03-أكتوبر-2018

وأنت صغير، لا يسعك تغيير الأشياء التي لا تعجبك في العالم، وتظن أنك ستتصرف بشكل أفضل وستغير مسار الأشياء عندما تكبر، يحدث هذا أحيانًا ولكنه في كثير من الأحيان لا يحدث، والسبب بسيطٌ للغاية هو أنت.

مع الوقت نتحول الى أدوات لتثبيت الوضع الراهن الذي لا يعجبنا، أحيانًا بصمتنا، وأحيانًا لأننا لم نعد نبالي

مع الوقت نتحول الى أدوات لتثبيت الوضع الراهن الذي لا يعجبنا، أحيانًا بصمتنا، وأحيانًا لأننا لم نعد نبالي، ولم تعد القضايا العامة تضايقنا كما كانت عندما كنا أصغر، تختفي النار التي كانت تشتعل في قلوبنا ونحن محدقين في شريط الأخبار العاجلة  القادم من الأراضي المحتلة، يصبح الموت مألوفًا أكثر وتصبح الأخبار السيئة أقل سوءًا بحكم تكرارها. ولأن التقدم بالعمر يأتي ومعه حياةٌ خاصةٌ فيها ما يكفي من المشاكل والمواجهات اليومية لننشغل بها عن "قضايا عامة" بات الحديث عنها مرهقًا ودون جدوى، فإننا قد نتمادى في حالة السكون التي نواجه ونتفاعل بها مع هذه القضايا من أفراد صامتين إلى أفراد مطبلين "مسحجين".

اقرأ/ي أيضًا: الخطابات.. هكذا نسد جوعنا للحرية

"التسحيج" ليس أمرًا سيئًا على الإطلاق، فهذه الكلمة العامية تحمل الكثير من الفرح الجماعي، غير أن رواد مواقع التواصل الاجتماعي - سامحهم الله - جعلوا الكلمة تعلق بأذهاننا بشكل بذيء، بذيء للغاية، يجعلها تخطر على بالك وأنت تصفق "تسحج" في عرس صديقك أو تحمس طفلك على مشي خطواته الأولى أو إنهاء طعامه!

بصراحة تامة أتابع خطابات الرئيس محمود عباس بنوايا غير صافية على الإطلاق، ووجه غير قابل لتتبسم في حال ألقى دعابة هنا أو نكتة هناك. لا أجد فيما يقوله أي مجال للتسيج، ولكنني أحاول أن أتخيل نفسي من المعجبين بمنهجه السياسي أو بشخصيته، أو على الأقل أن أفهم نكاته، أحاول تقمص دور المسحجين لأجد ما يستحق التسحيج وفي كل مرة أفشل للأسف.

أحيانًا أبحث عمن أسحج له من السياسيين لأن الأمر مغرٍ. تعرفون حالة الفرح التي يعيشها المسحجون في الأعراس؟ أعتقد أن التسحيج السياسي كفيلٌ بخلق حالةٍ مشابهةٍ من البهجة في النفس، فالفعل الجماعي أيًا كان يجعل الإنسان يشعر أنه اقوى مما هو عليه بالفعل، وأنه أكثر سعادة وطمأنينة. يبدو المشهد مهيبًا أكثر وعاطفيًا بشكل هائل يجعل الرجل المتحدث عبر التلفاز قادرًا على سد فراغ الأسئلة الوجودية التي لا إجابات لها في ذهنك، هنا تحدث معجزات تشبه تلك الواردة في الكتب المقدسة، فأصبع الرجل مهددًا أو حركة يده لا مباليًا أو تقليبه لأوراق خطابه بينما ما تزال عيناه مثبتتان على الكاميرا كفيلٌ بملء خزان الأمل والإيمان في نفوس الناس، أعني المسحجين منهم.

فعل التسحيج مهمٌ ولا يمكن الاستخفاف بقيمته بين أفراد المجموعة، فقد يكون مصدر رزقٍ أو شرطًا من شروط الحصول على وظيفة

حتمًا وبالطبع وبكل تأكيد، فإن التسحيج شرطٌ أساسي من شروط الانتماء لمجموعة، وفعل التسحيج مهمٌ ولا يمكن الاستخفاف بقيمته بين أفراد المجموعة، فقد يكون مصدر رزقٍ أو شرطًا من شروط الحصول على وظيفة. وفي حالاتٍ معقدةٍ فإن المسحج يمارس تسحيجه ليس لحاجته المادية له، بل بسبب حاجته النفسية الباحثة عن إجابات دينية أو سياسية أو اجتماعية لعالمه، الكثيرون سيلهثون وراء هذه الإجابات حتى لو كان الثمن تسحيجًا غير مشروط  لخطاباتٍ لا جديد فيها، أو لتصريحات خيالية أو لإجابات ساذجة مليئة بالثغرات عن أسئلة مهمة وحساسة.

لا تتغير خطابات الرئيس أبدًا إلا لما تفرضه إسرائيل على أرض الواقع، بمعنى أن الجرائم السياسية والميدانية الإسرائيلية هي المُجدد الوحيد لخطاباتنا السياسية. كل خطابتنا - نحن أصحاب القضية - هي مجرد ردود أفعالٍ شفويةٍ على أفعالٍ إسرائيليةٍ حقيقية تُغير واقعنا على الأرض أو ما تبقى لنا منها إلى الأبد.

الغريب أن رد الفعل الشفوي المكرر هذا يحظى بحفاوة غريبة وتسحيج هائل من قبل الكثيرين. أحيانًا أفكر أنهم لا يعيشون في ذات العالم الذي نعيش فيه، يبدو عالمهم خاليًا من المستوطنات والحواجز والقتل، خاليًا أيضًا من الاعتقال السياسي والفقر والبطالة والفساد السياسي، وربما في عالمهم أيضًا تتجدد وجوه السياسيين باستمرارٍ ضمن عملية يطلقون عليها "انتخابات"، ويعتبر التعبير عن الرأي في الشوارع والصحف أمرًا بديهيًا غير قابل للنقاش، يبدو عالمهم مليئًا بالانتصارات أو على شفا حفرة منها.

أتفهم تعقيدات القضية وأعرف أن موازيين القوة ليست لصالحنا، وأن الانتماء السياسي يحول دون أن يعترف أكثرنا بأننا كشعب وقيادة سياسية وكفصائل نتحمل جزءًا كبيرًا من مسؤولية خساراتنا المتتالية وسقوطنا  المدوي نحو القاع، ولكن وعلى الأقل أنتظر في كل مرة تطل علينا القيادة في الضفة أو غزة عبر شاشة التلفاز أن لا يتحمس الكثيرون أو ينبهروا بخطاباتٍ لا تقول شيئًا، لأن اختفاء الانبهار والحماسة هو حتمًا خطوة ما من أجل إنجاز شيء ما يكون حقيقيًا بما يكفي ليجعل التسحيج له ضرورة.


اقرأ/ي أيضًا:

صكوك نصر عاطفية

فشل مسار التسوية .. فشل مسار المفاوضات

توقفوا عن تصنيع التفاهة