30-يناير-2021

(Issam Rimawi//Getty Images)

مقال رأي | 

كأي شعب يرزح تحت استعمار استيطاني، اعتمد الشعب الفلسطيني في نضاله على مجموعة منظومات اجتماعية/ سياسية مكّنته من الصمود أمام آلة القمع الصهيونية، ومن هذه المنظومات: العائلة، الحمولة، والحزب السياسي.

      عندما نتناول تجارب الحركات الاجتماعية في سياقنا الحالي، فقد أفرزت لنا آخر 10 سنوات، مجموعة من الحركات الاجتماعية التي لم تكن وليدة مناخ الانقسام السياسي    

تفاعلت هذه المنظومات مع الأطر المكانية التي نشطت فيها، سواء في القرى، المدن، أو المخيمات، وأفرز ذلك نموذج الانتفاضة الأولى كحالة مقاومة شعبية. كان طلاب المدارس، الجامعات، وأساتذتهم من أكثر الفئات الاجتماعية تفاعلًا مع هذه الحالة وخصوصًا في جو الإضرابات العامة، والتي وصلت حدّ العصيان المدني. في هذا السياق، تصدر الشباب كفئة اجتماعية، هذا المشهد السياسي، وبالرغم من التعليمات التي كانت تصل من القيادة الفلسطينية في الخارج، خلقت الأرض المحتلة حراكًا اجتماعيًا أفقيًا، غير مبني على علاقات الريع السياسي (مكاتب، كوادر، معاشات، إرث جمهورية الفكهاني).

يختلف هذا النموذج عن الأعمال الكرنفالية/السياسية التي نشاهدها هذه الأيام، كاستعراض مراكز القوى في مناطق الحكم الذاتي، ومعارك طواحين الهواء التي نحقق فيها انتصارات وهمية عبر إطلاق الكليشيهات وارتداء البدلات.

عندما نتناول تجارب الحركات الاجتماعية في سياقنا الحالي، فقد أفرزت لنا آخر 10 سنوات، مجموعة من الحركات الاجتماعية التي لم تكن وليدة مناخ الانقسام السياسي، بل كانت نقدًا له، و من أبرز هذه الحراكات: حراك "شباب 15 آذار" المطالب بإنهاء الانقسام، والحراك العمالي حول موضوع الضمان، الحراك الموحد، حراك "بكفي يا شركات الاتصالات"، حراك المعلمين، حراك إيقاف العقوبات على أهالي قطاع غزة، وحراك طالعات.

الجديد في هذه الحراكات يكمن في تعاملها مع الشباب كفئة اجتماعية، وبالتالي لم تحولهم أو تتعاطى معهم، كفئة عمرية، كما تفعل الأحزاب السياسية بأذرعها الشبابية، والتي تنفذ ما يقره مسنو الحزب المتنفذين، بدون أي مشاركة من القاعدة الشبابية، ومن أكثر الأوجه بؤسًا لذلك، "تفريغ" فئة لا بأس منها من الشباب "كموظفي أمن"، عن طريق انتقاء "الأجهزة الأمنية" لأطفال من بيئات هشّة، لا يحملون شهادة الثانوية العامة، بين ليلة وضحاها أصبح هؤلاء الفتية "عسكرًا"، وتحوّلوا لأداة تنفيذية بموازنة فاقت الثلث من أموال الضرائب، في وقت تعاظم فيه دور الشرطي على حساب القانون، المجتمع والصحة العامة.

    نمت شريحة من "المؤسسات الشبابية" التي عملت على استنزاف الشباب عبر تنفيذ أنشطة ريعية تفتقد لأي طروحات اجتماعية أو ثقافية     

إضافة لذلك، نمت شريحة من "المؤسسات الشبابية" التي عملت على استنزاف الشباب عبر تنفيذ أنشطة ريعية تفتقد لأي طروحات اجتماعية أو ثقافية، كالحصول على تمويل لتنفيذ أنشطة لها علاقة بكتابة السيرة الذاتية أو شراء المعجنات للفضفضة والدردشة!

باختصار، أسهمت ثقافة "أوسلو" السياسية/الاقتصادية بضرب قيم العونة، الفزعة، والتضامن، وجعلت من المدينة فضاءً استهلاكيًا/أمنيًا، وهو الأمر الذي ساعد على خلق تحوّلات كبيرة في مجتمعنا الفلسطيني، وأهمها المساس بالمؤسسات الاجتماعية/السياسية  التي تكثف عملها في الانتفاضة الأولى.

في هذا السياق، تحوّل الناشط إلى "مدير برامج" أو "خبير" ومسخت الثورة إلى تقرير إداريّ ومشروع.

الشجاعة ورأس مالنا الاجتماعي

قد تكون الشجاعة أهم قيمة اجتماعية يمكن المأسسة عليها لكسر هيمنة الفساد السياسي في فلسطين، ولا بد لنا من استحضار الشباب الذين وقفوا حائلًا أمام فكرة زيارة المجرم شاؤول موفاز إلى مقرّ المقاطعة في رام الله عام 2012، أو الذين واجهوا شركات الهاتف ومشروع الضمان الاجتماعي، أو الشباب الذين تلقوا الهراوات وقنابل الغاز في رام الله لمجرد استحضارهم معاناة أهالي قطاع غزة المحاصرين، أو المجموعة التي اختطفت من دوار المنارة لأنها قررت التظاهر ضد الفساد في فترة جائحة كورونا، أو النساء اللواتي انتفضن ضد سياسات المنظومة الأبوية التي تشجّع على قتل النساء. تتقاطع تجارب الحركات الاجتماعية/الاحتجاجية مع بعضها البعض، وتتجلى لنا في هبّات مدينية بين حين وآخر كاسرة ركود الفضاء العامّ، وباعثة بعض الأمل في حد أدنى من الكرامة والعدالة.

    القضاء على الفساد ليس نشاطًا أكاديميًا أو موضوع استرزاق لبعض المؤسسات البيروقراطية، بل شرط بقاء وصمود    

ينهش الفساد السياسي حيّزنا اليومي، فيضرب إمكانيات توفير علاج كريم لعائلاتنا، ويبني منظومة لا تحترم الأستاذ وتزدري الطبيب وتقيل القاضي المحترم، ويستثمر الفساد السياسي بالزراعة فتاتًا لا يتعدى 1% من الموازنة العامة، ويعدم إمكانية إيجاد فرص عمل متكافئة، ولا يحمي مجتمعنا من عربدة سلاح المتنفذين بل يوفّر لهم ولعائلاتهم جودة حياة على حسابنا.

القضاء على الفساد ليس نشاطًا أكاديميًا أو موضوع استرزاق لبعض المؤسسات البيروقراطية، بل شرط بقاء وصمود لمجتمعنا الذي يرزح تحت استعمار استيطاني.

باختصار، مكافحة الفساد السياسي ضرورة لحماية عائلاتنا في ظروف غير عادية. عملت الحركات الاجتماعية السابق ذكرها من الشارع ومن خارج إطار المنظومة السياسية، والآن ونحن على أعتاب انتخابات -قد لا ترى النور- علينا دعوة هذه الحراكات إلى تحمّل مسؤوليتها والتوحّد في إطار واحد كصمام أمان، أمام تغوّل الفساد السياسي الذي دمّر أحزابنا السياسية وحوّلها إلى تجمُّعات مسنين مترفين، منفصلين عن قواعدهم وبرامجهم السياسية.


اقرأ/ي أيضًا: 

السلطة عندما لا تكترث!

في المواطن اللاسياسي

عن الهزائم وتغيير المصائر.. حمدي مطر يتذكر