01-أبريل-2020

"قديش حاولت أقنع حالي إنه حصار بيروت انتهى، بس لسة الحصار منتهاش". كانت تلك الأنفاس الأخيرة لشخصية العقيد "أبو باسل" المتخيلة قبل استشهادها برصاص الاحتلال، والتي كانت من أداء الممثل والمخرج المنفذ بسام قطيفان في مسلسل الاجتياح عام 2007.

مسلسل الاجتياح جسد فترة أثيرة من الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والمساحة الأكبروالأجمل كانت من نصيب معركة مخيم جنين

العمل الفني المذكور جسد فترةً أثيرةً من الانتفاضة الفلسطينية الثانية، مصورًا أحداثًا كحصاريّ كنيسة المهد ومقر الرئاسة الفلسطينية وإعادة احتلال المناطق المصنفة "أ". أما المساحة الأكبر و"الأجمل" فكانت من نصيب معركة مخيم جنين، التي نقف اليوم على أطلال ذكراها الثامنة عشرة.

شاهد/ي أيضًا: فيديو | معركة جنين.. كانت أيام عز

بخلافِ الكثير من الأعمال التمثيليّة المتعلقة بالتاريخ والحروب، لم تبدأ خيوط المسلسل بالانسياب عند إحدى الأحداث المذكورة أعلاه، بل ذهبت بالمشاهد إلى ما قبل ذلك "بكثير"، فسبقت الحلقة الأولى معركة جنين بما يقرب الثمانية أشهر ولم يبدأ القتال قبل الخيط الثاني والعشرين.

في غالبية العروض الشبيهة، يكتفي فريق العمل بعرض فترةٍ تمهيدية بسيطة قبل انتشال المتابع إلى داخل التفاصيل الرئيسية، لكن هنا نرى أمرًا مغايرًا تمامًا.

الحادي عشر من أيلول لعام 2001 كان نقطة انطلاق المسلسل باستذكار تفجير برجيّ التجارة العالميين في مانهاتن الأميركية، وكيف بدأت الولايات المتحدة ما أسمتها "الحرب العالمية على الإرهاب"، واستغلال سلطات الاحتلال للتصاعد العسكري والسياسي الدولي لتضيف فصلًا جديدًا لقبته "أوكار الإرهاب" في الأراضي التي تديرها السلطة الوطنية الفلسطينية، والتي كانت في سنيّ صِباها آنذاك.

مجموعة "الاجتياح" تدرجت في سردٍ للحياة الفلسطينية لمختلف الطبقات الاجتماعية والتوجهات الفكرية حتى وصلت إلى مرحلة المواجهة المسلحة، في عرضٍ ربما رآه المتشوق لمشاهد القتال مبالغًا فيه، لكنه أعاد لأذهان كل المتناسين كيف كانت الظروف حينها ولِمَ وصل الحال إلى ما آل إليه، بل في حالةٍ متقدمة يُعطي مكاسبَ ثمينة للمؤرخين وأصحاب الهوس بالماضي ودهاليزه.

مجموعة "الاجتياح" تدرجت في سردٍ للحياة الفلسطينية لمختلف الطبقات الاجتماعية والتوجهات الفكرية حتى وصلت إلى مرحلة المواجهة المسلحة

كل ما سبق نستطيع تسميته بـ"القراءات الأولية"؛ فمثلما هي قصص الثورة الفلسطينية تتكشف أكثر كلما ظنناها قد انتهت، فإن ما خُفي كان أعظم في المسلسل الحائز على "الإيمي" عن فئة المسلسلات الأجنبية الطويلة لعام 2008، الجائزة المساوية معنويًا وإعلاميًا للـ"أوسكار" في مجال الإنتاج التلفازي.

اقرأ/ي أيضًا: أولاد المختار: حكاية جميلة عابها إهمال التاريخ والتفاصيل

كما كُتب في بداية النص ومثلما أشارَ عنوانه، أرواح حصار بيروت وأطيافه كانت تطوف في أرجاء الحلقات الثلاثة والثلاثين؛ فإلى جانب تأريخ وأرشفة أيام الانتفاضة، كان العمل استحضارًا للمعنويات الفلسطينية القديمة في معارك لبنان وبطولات برج البراجنة وقلعة شقيف شعورًا وأقوالًا.

ظاهرُ الأمرِ كان ذكريات قائد المعركة الملازم يوسف ريحان قبها (أبو جندل)، المُجسَد من جانب البطل الأول الممثل السوري عباس النوري، والذي عايش سنوات القتال في الساحات اللبنانية قبل العودة رفقة منظمة التحرير الفلسطينية.

في ثنايا الحلقات البالغ طول الواحدة منها 54 دقيقة، تُسرد قصصٌ "بيروتية" كحكاية فرقة أشبال الـ"RPG" في مخيم الرشيدية، والمعطف الذي اشتراه أبو جندل وسافر معه في سنوات "الغربة الوطنية" وعواصمها، حتى أصبح وسادته في معركته الأخيرة على أرض جنين، وكيف نجا من الموت لمرات رغم إصاباته، ومشيئة القدر أن يعيش ويرجع ليطلب منه الجيل الأصغر عمرًا قيادتهم قبل نسيان 2002.

أما باطن الحديث فقد توسع أكثر، ليذهب إلى ما تمناه أبو جندل ومن معه، أن يتذكر الفلسطينيون كيف كانت الأيام الخوالي بوحدتها الوطنية والنضال المشترك وأخذ الحق بالقوة ورد العين بالعين، الأمر الذي عاد مرةً أخرى ليترسخ في حرب المخيم على سبيل المقاومة وعلى سبيل المجتمع.

يوسف ريحان، كان من الذين عادوا للوطن عام 1994 إثر توقيع اتفاقية القاهرة، أو التي عُرفت واشتهرت بـ"غزة أريحا أولًا"، بعدما نالت منظمة التحرير الفلسطينية موطئ قدمها الأول في الضفة الغربية وقطاع غزة، بادِئةً بالمرحلة السياسية الحالمة التي سرعان ما تهاوت وخارت قواها مع مطلع الألفية الحالية.

"غزة أريحا أولًا" التي كانت أشبهَ بالحُلم الوردي تداعت عند أعتاب إجراءات الاحتلال ونهجه المستمر حتى اللحظة، الأمر الذي تَبِعه انفجارُ الفلسطيني المكبوت والحالم باستقلاله وحريته على شكل انتفاضةٍ شعبية سرعان ما ذهبت إلى العسكرة الرسمية، فاتحة الباب أمام إعادةِ بيروتَ جديدة بشكلٍ مغاير وفي مكانٍ وزمانٍ مختلفين.

غزة أريحا أولًا" التي كانت أشبهَ بالحُلم الوردي تداعت عند أعتاب إجراءات الاحتلال ونهجه المستمر حتى اللحظة، الأمر الذي تَبِعه انفجارُ الفلسطيني المكبوت والحالم باستقلاله وحريته

أما "أبو باسل" الذي بدأنا كلامنا بمشهد ارتقائه، فهو المُجسد للصراع المذكور قبل قليل بالحرفية والحذافير على النطاق الرسمي؛ فطوال الحلقات الأولى كان الشخصية المكروهة بإلزامه ليوسف ريحان بالعمل المكتبي وإبعاده عن الميدان بحجة "المصلحة الوطنية العليا" و"القرارات العسكرية"، ليتفاجأ كارهوه باقتحامه المخيم في أوج الصراع متلثمًا ممتشقًا سلاحه ومقاوِمًا شرسًا.

اقرأ/ي أيضًا: وثائقيات الجزيرة: حكاية النكبة وحكاية الثورة

التغيرات الدراماتيكية لم تقف عند "أبو باسل" بـ"مهمته المؤقتة" والمستوى السياسي، بل كانت في مدٍ وجزر داخل الشخصيات الأخرى، كالأصدقاء الخمسة (مصطفى، إسحاق، ماجد، عامر، عماد) المطاردين في الفلاء والجبال والذين توزعوا فيما بعد بين جنين ونابلس وبيت لحم والخليل.

طوال فترة ملاحقتهم وتخفيهم وحتى بعد انضمامهم إلى تجمعات المقاومة، لطالما تبدلت أساريرهم بين الخلاص مما هم فيه وعودتِهم شبانًا بأحلامٍ زاهيةٍ بعيدًا عن واقعهم وحقيقة بلادهم وتمنيهم بشيءٍ من "غزة أريحا أولًا"، وبين إخلاصهم لسلاحهم والفكرة التي تبنوها (أو وجدوا أنفسهم فيها) وزيارة بيروت لهم أيقاظًا ورقودًا.

تحدث محللون ومراقبون في تلك الفترة (وعادوا من جديدٍ بعدها بسنوات) عن تغيير الفلسطيني وإنشاء "الفلسطيني الجديد"؛ المواطن الحالم بالرفاهية والحياة الطبيعية والمُقنع نفسه بحقيقتها، وذلك في دولةٍ لم تنل استقلالها بعد.

في غمرةِ الأماني المتمثلة حينها بـ"غزة أريحا أولًا" (والمتجسدة الآن بحل الدولتين) أتت أطياف بيروت بحصارها وحربها لتزور الناس محذرةً وراجيةً بعدم الانغماس بالعسل أكثر، ثم لتأتي أحداث الاجتياح موقظةً النائمين والغافلين، ومعيدةً البوصلة إلى حقيقتها وواقعها الميداني والسياسي.

ورغم نهاية المعركة بالانتصار المميت وتغير معالم "الجغرافيا المخيماتية" بعد "إعادة الإعمار"، إلا أن فريق "الاجتياح" أبدع باستكماله لحلقاتٍ بعد نهاية المعركة. بمعنى آخر، أن محطة جنين جولة ضمن سلسلة الحرب الموجودة قبل أبو جندل ورفاقه والمستمرة بغيابهم، وأن استشهاد "مصطفى" أمام بيت جده في حيفا خيرُ بينةٍ على أن الأطياف تعرف بأي مسرح تُنزل ستارتها.

المسرح الفلسطيني خشبته كبيرةٌ وواسعة، يمتاز بهتافه الدائم وهدوئه النسبي. ممثلوه مختلفون في التوجهات والأفكار، لكنهم يجتمعون على محبة المكان. للمسرح "كالوسٌ" مسروق يتمنى الممثلون التواجد فيه مرةً أخرى، ومدراء المسرح يحاولون التحكم بالستار فلا يستطيعون؛ كون اللصوص يمسكون بالحبال أيضًا.

جماهير العرض يصفقون للممثلين ويحاولون جاهدين سحب الستارة مع الإدارة، منهم من يتجرأ ويصفر فيحرم من دخول القاعة، وآخرون يكتفون بتصفيقٍ خفيف مع شتائم داخلية.

المسرح على رغم قِدمه إلا أنه يزداد شعبيةً، والـ"كالوس" مع إغلاقه بأقفالٍ كثيرة فالذاكرة أقوى منها، أما أيام بيروت السليبة فلا تسعها مسرحياتٌ متقطعة جغرافيًا.


اقرأ/ي أيضًا: 

عن المواجهة في نابلس القديمة ومخيم جنين 2002

سفاح مجزرة مخيم جنين: ليتني أفعلها مجددًا