05-مايو-2020

بعد مرور شهرين على إعلان فلسطين حالة الطوارئ، وقفت مدينة رام الله والبيرة على ساق من الانتظار وأخرى من الخجل وسط معمعة كورونا التي تهز أرجاء المعمورة، إذ كان لافتًا عودة أصوات الباعة في "مربع الحسبة" من جديد بعد تسهيلات التنقل، إنما الملفت بدرجة أعلى أن أصواتهم كانت أشدّ حدةً وانتشارًا من حجم أصناف الخضار والفاكهة فوق البسطات وحولها.

في مربع الحسبة ذاك، أو ما يعرف بسوق خضار البيرة المركزي، نقّلت سيدة ستينية خطواتها بهدوء وحذر بين بسطات السوق، حتى أنها أوقعت كيسًا تحمله وأعاده زميلي لها براحة، دون أن ينتظر لحظة يخطف خلالها الكيس من بين أقدام الموطنين ليعيده، على فرض أن هذا الحدث كان في ذات الظهيرة، لكن قبل بضعة أشهر مثلاً.   

رائحة الخبز والقطايف تمسك بحاسة الشم لديك على مداخل المخابز والمطاعم، أحد تلك المطاعم الشهيرة كان أصحابه يتسلّون بتغليف أطباق القطايف وترتيبها على الطاولة الوحيدة أمام المطعم علّها تجد بضعة مشتهيين، فيما شهد عليه في الأعوام الماضية شاهدون ومشتهون كُثر وقفوا بانتظار دورهم لدقائق طويلة تحت الشمس ونداء الأرقام.

خجل المارة في المدينة ونظراتهم السريعة على البضائع  دون إمعان أو شراء، كانت تلوح بورقة الانتظار لشيء ما -فرج ورزق قريب ربما- وليس الاصطفاف على الدور نهائيًا. ومن بين هؤلاء، كان أبو رياض، الذي جلب الماضي بين يديه ووضعه على بعد أمتار من جلسة الأسود على دوار المنارة في مشهد لم تغيره عشرات السنين.. إلا حصار الاحتلال ووباء كورونا.

جالسًا وليس مارًا، كان الستيني أبو رياض، خلف مقود سيارته الفولكس فاجن، تلك السيارة التي ما أن تبادر بذكر اسمها في ذهنك أو على لسانك حتى تجد نفسك في غرفة من الماضي تخرّ عليك بسيل من الذكريات والصور القديمة التي تحضر بقوة في ذهنك حتى لو لم تعشها أنت من قبل!

قاطعنا انتظاره أنا وزميلي، بغرض مصافحته -عن بعد وبحرارة- لحفاظه على هذه المركبة من الطي في صور الذكريات والذاكرة، وذهابه لأبعد من ذلك، إذ ما يزال فرشها الداخلي يلمع ويشي لونها الخارجي إلى عناية صاحبها الدائمة، جنبًا إلى جنب مع حفاظه على ركنها في مكان اعتاده سائقو هذه المركبات ذات الصندوق الخلفي المفتوح للنقليات المختلفة قبل ربع قرن في ذات الشارع.. شارع القدس.

"يا رايحين ع القدس خذوني معكم" مسجّلٌ ما صدح في الرأس يغني، وأنا لا أتردد السير تارة والوقوف تارة أخرى، وسط الشارع الذي يعتبر موقفًا للحافلات الناقلة من حاجز قلنديا وإليه. لم يخرج سائقٌ ما يده وغضبه من النافذة عليَّ للابتعاد عن الطريق، ولم يطلق زامور سيارته في وجه زحمة المركبات والناس، إنما بضعة مارة مرّوا بهدوء وبقيت مرارة الانتظار.

مرارة انتظار نهاية كورونا، بعد أن منعتنا من التلذذ بمراقبة "شقار" القطايف وهي خارجةٌ من الفرن إلى طبقٍ يُغلّف بالورق، وليس مغلفًا مسبقًا بالنايلون، انتظار نهاية تلك الجائحة التي منعتنا أيضًا من مفاصلة صاحب بسطة الخضار الذي قدم لنا الكيس قبل ان نسأله عن السعر ودون أن نطلب. بل طلبت كورونا منا الاستسلام لهدوء رام الله. 

 وقبل ذلك، نهاية وباء الاحتلال الذي يقطع النفس عن حقوق شعبنا بالعيش والتنقل منذ عقود ويحرمنا من الوصول إلى القدس لنكون قريبين أكثر من باحاتها.. والكتابة عن كعكها!  


اقرأ/ي أيضًا: 

عن أصص الورد وعجينة الفلافل والبروفيسور والإيجاز

فيروس يمحو الواقع