"

في العبث الثقافي مع درويش وحوله

الانتحار.. حين يبتسم الموت للنساء أكثر من الحياة!