19-يناير-2019

تصاعدت اقتحامات جيش الاحتلال الإسرائيلي لمدينة رام الله، حيث مقر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، والمؤسسات والبعثات الدولية، ومقار منظمة التحرير وحركة وفتح والسلطة، وقد داهم جنود الاحتلال مؤسساتٍ رسميةٍ وأهليةٍ كما حدث باقتحام مقر وكالة الأنباء الرسمية ”وفا"، ومحلاتٍ تجاريةٍ ومنازل، إذ فتش الجنود هذه المؤسسات وصادروا كاميراتٍ واعتقلوا وعربدوا، وقد ازدادت وتيرة هذه الاقتحامات منذ عمليتي بيت ايل، و"جفعات أساف" التي أدت إلى مقتل وإصابة جنود ومستوطنين إسرائيليين.

 بعد إعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وانتشارها للعمل في مدن الضفة، استمرت الاقتحامات الإسرائيلية لكافة مناطق الضفة، إلا أن الاقتحامات الأخيرة لمدينة رام الله كشفت عن تفاهماتٍ بين إسرائيل وأطرافٍ دوليةٍ على تقليل اقتحامات رام الله لعدم إحراج السلطة، ولإبقائها في المسار السياسي والأمني الحالي، وقد تجلى ذلك في الرد الإسرائيلي على استفسارات البعثة الروسية في رام الله؛ التي أشارت إلى أن جيش الاحتلال وصل إلى محيط مقرها في رام الله، فجاء الرد بأن الجيش سيدخل كلما اقتضت الحاجة، مع حرصه على عدم المساس بالمؤسسات الدولية، قبل أن يُعلن مسؤولٌ إسرائيليٌ عن موافقة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الاقتحامات، مما يشير إلى أن شيئًا تغير بهذا الخصوص.

تجاوزت اقتحامات رام الله البعد الأمني، فإسرائيل تُريد إنتاج شريحة فلسطينية رافضة للعمليات

أثارت الاقتحامات الإسرائيلية موجة من النقاش الفلسطيني خاصة ما يتعلق بموقف السلطة، في الوقت الذي يلتزم فيه آلاف العناصر الأمنية مقارهم أثناء عمليات الاقتحام. فيما هددت السلطة باتخاذ إجراءاتٍ في حال لم توقف إسرائيل اقتحاماتها للمدينة، ودعت القوى الوطنية في رام الله، المواطنين والموظفين في الدوائر للتصدي لعربدة الاحتلال واقتحاماته.

اقرأ/ي أيضًا: سلطتان من ورق وحطب على عامود خيمة المنسق

تجاوزت الاقتحامات العسكرية البعد الأمني، خاصة بعد اغتيال الشهيد صالح البرغوثي واعتقال شقيقه عاصم، وهما من تتهمها سلطات الاحتلال بالوقوف خلف العمليات، كما صادرت قوات الاحتلال الكاميرات المنصوبة على المؤسسات والمحال في رام الله، حيث لم تعد الرواية الأمنية الإسرائيلية مقنعة، ولم تعد العربدة و"الزعرنة" الإسرائيلية لـ"الزعرنة" فقط، بل تريد إسرائيل تحقيق أهدافٍ أمنيةٍ وسياسية.

تزامُن الاقتحامات مع الانتخابات الإسرائيلية يخدم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، فهي تُظهره بأنه الأقوى والأقدر على التعامل مع الفلسطينيين، فالجيش الإسرائيلي يصول ويجول في "عاصمة السلطة"، وفي محيط مقارها الرسمية والسيادية، فيما تحافظ السلطة على سياستها الحالية، خاصة التنسيق الأمني، بشهادة قيادة السلطة، واعتراف رئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت بأن التنسيق الأمني منع وقوع عمليات.

هذه الاقتحامات على صلة أيضًا بعمليات المقاومة التي وقعت في بيت إيل، وشكلت ضربة نوعية للمشروع الاستيطاني الأمني الإسرائيلي في الضفة، فإسرائيل تُريد من اقتحاماتها لرام الله حرمان الفلسطينيين من الشعور بالفرحة والنشوة التي سادت المجتمع الفلسطيني بعد العمليات، وهي ترى أن ذلك سيؤدي لخلق بيئة كفاحية قد يتم التعبير عنها بعملياتٍ، أو بما يسمى "عمليات التقليد" لتلك العمليات الناجحة.

وتعتقد المؤسسة الإسرائيلية أن الاقتحامات تضرب معنويات الفلسطينيين، حين يروا الأجهزة الأمنية الفلسطينية تلتزم مقارها أثناء الاقتحام والعبث والتخريب الإسرائيلي، فيما بعض الفتية يرشقون الجيش الإسرائيلي بالحجارة، لتعود الأجهزة الأمنية للانتشار والعمل بعد مغادرة الجيش الإسرائيلي وكأن شيئا لم يحدث، حيث الرسالة التي تريد إسرائيل إيصالها للمواطن في هذا السياق، أنها المتحكم في تفاصيل الحياة الفلسطينية، بما فيها السلطة التي تنتهي سلطتها مع دخول الجيش الإسرائيلي لداخل المدن، وصولاً لما يسمى سياسة كي الوعي.

تسعى إسرائيل إلى تهيئة المنطقة لمرحلةٍ جديدةٍ من صلاحيات السلطة، لن تتجاوز خلالها السلطة صلاحيات البلديات

تريد إسرائيل من سياسة كي الوعي تحميل الضحية الفلسطينية مسؤولية معاناتها وتبرئة المجرم الإسرائيلي، وإيصال رسالة واضحة بأن المجتمع الفلسطيني برمته سيدفع أثمانًا كبيرة مقابل أية عملية، وذلك لإنتاج شريحة فلسطينية تقاوم عمليات المقاومة باعتبار خسارتها أكثر من أرباحها، وصولاً لمعادلة الهدوء مقابل الهدوء والحياة الآمنة الفلسطينية، بعيدًا عن أي حقوق سياسية أو وطنية.

في السياق السياسي الأشمل، تسعى إسرائيل إلى تهيئة المنطقة لمرحلةٍ جديدةٍ من صلاحيات السلطة، لن تتجاوز خلالها السلطة صلاحيات البلديات، فيما سيتم تحويل دور الأمن الفلسطيني إلى شرطة بلدية ونظام، بعد نزع إسرائيل صلاحيات السلطة الأمنية في الضفة، وهذا هو جوهر مستقبل سلطة الحكم الإداري في الضفة.

تجاوزت الاقتحامات الإسرائيلية لمدينة رام الله إذًا الحسابات الأمنية، وهي تُشكل بداية لمرحلة حل البلديات، وإسرائيل تبدو مطمئنة لعدم قدرة القيادة الفلسطينية على إفشال المشروع بعد نجاحه، وتعايش مؤسسات السلطة مع الاقتحامات اليومية في مناطق الضفة الأخرى.


اقرأ/ي أيضًا:

موريس: الدولة الواحدة حقيقة مستقبلية

صفقة القرن بين تسريب واحتجاجات.. إلى أين وصلت؟

الانقسام: مصلحة إسرائيلية ومستقبل فلسطيني مجهول