17-سبتمبر-2017

صورة تعبيريّة

لقد حفظنا الكتب عن ظهر قلب، لقد أكلناها أكلًا وأصابنا هوس تجميع العلامات والعلامة الكاملة والمرتبة الأولى. لقد جئنا من مدارس هشّة تعليميًا قوية تلقينيًا، علّمتنا كيف نحفظ المعلومة ولم تُعلّمنا كيف نبحث عنها، علّمتنا أنّ الدقة في نقل ما جاء في الكتب إلى ورقة الامتحان هو النجاح، وأنّ ذكاءنا مرتبط بالكمية التي نملكها من العلامات والمعلومات، وليس بالكيفية التي توصلنا بها إلى هذه المعلومات أو بالقدرة على نقاشها.

"اللعنة ستنتهي بدخولنا الجامعة" هكذا ظنّنا، فاللهاث وراء العلامات والأفكار الساذجة عن النجاح والذكاء لعنةٌ ستفك الجامعة لنا عُقدها، ولكن هذا ليس صحيحًا، فالنظام التعليمي القائم على تمجيد العلامات ومهارة نقل محتويات الكتب إلى أوراق الامتحانات قائمٌ في الجامعة أيضًا، إلّا لدى قلة من المحاضرين الذين أدركوا خطورة هذه الأفكار الكمية على عقول الطلاب.

ستحبك كل الكتل الطلابية في البداية دون أن تعرفك، وإذا كان الاهتمام هو أساس الحب، فإن ممثلي الأحزاب في الجامعة لا يكتفون بجعلك مهمًا، بل عظيمًا أيضًا

حسنًا، كانت هذه اللعنة مفيدة في اليوم الأول في الجامعة، حيث كُنّا على ثقة بأننا من أفضل الموجودين هناك، فالمعدلات العالية وشهادات التقدير كانت تسند قلوبنا المتوترة، بينما كانت الملابس الجديدة تسد ثغرات الخوف في نفوسنا. وفي اليوم الأول أيضًا كُنّا على موعد مع توتر جديد لم نألفه، توتر يصيبك عندما يهتم بك أحدهم اهتمامًا غريبًا  دون أن يعرفك شخصيًا! ولم نكن نعلم أن هذا الاهتمام ما هو إلا لعنة جديدة. وأن عالم الجامعة مليء باللعنات!

اقرأ/ي أيضًا: أسطورة: أنا وإياه قلب وجسد واحد

ستحبك كل الكتل الطلابية في البداية دون أن تعرفك، وهذا سيربكك كما قلنا، وإذا كان الاهتمام هو أساس الحب، فإن ممثلي الاحزاب في الجامعة لا يكتفون بجعلك مهمًا، بل عظيمًا أيضًا. لن تكتمل الصورة بدونك، ولن يتغيّر العالم إلا بساعديك، هكذا ستشعر وهم يحيطون بك بابتسامتهم العريضة وكلماتهم المرحبة، فإذا كانت تجاربك مع الاهتمام قليلة احذر، وإلا ستصرخ في أعماقك فرحًا: وأخيرًا وجدتُ من يعرف قيمتي! ورغم أنهم يمارسون ذات الشيء مع كل من تقع عليه عيونهم من طلاب، ويُبدون ذات الاهتمام بهم، ويرددون عليهم ذات الكلام الذي تظنّه خاصًا بك، إلا أنّك تشعر معهم أنّك جزء من كيان فكري ذو سلطة وفرد ضمن مجموعة لها جماهير، وهذا يمنحك الأمان والثقة في تجربتك الجديدة، سيعطونك وشاحًا وكتيّبًا، وبالمقابل ستمنحهم أنت قلبك وعقلك ووقتك أيضًا. وهذه هي اللعنة الأولى.

أمّا اللعنة الثانية فهي الملابس، ولأنّ تجاور كلمة اللعنة والملابس في ذات الجملة قد يأخذنا إلى كلمة "الاحتشام"، فما أريد قوله لا علاقة له بذلك، بل بما تقول صديقتي الأمريكية، حيث قالت لي مرة: "الفتيات العربيات أنيقات جدًا ولا يتنازلن عن مكياجهن الكامل حتى لو كان المكان المقصود هو الجامعة"، تقولها بمزيج من الاستغراب الحقيقي والمديح المتصنّع. لا أعلم لماذا تتصنع المديح! ربما تعتقده واجبًا تجاه الطاقة التي يبذلها الإنسان ليبدو جميلًا، أو ربما كنوع من الاحترام لقراراته الشخصية التي حتمًا لا تناسب صديقتي المتمسكة بالستر الرياضية وبناطيل الجينز.

 المهم من كل ذلك أنّك ستجد أنّ الاهتمام المبالغ فيه بالملابس بالنسبة للشباب والبنات قد يشوّه روح المكان، وأنه حتمًا يأتي على حساب أمور أخرى وُجد هذا المكان بسببها ومن أجلها. ورغم أن الحديث عن ملابس الآخرين وذوقهم يعتبر تدخُلًا صارخًا في حياتهم، لا يحق لأي منّا الإقدام عليه، إلّا أنّ التساؤل عنه كظاهرة اجتماعية بين طلاب الجامعات جديرٌ بالمتابعة والدراسة، فالتكلّف والمغالاة بالملابس له أسبابه ونتائجه، وليس الموضوع بسخافة أن نتخيل أن الشاب/ة الذي يهتم بمظهره حتمًا سيكون متأخرًا علميًا، حتما لا! ولكن هل نسقط في هاوية ما عندما نتعلق بالشكليات وننبهر بالمظاهر وننشغل بالتفاصيل المادية؟ هل هذا يمس أرواحنا حقًا ويُحجم تطلعاتنا مع الوقت؟ هل ما نلبسه ونحن ذاهبون إلى الجامعة يعكس حقًا ما تعنيه الجامعة لنا؟

لكل إنسان الحق بأن ينتمي للحزب الذي يريده، وأن يلبس ما يشاء، وأن يقع في الحب مرات كثيرة، ولكن ما يعز عليّ حقًا هو أن لا يفعل هذا لأنه يشعر به، بل لأنه يظن أن عليه أن يفعله

ماذا يفعل الحب بنا، إنّه يُغيّرنا للأبد، ولكن أليس كل ما نمر به يغيّرنا للأبد؟ إذًا لماذا الحب هو لعنتنا الثالثة في الجامعة؟

أغلب مدارسنا تعتمد نظام الفصل بين الجنسيين، فتكون الجامعة هي المكان الأول الذي يتشارك فيه الجنسان مقاعد الدراسة، وهذه الخطوة المتأخرة في الدمج بين الجنسين تجعل الوقوع في الحب أمرًا سريع الحدوث، وتتحول معه الجامعات من صرح تعليمي إلى مكان لممارسة دراما الحب، حيث يتعمّد فيه الناس الوقوع في الحب، بل ويبحثون عنه بشكل يُفقد الحب والجامعة معناهما النبيل.

كلما كتبت أكثر عن الموضوع أدركت أنني أتمنى عالمًا مثاليًا، وهذا التمني ليس بريئًا وجميلاً كما يبدو، فهو يجعل منك إنسانًا قاسيًا على الآخرين، تحاسبهم وتتدخل في شؤونهم وتحاكم نواياهم دون وجه حق. لكل إنسان الحق بأن ينتمي للحزب الذي يريده، وأن يلبس ما يشاء، وأن يقع في الحب مرات كثيرة، ولكن ما يعز عليّ حقًا هو أن لا يفعل هذا لأنه يشعر به، بل لأنه يظن أن عليه أن يفعله.


اقرأ/ي أيضًا: 

مكالمة فائتة من البلاد

فلسطين في عيون أهل بكين.. يا للهول

طبّع واكذب ثم التقط "سلفي الحمل الوديع"