16-أغسطس-2020

صورة توضيحية - gettyimages

إن الاتفاق بين الإمارات المتحدة والكيان الصهيوني المسمى"أبراهام" (الحفاظ على الاسم باللغة العبرية ليوحي بدلالاته الإسرائيلية) ليس هو حدث اللحظة، فالحدث الراهن (المّتزمِّن) هو الإعلان عنه، لماذا يعلن عنه الآن وفي هذه اللحظة؟

فالإعلان والاسم والتوقيت هو تعبير مفاهيمي سياسي عن واقع جديد يُمنح شكلًا واسمًا ليخلق لنفسه وجودًا ووظيفة سياسيّة هي دمج الكيان في المنطقة كمركز مهيمِّن

الإعلان ليس مجرد إعطاء اسم لواقع حدث ويحدث منذ فترة بين الإمارات و"إسرائيل"، إنّما هو مدخل مفاهيمي لما يخطط لتحقيقه في المرحلة القادمة. هو إعلانٌ يخلق الحدث الذي يعلنه، ألا وهو انطلاق مشروع تسريب صيغة جديدة في منطقة الخليج ومحيطه العربي.

اقرأ/ي أيضًا: غسيل الأشقاء على حبال تل أبيب

فالإعلان والاسم الذي حمله وتوقيته ليس مجرد إضافات لمسار أو حدث سياسي، بل هي مكونات الحدث وجزء منه (كحدث يتحقق) وجزء من سيرورة مخططة للحدوث، فالإعلان والاسم والتوقيت هو تعبير مفاهيمي سياسي عن واقع جديد يُمنح شكلًا واسمًا ليخلق لنفسه وجودًا ووظيفة سياسيّة هي دمج الكيان في المنطقة كمركز مهيمِّن.

الإعلان نفسه هو الحدث، لذلك، قدِّم بطريقة مكثفةٍ وموزعةٍ إعلاميًا، من خلال ثلاث أمكنة جغرافية اجتمعت في الوسيط الفضائي لتقدم (الحدث كحدث إعلامي افتراضي مكثف)، فقد تم تقديمه كحدث افتراضي (فضائي أكثر من كونه حدثًا واقعيًا). حدثٌ فضائيٌ افتراضيٌ يحمل اسمًا غيبيًا (اسم ديني أسطوريّ) يتضمن مفارقة تهكمية من ترامب (حيث قال كان الأجدر بالإتفاق أن يحمل اسمي "ترامب")، وهذه كلها ليست شكليات، بل هي الحدث نفسه أو الشكل الذي يمنح للحدث الدلالة السياسية والوظيفة الاختراقية.

فشكل الإعلان عن الحدث وطريقة تقديمه ليس شيئًا منفصلاً عن الحدث، بل هو ما احتاجه الحدث لكي يَمنح لنفسه شكلاً، فالحدث لم يأخذ شكل الصدمة الواقعية التي وسمت زيارة السادات للقدس، ولم يأخذ الطابع الدولي مثل (مؤتمر مدريد) ولا شكل التوقيع الاحتفائي الاحتفالي كما في اتفاقيات أوسلو وتوقيعها من قبل رابين وبيريز وعرفات في واشنطن بحضور كلينتون، بل تم تقديمه كما لو أنه حدث افتراضي (جوهره مكالمات هاتفية، ووساطات شبحية) أفضت إلى مشاهد إعلامية مبثَّة تلفزيونيًا، تبدو أقرب إلى التغريديات الفيسبوكية والتويترية.

إن هذا الشكل المختلف في التقديم ليس مجرد شكليات، وإنما هو خيار مدروسٌ ومخططٌ له، يمكن أن يقال أنه نوع من التجسيد السياسي لممكنات العصر الرقمي، أو هو نوعٌ من خلق افتراضية الحدث للتخفيف من ثقله السيكولوجي على المتلقين، أو نوع من خلق زوبعة تبدو كما لو أنها افتراضية تبدأ في العالم الافتراضي (الفيسبوك وتويتر) وتنتهي على جدرانه. قد يكون كل هذا في ذهن المصممين للإعلان والمخرجين له بشكل واعٍ أو غير واعٍ، لكن ما يجب أن نفكر فيه هو علاقة هذا الشكل بالمضمون الذي يعكسه ويتشارط معه في إنتاج الحدث والمعنى، فالشكل ليس مجرد وسيط بسيط ينقل مضمونه، بل هو -إذا لم يكن المضمون نفسه- فإنه في أبسط مقاربته هو من يمنح للمحتوى شكله وقدرته على الوجدود والفعل.

يظهر أنّ الهدف من الإعلان هو إعلان الاتفاق أو التحالف بدل الابقاء عليه ضمن شكله المستتر، ما يعني أن الغاية من الإعلان هو خلق علانيته وتحويله إلى نموذج لتحالف مرئيّ

ومن تحليل هذا الشكل في علاقته بالمضمون، يظهر أنّ الهدف من الإعلان هو إعلان الاتفاق أو التحالف بدل الابقاء عليه ضمن شكله المستتر، ما يعني أن الغاية من الإعلان هو خلق علانيته وتحويله إلى نموذج لتحالف مرئيّ، ثم يأتي اختيار الشكل الافتراضي الرقميّ، ثمَّ منحه اسم (ابراهام الديني الأسطوري).

اقرأ/ي أيضًا: طاقية حاييم التي نسيها في اليمن

وطبقًا للقاعدة الجدلية، "الجوهر يظهر والظاهرة جوهرية"، فإن ما يظهر على السطح ليس إلا تجليات الحدث الداخلية ومنطق عمله الوظيفي، وهو أيضًا صعود العمق ومكوناته الداخلية إلى السطح بأشكال مختلفة، "فالسطح عند جيل دولوز ونيتشه" هو ما يشكل الحدث، وهو عمقه المقلوب.

ولهذا يمكن القول إن الهدف من الإعلان عن التحالف والتعاون بين الإمارات و"إسرائيل" هو كشف التحالف وإظهاره بشكل علني لخلق مرئيتيه كي يلعب دوره كنموذج في تحقيق اختراقات جديدة في الخليج العربي وجزيرة العرب. اختراقات تبدأ على مستوى الوعي أولاً ثم على مستوى السياسة والجغرافيا، من خلال لعب دور سيكولوجي في التهيئة الذهنية لقبول "إسرائيل" في منطقة الخليج، فالرفض والقبول هو مسألة وعي وممارسة معًا، ما يعني أن الإعلان أعلن عنه ليلعب دوره كمولد لنماذج جديدة واتفاقيات أكثر خطورة، بدأنا منذ الساعات الأولى للإعلانِ نَلمحُ إطلالاتها.

تم تكييف الإعلان ليوجه لدول الخليج العربي بخصوصيتها القومية والجيوسياسية وعلاقتها غير المباشرة في الصراع، لذلك تم البحث عن نموذج ليس كامب ديفيد أو (مدريد-أوسلو) وأخواتها، ما جعل من الاتفاق ومن الإعلان عنه نوعًا من التجاوز لما سبقه أولاً، ثمَّ تقديم نموذج يمكنه الاشتغال في حقل النفط وأسواق الاستثمار المعولمة بشكل جديد ونموذج يملك قابلية التعميم.

هذا إعلان للتحالف بين إسرائيل والإمارات لتقديم صيغة جديدة للمشروع الاستعماري خاصة بمنطقة ولحظة وسياق هو سياق الخليج العربي في هذه المرحلة من تاريخه

فليس من مبرر آخر لهذا الإعلان، فهو ليس إعلان سلام أو إنهاء حرب، حيث لا حرب ولا صراع موجودًا أو قد يوجد بين "إسرائيل" والإمارات، وبالتالي فهو إعلان للتحالف (تحالف بين إسرائيل والإمارات) لتقديم صيغة جديدة للمشروع الاستعماري، صيغة خاصة بمنطقة ولحظة وسياق هو سياق الخليج العربي في هذه المرحلة من تاريخه.

وهذا واضح من لماذا جاء هذا الإعلان بين "إسرائيل" والإمارات؟ ما الذي يجمع "إسرائيل" والإمارات؟ وما الفرق بينهما؟ إن خطورة هذا التعاون بين "إسرائيل" والإمارات نابع من فرق الاختلاف (التطور غير المتكافئ) من جهة والتشابه الوظيفي من جهة أخرى. فرق الاختلاف بين البنية الاقتصادية والمجتمعية، حيث البنية الإسرائيلية المجتمعية المتمركزة عرقيًا ودينيًا، بنية اجتماعية (عنصرية) متمحورة حول هوية مغلقة مبنية على (دمج التفوق الديني والخصوصية الكيانية) والقائمة على الإنتاجية المعرفية والاقتصادية المبنية على فكرة الاختراق الاقتصادي والهيمنة السياسية الاستعمارية، وبين البنية الإماراتية القائمة على بنية اجتماعية ونمط اقتصادي نفطي عقاري بنكي (معولم) يشكل نمطًا اقتصاديًا جاذبًا للاستثمار ومهيَّأ لاستقباله، ما يعني أن الاتفاق بين طرفين يختلفان في البنية والمضمون؛ لكن يمتلكان الشرط الموضوعي لعبور الاتفاق ونجاحه، من خلال توفر (فرق النمو والإنتاج من جهة وفرق قابلية الاستقبال والتبعية) بين بنية استعمارية تملك كل عوامل الهيمنة وبنية أخرى تملك كل شروط التبعية، منفتحة لاستقبال الآخر حتى لو كان الهيمنة نفسها.

وتأتي الفروق بين البنيتين الاجتماعيتين والثقافيتن منسجمة مع الفرق الاقتصادي، ليس فقط لكون البنى الاجتماعية مشروطة بأنماط الاقتصاد والإنتاج فقط، بل بسبب خصوصية البنيتين في الكيان الصهيوني والإماراتي، حيث يختص الكيان الصهيوني بفعل عملية تشكله الاستعماري الإحلالي والطبيعة الأيديولوجية التي تشكله ويشكلها ببنية متمركزة عرقيًا ودينيًا تمتاز (بالغيتو) غير منفتحة ومستحيلة على الاختراق، في حين أن البنية الاجتماعية في الإمارات بنية منفتحة وقائمة على الهجنة العرقية والدينية تمتاز بقبول الآخر بسهولة، وهذه السهولة تتحول في حال التعاون مع البنية الأولى إلى فقدان شروط المناعة الوطنية وسهولة الاختراق والتبعية.

الاتفاق واسمه يعمل على خلق فضاء تعايش ميتافيزيقي كتعويض متخيل عن التعايش السياسي في الفضاء الجيوسياسي الواقعي.

أن اختيار اسم "أبراهام" للإعان عن الاتفاق، اسم محمل بثقل ديني ودلالات أسطورية وميتافيزيقية متعددة تبعًا لعمليات النقل والتأويل من النصوص الدينية الى العمليات الاجتماعية والثقافية. فهو محمل بدلالات التوحيد والتقارب بين الأديان الثلاثة من جهة، لخلق نوع من الإيحاء الوهمي بإمكانية التعايش، عبر خلق إمكانية اسطورية دينية كبديل للإمكانية السياسية المرفوضة والمحاربة من قبل الاحتلال وسياساته، فالاتفاق واسمه يعمل على خلق فضاء تعايش ميتافيزيقي كتعويض متخيل عن التعايش السياسي في الفضاء الجيوسياسي الواقعي.

اقرأ/ي أيضًا: تجريب التطبيع ومتلازمة الكلب الضال

وأبراهام كاسم للاتفاق يحمل خطورة سيميائية دلالية، فهو اسم لشخصية دينية ولكنه صورة رمزية ميتافيزيقية للمقولات الصهيونية عن الارتحال والمنفى والعودة، فأبراهام كدلالة هو محاولة لخلق صلة بين الكيان الصهيوني وميلاد أبراهام في جزيرة العرب ثم الهجرة منها إلى فلسطين عبر مصر. تلك الشخصية والرحلة المثقلة بالمقولات الصهيونية عن الارتحال والعودة والتطهر والتضحية.

 ومع ذلك، فإذا أراد مطلقو التسمية اللعب على دلالة الاسم كاسم مقدس في الأديان الثلاثة التي تشكل وجدان شعوب المنطقة، فإن حقيقة الاتفاق والتسمية تعكس الدلالة المعاكسة، فهي تمثل عملية اغتصاب فلسطين واستعمارها صهيونيًا على شكل تصور غيبي في شكل رحلة دينية. وتمثل أيضًا نبوءة استباقية بعودة الصهيوني المرتحل لأرض ولادته الأولى، أي انتقال السيطرة الإسرائيلية من فلسطين إلى جزيرة العرب مرورًا بمصر والأردن.

ما يعني أن الاتفاق وصيغة الإعلان عنه باسم أبراهام المحمل بهذه الدلالات الميتافيزيقية الدينية والشكل الافتراضي يمثل نوعًا من "المسرحة" التي تقوم على استبدال الواقع السياسي بمحاكاة دينية وأسطورية بائسة، وعبر تأطير يأخذ شكلاً افتراضيًا أقرب إلى المحاكاة الهزلية لإخفاء عنف الواقع والتبعات التراجيدية على فلسطين والمنطقة العربية عامة ومنطقة الخليج خاصة.

فالإعلان عن الاتفاق تحت هذا الاسم هو نوع من الإيحاء بدلالة التطهر الإسرائيلي من (إثم المستعمر وما ارتكب من تطهير عرقي وتهجير وإبادة) بتقديم فلسطين وقضيتها كضحية على عتبة منطقة جديدة وعصر جديد.

المقترح هذه المرة هو شرق أوسط  خال من فلسطين كجغرافيا تاريخية ومشروع سياسي، عبر صيغة تقترح هوية جديدة للمنطقة

فاتفاق أبراهام هو عنوانٌ جديدٌ لمشروع الشرق الأوسط بصيغة جديدة، صيغة بديلة لما كان مطروحًا من قبل "إسرائيل" شمعون بيريز، فالمقترح هذه المرة هو شرق أوسط خال من فلسطين كجغرافيا تاريخية ومشروع سياسي، عبر صيغة تقترح هوية جديدة للمنطقة هي (الهوية ما بعد القومية أو بعد الوطنية) باتجاه هوية مهجنة بين النموذج الصهيوني الاستعماري والنموذج الإماراتي كمنوذج اقتصادي معولم متغرب عن سياقه وغريب عنه.

الخطورة التي يجب الانتباه لها هو كونه اقتراحًا لصيغة فوق قوميةً أو فوق وطنية للمنطقة كلها، حيث هو محاولة لتقديم هوية مزجية بين النموذج الكوزموبوليتاني الإمارتي (المدينة المعولمة) وبين "إسرائيل" القوة الاستعمارية التي تمثل الرأسمالية العالمية في صورتها الهيمنية عسكريًا واقتصاديًا.

إن الصيغة المقترحة عبر هذا التوجه هي صيغة محو واضطهاد معًا، ليس لفلسطين والفلسطينيين فقط بل للمنطقة وهويتها ببعدها العربي والشرقي، وصيغة اختراق لدول الخليج والجزيرة العربية، صيغة تقدم نموذجًا جديدًا لدول تعاد صياغتها اقتصاديًا واجتماعيًا حسب النموذج الإماراتي وتخضع بشكل مباشر للهيمنة الأمريكية من خلال هيمنة إسرائيلية مباشرة، لهذا يأتي هذا الاتفاق لخلق شبكة علاقات جديدة بين المركزين الأكثر خطورة على هوية المنطقة، مركز القوة المهيمن الساحق للهوية العربية -أي إسرائيل- والمركز المفرغ والفارغ من القوة والمعنى الجاذب أو المشتهي للامتلاء. الامتلاء الذي لا يمتلء ولا يمل من فراغه معًا.

لذلك، فإن الأمر يتطلب وقفة مزدوجة: لأجل قراءة تحليلية عميقة تظهر خطورة هذا التوجه وتكشف آثاره على المنطقة وشعوبها، وتظهر الخطورة الاقتصادية والثقافية الناتجة عن هذا المسار، ما يعني البحث في ممكنات المعرفة وضرورات وآليات المواجهة معًا، لأجل وقفة سياسية تخاطب شعوب المنطقة بخطاب يمس هويتها ويحشدها تبعًا لمصلحتها لكي لا يتاح لهم صياغة خريطة المنطقة بهوية جديدة، هوية أمة منتشية باغتصابها وبالهيمنة علي وجودها وممكناتها.


اقرأ/ي أيضًا: 

يهود الشرق: أسئلة وفصام الهوية

عن الخلاص الصهيوني: القدس شرطًا لعودة المسيح