19-يونيو-2017

مع حلول وقت الغروب، تبدأ مرحلة تحضير الإفطار في معتقل "عوفر". كنا ندخل الغرف في تمام الساعة السادسة، يقرأ بعضنا ما تيسر من كتاب الله، أو يستمع للمذياع، أو يشاهد التلفاز، فيما ينهمك الطباخ بتجهيز الطعام والحلويات أحيانًا. 

والطباخ كان يأخذ دور الأم أو الزوجة في المنزل، كان يحق له تذوق الطعام من طرف لسانه، لمعرفة درجة ملوحته وقياس نسبة بهاراته، كما كان يوزع المهام على بقية سكان الغرفة، فأحدهم "يفرم" السلطة، وآخر يجهز "مطرة" الماء البارد، فيما يقوم ثالث بتوزيع حبات التمر وكاسة العصير وصحن "الشوربا" على عشرتنا.

الطباخون في المعتقلات نوعان، الأول محترف يتقن إعداد جميع أصناف الطعام، والآخر مهمته فقط إبقاء الأسرى على قيد الحياة

كان الطباخون متفاوتي المهارة. بعضهم كان محترفًا يتقن إعداد جميع الأصناف والأشكال، حتى نقر الكوسا ولف الملفوف، وبعضهم كان طباخًا بالاسم فقط، مهمته الوحيدة إبقاؤنا على قيد الحياة! الصنف الأول كان "يتقاتل" عليه الأسرى، كلٌ يريد أن يحظى بفرصة نقله إلى غرفتهم، وتنهال عليه العروض مثل لاعب كرة قدم عالمي. الشيخ حسن يوسف كان من هذا الصنف، كان يستلم إعداد الطعام من الألف إلى الياء رافضًا أن يساعده أحد، يضع الطعام في فم الأسرى ويمازحهم كما يمازح أبناءه. 

اقرأ/ي أيضًا: أعياد الأسرى.. قطايف و"بوظة" وشوق لتفاصيل صغيرة

في هذه الأثناء كان "المردوان" يمرر الهدايا والتبرعات من "الاشناف" (طاقة الباب الصغيرة)، بعضها كان من جيراننا في الغرف المجاورة. الهدايا كانت مختلفة: "كاسة بوظة، صحن شوربة، محاشي، زجاجة عصير، بسكوت". أما التبرعات فكانت متنوعة: كيلو رز عن روح والد أحد الأسرى، كيلو تمر عن روح والدة آخر.

كانت لحظات صعبة بحكم البعد عن الأهل، غير أنها كانت مشحونة بالروحانيات. كنا نقرأ المأثورات بشكل جماعي، وندعو دعاء الرابطة مستحضرين جميع إخواننا في مشارق الأرض ومغاربها. بعضهم كان مسجونًا في سجون إسرائيلية وفلسطينية وعربية.

بعد انتهاء الدعاء الجماعي، يغلق كل واحد منا "برشه" (سريره) بستارةٍ ما، ويدعو دعاءه الخاص، يلهج لسانه بتمتمات خافتة فاتحًا كفيه إلى السماء. ثم إذا رُفع الأذان، انقض كلٌ منا على الطعام، فلا تسمع إلا همسًا وقرقعة الملاعق، وصوت سحب الحساء ولوك الطعام. بعد دقائق تصبح الصحون كالصريم، وتصير قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا.

ينتهي الإفطار؛ وتفرغ أواني الطعام، فيبدأ دور فريق "الجلي". هذا الفريق كان متباين القدرات، بعض أفراده كانوا متمرسين بتنظيف الأواني وإزالة ما علق بها من دهون وحروق، وهؤلاء كانوا لا يأخذون وقتًا طويلاً لإعادة الغرفة إلى سابق عدها. فيما كان بعضهم مبتدئًا يمسك "ليفة الجلي والقشاطة" لأول مرة في حياته، لا يعرف من أين يبدأ وكيف يمسك "الطنجرة"، وهؤلاء كانوا يستغرقون وقتًا طويلاً مصحوبًا بتوجيهات أمير الغرفة، وتندّر وسخرية البقية.

كان يتخلل ذلك سقوط الأواني وتكسر بعضها، وحدوث هرج ومرج خلال عملهم. الفريق الأول كنا نطلق على عمله وصف "ألماني"، والثاني كنا نصف شغله بـ "الصيني"، كناية عن حسن الجودة أو رداءتها.

اقرأ/ي أيضًا: رسائل صغيرة كبيرة!

في إحدى ليالي رمضان، وبينما كُنّا نصلي التراويح في سجن عوفر، جاءنا زائر جديد على الغرفة، دخل علينا دون استئذان، وبدأ يزعجنا ويثرثر بصوت مرتفع حتى أذهب خشوعنا الخفيف أصلًا، كان كُلّ كلامه حرف الزاي.. لا يحسن نطق أي حرف آخر!

هذا الزائر كان صرصارًا على كل حال، بدأنا نبحث عنه ونلاحق صوت الـ (زززززززز)، من زاوية إلى أخرى... بين الأبراش (الأسرّة) وأواني الطبخ فلم نجده، داخل الأحذية وفي خزانات الملابس، واصلنا البحث حتى ضيّقنا عليه الخناق، وقبضنا عليه متلبّسًا بجُرمه كامنًا في سلة الخضار بين البصل. كانت فرحتنا عارمة، فقد خشينا ألا يقع في قبضتنا أو أن يدخل في فتحة صغيرة لا تطالها أيدينا ورماحنا ويزعجنا خلال النوم.

تمعّنا به قليلًا، فلأول مرة نتعرف عليه عن قرب، كان طويل الشاربين مصفح البدن بقشرة سوداء.

كثيرًا ما كُنّا نسمع صوته خارج السجن في فصل الصيف بين الحقول والسهول، وفي خلفيّة المسلسلات كصوت مرافق لليل الصافي مصحوبًا بنباح الكلاب. كان يُصدر هذا الصوت جذبًا للإناث في موسم التزاوج، كان حشرة صغيرة ولكن تخشاه كثير من النساء والفتيات أكثر من ضبع أو حنش.

بعدها اختلفنا حول كيفيّة التخلص منه، متجاهلين طلب أحد الأسرى الاحتفاظ به لنفسه داخل علبة صغيرة، بعضهم اقترح إلقاءه في الحمام وإغراقه بالماء، وبعضهم كان مُجرمًا فاقترح حرقه على "البلاطة"، في النهاية اتخذ أمير الغرفة قرارًا بفعصه، متجاهلًا اعتراضات أصحاب القلوب الرحيمة، وتوسّلات أنصار مدرسة الرفق بالحيوان، كان قرارًا صعبًا ولكن لا مفرّ منه. بعد إعدامه عُدنا للصلاة.

خلال صلاة التراويح، كُنّا نحاول خلق أجواء رمضانية داخل الغرفة، كُنّا نطفئ إنارة الغرفة أولًا، ثم نحضر أربعة مصابيح "التيبل لامب"، ونثبتها على الأبراش من الخارج، ثم قمنا بوضع فوق كل واحد منها كاسة بلاستيكية ملونة، حمراء وخضراء وبنفسجية وصفراء، حتى صارت غرفة ذات ألوان رومانسية مبهجة كسرنا فيها لون الإضاءة المعهودة. كُنّا نستريح بعد الركعة الثامنة نحضر "باب الحارة" ونأكل ما على وجه الطاولة، ثم نواصل صلاتنا وتهجدنا، بعضُنا كان يظلُّ مستيقظًا حتى مطلع الفجر.


اقرأ/ي أيضًا: 

طحين الأسرى وابتساماتهم

عندما فرض الأسرى إنهاء القمع مقابل وقف تشفير الوجوه

قطع رواتب الأسرى المحررين.. لا حس ولا خبر