يواجه المجتمع الفلسطيني تحديات صحية صعبة من بينها مرض التوحد بمستوياته وأنواعه المختلفة، وفي مقدمتها طيف التوحد الذي لم تقتصر آثاره المادية والمعنوية على الأطفال وحسب، بل انعكس في محصلته على الأسرة والمجتمع. اللافت في هذا الميدان ارتفاع معدلات الإصابة بالتوحد واضطراباته وتفاقم نتائجها في أوساط المجتمع الفلسطيني ما ضاعف همومه وتحدياته حاضرًا ومستقبلًا.
المجتمع الفلسطيني يواجه تحديات في التعامل مع اضطراب طيف التوحد بسبب نقص الوعي والخدمات المتخصصة، والأوضاع السياسية والاقتصادية الصعبة. كما تعاني الأسر من ضغوط نفسية واجتماعية. هناك جهود، لكن الوضع ما يزال بحاجة إلى دعم متعدد الأطراف
واستنادًا إلى الزيارات الميدانية لمراكز العناية بأطفال التوحد، تبيّن أن الطفل المصاب باضطراب طيف التوحد (ASD) يعاني من اضطرابات عصبية معقدة تؤثر في أنشطته الحيوية وسلوكه ومهاراته وقدراته على الاتصال بالآخرين. وتتفاوت مستويات اضطراباته من حالة لأخرى، ما يؤدي لصعوبة واضحة في التفاعل الاجتماعي بين الأطفال المصابين، ويشعر المتابع لنشاط الأطفال بأن سلوكهم مقيّد ومكرر إلى حد كبير، الأمر الذي يعكس حجم الأعباء والتحديات الاجتماعية، الاقتصادية، الملقاة على عاتق الأسرة التي تعاني من وجود طفل مصاب أو أكثر من بين أطفالها، والآثار الاقتصادية والاجتماعية والنفسية المترتبة على الحياة العامة للمجتمع.
ورغم غياب البيانات الرقمية الرسمية المفصلة حول حجم الظاهرة في المجتمع الفلسطيني، إلا أن الأرقام التقديرية تشير إلى نسبة المصابين بالتوحد تنسجم إلى حد كبير مع المعدلات العالمية، وتصل إلى ما يقرب من 1% من إجمالي السكان. ومع ذلك، تتفاقم التحديات المتعلقة بالتشخيص والعلاج بسبب نقص الموارد والخدمات المتخصصة. ومن أهم التحديات التي تواجه اضطرابات التوحد في المجتمع الفلسطيني على صعيدي التشخيص والعلاج:
نقص الوعي المجتمعي: ما يزال الوعي بالتوحّد محدود النطاق، ويُنظر لأعراضه في كثير من الأحيان على أنها سلوكيات غير طبيعية دون إدراك حقيقي لحقيقة الاضطراب. ما يؤدي إلى تأخر التشخيص وتوفير العلاج أو التدخل اللازم.
قلة المراكز المتخصصة: رغم وجود ظاهرة اضطرابات طيف التوحد في المجتمع الفلسطيني وحاجته الملحة للتشخيص والعلاج إلا أن فلسطين تعاني من نقص حادّ في المراكز المتخصصة لتشخيص وعلاج التوحد، وعلى وجه التحديد في الأرياف والمناطق النائية. وتتركز خدماتها في المدن الكبرى، ما يضيف عبئًا إضافيًا على الأسر التي تسكن في أماكن بعيدة، ويجعل الوصول إلى الرعاية الصحية المتخصصة أمرًا في غاية الصعوبة في مثل هذه الظروف.
الأوضاع السياسية والاقتصادية: تؤدي الأوضاع السياسية المضطربة، بما في ذلك الحصار في قطاع غزة، وما أعقبه من حرب شاملة إلى تقييد الحركة وصعوبة الوصول إلى الخدمات الصحية. كما أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة تُثقل كاهل الأسر، ما يقلل من قدرتها على تحمل تكاليف العلاج والخدمات المتخصصة.
التحديات النفسية للأسر: تعاني الأسر الفلسطينية من ضغوط نفسية واجتماعية متزايدة بسبب الصعوبات اليومية، وازدادت حدة ذلك منذ السابع من أكتوبر 2023 حتى اليوم، ما يجعلها أقل قدرة على التعامل مع تحديات رعاية طفلها المصاب بالتوحد، وقد يؤدي ذلك إلى زيادة الضغط على الأمهات بشكل خاص، حيث يقع عليهن الجزء الأكبر من العبء في توفير الرعاية.
وفي ضوء الزيارات الميدانية لمراكز التوحد والدراسات والتقارير المتخصصة الصادرة عنها والتي تشعر ليس بوجود ظاهرة اضطرابات التوحد في المجتمع الفلسطيني وحسب بل تصاعدها ونموها نتيجة للتحديات الصعبة التي يواجهها فان آثارها الاجتماعية قد ارتفعت مستوياتها بشكل ملحوظ وتتمثل في عدة مجالات ومن أهمها:
الوصمة الاجتماعية: يواجه الأفراد المصابون بالتوحد وأسرهم نظرة سلبية أو وصمة مجتمعية نتيجة عدم الفهم الكامل للاضطراب. بحيث يُنظر إلى التوحد على أنه "إعاقة" وبالتالي من الصعب على الطفل المصاب المشاركة في الحياة المجتمعية بشكل طبيعي حاضرا ومستقبلًا.
التحديات التعليمية: النظام التعليمي في فلسطين يواجه صعوبات كبيرة في تلبية احتياجات الطلاب المصابين باضطرابات التوحد. والمدارس التي تقدم برامج تعليمية متخصصة أو دمج فعال للأطفال المصابين بالتوحد لا تزال محدودة. ناهيك عن وجود صعوبة كبيرة في توفير الكوادر التعليمية المدربة على أساليب التعامل مع هؤلاء الأطفال وتوفير بيئة تعليمية داعمة.
الدعم النفسي والاجتماعي: تحتاج الأسر الفلسطينية التي لديها أطفال مصابون باضطرابات التوحد إلى الدعم النفسي والاجتماعي بصورة أكبر من جانب الدوائر الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة، والتي يصبح معها توفير الدعم للأسر أولوية وطنية لتخفيف العبء وتعزيز قدراتها في رعاية أطفالها.
وبالرغم من تنامي الظاهرة وتحدياتها وآثارها الصعبة إلا أن المجتمع الفلسطيني تقدم بخطوات طموحة وملموسة لرفع الوعي وتحسين جودة الحياة للأفراد المصابين باضطرابات التوحد وأسرهم ويمكن أن نلحظه في العديد من الجوانب ومن أهمها:
دور الجمعيات المحلية: تقوم بعض الجمعيات والمنظمات غير الحكومية بتقديم خدمات رائدة، تشمل العلاج السلوكي، الإرشاد الأسري، والتدخل المبكر. كما تسعى إلى تنظيم حملات توعية لتعزيز فهم المجتمع بالظاهرة وآثارها على كافة الأصعدة.
التدخل المبكر: تسعى البرامج المتاحة إلى تعزيز التشخيص المبكر وتقديم العلاج المناسب للأطفال الصغار، حيث يساهم التدخل المبكر في تحسين مهارات التواصل والتفاعل الاجتماعي.
المبادرات التعليمية: تبذل محاولات لتحسين الدمج المدرسي للأطفال المصابين بالتوحد، من خلال برامج تعليمية متخصصة تهدف إلى تلبية احتياجاتهم الفريدة.
وبموجب ما تقدم نخلص إلى نتيجة مؤداها أن اضطراب طيف التوحد في المجتمع يمثل تحديًا صعبًا للطفل والأسرة والمجتمع، وأن مواجهته يتطلب تضافر الجهود على كافة المستويات الرسمية وغير الرسمية، وحفز وزارة الصحة ودوائر الإرشاد والجامعات ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص للعمل معًا لمواجهة تحدياته وآثاره والعمل الجاد على زيادة الوعي، وتطوير الخدمات، بالتشخيص المبكر وتعزيز الدعم النفسي للأسرة وتحسين حياة الأطفال المصابين وضمان حقوقهم بالاندماج والمشاركة بالمجتمع. وتعزيز الوعي المجتمعي عبر حملات التوعية الوطنية المؤثرة في تغيير نظرة المجتمع تجاه المصابين وحثهم على التشخيص المبكر وفهم الأعراض، ودمجهم في المجتمع، وتطوير البنية التحتية للخدمات الصحية والتعليمية وتعميها على المناطق الأقل حظًا ورفدها بالبرامج التعليمية والتدريبية للمعلمين والأخصائيين النفسيين لتزويدهم بالأدوات والمهارات اللازمة لدعم الأطفال المصابين بالتوحد، وتعزيز الشراكات مع الهيئات والمنظمات الدولية والتي يمكنها أن تساهم في تحسين جودة الخدمات المقدمة للأفراد المصابين من خلال نقل المعرفة والخبرات، وتوفير التدريب المتخصص، ودعم الجهود المحلية.