17-ديسمبر-2017

غزيّون يحرقون صورة لترامب | عدسة: مجدي فتحي/ Getty Images

لم تعرف المنصّات الإعلامية والمحافل الدولية في العصر الحديث، تصريحًا مثل إعلان ترامب مدينة القدس عاصمة للكيان الإسرائيلي، فهو تصريح يحمل الكثير من التزييف والتحريف للتاريخ، ومخالف لكل المواثيق والأعراف الدولية، ويتجاوز 22 سنة من المفاوضات بين الجانبين؛ الفلسطيني والصهيوني.

ساعة الحسم في الولايات المتحدة الأمريكية بدأت في إعلان القدس عاصمة للكيان الصهيوني بعد أن اجتمعت جملة من العوامل والظروف داخليًا وخارجيًا؛ فعلى المستوى الداخلي، وتماشيًا مع إصدار الكونغرس الأمريكي عام 1995، في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون قانونًا يقضي بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس.  وجدت إدارة ترامب الفرصة السانحة لوضع هذا  الهدف  موضع التنفيذ، والسير قُدمًا نحو نقل السفارة إلى القدس. وذلك بتنفيذ أجندة الحملة الانتخابية لترامب بهدف زيادة شعبيّته لدى الناخب الأمريكي بعد أن تدنّت تلك الشعبية إلى أدنى مستوياتها منذ انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة.

قرار ترامب التاريخي في ذكرى مؤية إعلان وعد بلفور، لم يكن فقط نتاج أنانيّته المفرطة في تحقيق انتصارات لحظية، وإنما جاء نتاج تدهور حال الأنظمة العربية، التي باتت تسعى للتطبيع وقبول الكيان الإسرائيلي 

فقرار ترامب يأتي في إطار حشد المؤيدين لسياساته وخلق قاعدة جماهيرية مساندة له في مواجهة الضغوط الداخلية، إذ تتواجد جماعات ضغط قوية في الولايات المتحدة الأمريكية، يحاول ترامب استمالة عطفها وتحويلها إلى مناصر لسياساته الداخلية، علاوة على أن القرار يأتي تحقيقًا لرغبات المحافظين من الجمهوريين البروتستانت الذين يشكلون25% من القاعدة السياسية لترامب. إضافة الى إرضاء اللوبي الصهيوني في أميركا. ففي آذار/ مارس 2016، ألقى ترامب خطابًا أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية - الإسرائيلية (إيباك)، تعهّد فيه بنقل "السفارة الأميركية إلى العاصمة الأبدية للشعب اليهودي، القدس"، وبعد ذلك الخطاب انحاز الملياردير اليهودي، شيلدون أديلسون، مالك الكازينوهات الشهير (الذي أطلق اسمه على حيٍ في شرقيّ القدس، بعد الاحتلال مباشرةً)، والداعم للجمهوريين، إلى دعم حملة ترامب للرئاسة، وتبرع بمبلغ عشرين مليون دولار إلى إحدى اللجان السياسية الانتخابية المؤيدة لترامب، ثم تبرع مرةً أخرى بقيمة مليون ونصف المليون دولار لتنظيم مؤتمر الحزب الجمهوري الذي أعلن ترامب رسميًا مرشحًا رئاسيًا له.

أمّا على المستوى الخارجي؛ فقد لعبت حالة الانقسام والتشرذم والتفكك التي تعاني منها العملية السياسية في فلسطين، وأسهمت في غياب الرؤية حول آلية حل الصراع الفلسطيني- الصهيوني. إضافة الى حالة الضعف والمهادنة التي اتسمت بها أغلب الأنظمة السياسية العربية والإسلامية، ما ترتب عليه خروج بعض الدول العربية عن قاعدة الإجماع العربي والإسلامي والارتهان للسياسة الأمريكية، والقبول بالوجود الإسرائيلي، حيث وصل الأمر ببعض تلك الأنظمة إلى المجاهرة علنًا بأهمية التطبيع والتقارب مع الكيان الصهيوني.

علاوة على أنّ المسألة الفلسطينية لم تعد على سُلّم أولويات البيانات والقرارات الصادرة عن الجامعة العربية ولا سيما القمم العربية بشأن قضية القدس والتهويد القسري الممارس ضدها. وهو ما شجّع واشنطن على اتخاذ خطوات أحادية في طريق تصفية القضية الفلسطينية. ليس من المستبعد وجود اتفاق أمريكي مع بعض القوى الإقليمية ولا سيما الحليفة لها للسير في هذا التوجه على الرغم من الأصوات الرافضة والمنددة لهذا القرار.

ولا شك أن القرار الذي اتخذه الرئيس الأمريكي ترامب في حال المضي بتطبيقه، سيكون له آثار على المستوى الأمريكي، والمستوى الفلسطيني، وعلى المستوى الصهيوني .

أوّلًا: على المستوى الأمريكي:

1-    التراجع الاستراتيجي للدور الأمريكي في الصراع الفلسطيني- الصهيوني، لاسيما بعد السيروة الإقليمية والدولية الرافضة للقرار، حيث دعت خمس دول حليفة للولايات المتحدة (بريطانيا وفرنسا وألمانيا والسويد وإيطاليا) إدارة ترامب إلى طرح اقتراحات تفصيلية للتوصل إلى تسوية بين إسرائيل والفلسطينيين، إضافة الى تعاظم الدور الروسي في المنطقة بعد الحسم في سوريا.

2-    يعزل هذا الاعتراف الولايات المتحدة الأمريكية دوليًا، ويحوّلها إلى دولة لا تقيم وزنًا للقانون الدولي ولا لقرارات مجلس الأمن، التي أجمعت على اعتبار شرقيّ القدس أرضًا محتلة، ورفضت على مدى عقود الاعتراف بضمّها إلى إسرائيل (دان مجلس الأمن إعلان إسرائيل القدس عاصمتها الموحدة سنة 1980). وظهرت العزلة الأميركية بوضوح خلال الاجتماع الأخير الذي عقده مجلس الأمن لمناقشة الاعتراف الأميركي، حيث كانت المندوبة الأميركية نيكي هايلي وحيدة في موقفها المدافع عن قرار ترامب، وفي حملتها على المنظمة الدولية بتهمة "انحيازها" ضد إسرائيل.

3-    تعرض المصالح الأمريكية للمخاطر الأمنية مثل السفارات، ومكاتب التمثيل، خاصة في ظل حالة اليأس والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية السيئة، والصراعات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط منذ سنوات.

4-    تدهور علاقات الولايات المتحدة الأمريكية مع دول الاتحاد الأوروبي، ويظهر ذلك بعد تصريحات رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، والتي أشار فيها إلى أن سياسة إدارة ترامب تثير الشكوك والمخاوف في العالم.

5-     احتفاء المعسكر اليميني المتطرف في الولايات المتحدة الأمريكية، بالإنتصار على إرادة الشعب الفلسطيني.

ثانيًا: على المستوى الفلسطيني:

1-     انهيار إحدى مكونات المشروع السياسي الفلسطيني، والمتمثل بالدولة  على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

2-     إغلاق أغلب قضايا الحل النهائي التي تم تأجيلها في اتفاق أوسلو عام 1993، والمتمثلة في مدينة القدس، والاستيطان.

3-    مصادرة العديد من الأرضي والتوسع في المستوطنات بوتيرة لن تسبق لها مثيل، والحجة التي ستسوقها للعالم بأنها لديها اعتراف أمريكي بأن المدينة المقدسة هي عاصمة موحدة لها.

4-    تمرير مشروع قانون الأذان في القدس، الذي بموجبه يُسمح للسلطات الإسرائيلية منع رفع الأذان في القدس وبالبلدة القديمة لكون ذلك يسبب الضوضاء وخاصة صلاة الفجر.

5-    عودة فلسطين والقضية الفلسطينية على سلم أولويات الحكومات العربية والإسلامية بعد تدني حضورها على جداول أعمال القمم العربية والإسلامية.

6-    اندثار خيارات التسوية، والتي امتدت إلى رؤى قادة الفكر والباحثين والرأي العام في الساحة الفلسطينية،على اعتبار أنّ السلام غير مجد وأنّ الطرف الفلسطيني ليس لديه أوراق تفاوضية جيدة.

7-     انتهاء مبدأ حل الدولتين.

8-     زيادة معاناة الفلسطينيين، وذلك بممارسة سياسات الاعتقال التعسفي ضدهم، وارتفاع أعداد الشهداء.

9-    تهجير ما تبقى من الفلسطينيين في مدينة القدس والتضييق عليهم، وذلك في سبيل التحضير لنقل السفارة إلى مدينة القدس.

10- إعلان حالة التوافق الداخلي الفلسطيني، ورأب الصدع بين حركتي فتح وحماس.

ثالثًا: على المستوى الصهيوني:

1-    يمثّل الإعلان الأمريكيّ قمة الانتصار التفاوضي في قضايا الحل النهائي، وذلك بالحصول على مدينة القدس عاصمة "إسرائيل".

2-      لن تبقى الأمور هادئة، وسيظل التوتر سيّد الموقف.

3-     تعزيز مواقف الدول الإقليمية المعادية لإسرائيل، وفي صدارتها إيران وحزب الله.

4-    تحقيق مكاسب اقتصادية للمستوطنات، حيث تقاطع معظم دول الاتحاد الأوروبي المنتجات الزراعية للمستوطنات الإسرائيلية، لكونها منتجات صادرة من مستوطنات تم بناؤها بشكل "غير شرعي" على مناطق فلسطينية محتلة ، حيث قرر الاتحاد الأوروبي وسم المنتجات الإسرائيلية  بشعارات تؤكد أنها مزروعة في مناطق استيطانية، ما أدى الى خسائر فادحة في الاقتصاد الإسرائيلي وصلت في عام 2015 فقط لـ 154  مليون يورو.

5-    كذلك يؤدي القرار إلى تقويض المساعي الصهيونية للتقارب مع الدول العربية والتطبيع معها، بهدف دمجها في نظام الأمن الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، ف ظل ما تعتبره تطابقًا في الرؤى والمصالح فيما يتعلق بتهديدات إيران للأمن الإقليمي.

6-    يمكّن هذا الاعتراف الكيان الإسرائيلي، من فرض أمر واقع في مسار أي مفاوضات يمكن أن تحدث مع الجانب الفلسطيني، بعد ضمان القدس عاصمة لإسرائيل.

7-     يمثل الاعتراف بالنسبة للكيان الإسرائيلي أثرًا مهمًا في إسقاط صفة الاحتلال وشرعنة الممارسات الإسرائيلية.  

ما يمكن قوله؛ إن قرار ترامب التاريخي في ذكرى مؤية إعلان وعد بلفور، لم يكن فقط نتاج أنانيّته المفرطة في تحقيق انتصارات لحظية، وإنما جاء نتاج تدهور حال الأنظمة العربية، التي باتت تسعى للتطبيع وقبول الكيان الإسرائيلي كأمر واقع في المنطقة العربية. وما يجب على الجانب الفلسطيني عمله حيال هذا الإعلان  رسم خطة وطنية قوامها عدم الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، رفض فكرة التسوية على حدود عام 1967 والمطالبة بتحرير الأراضي المحتلة عام 1948. وذلك عبر استثمار حالة الاصطفاف العربي والإسلامي حول رفض قرار ترامب.