02-يناير-2019

مع أنفاس الصباح الأولى، عندما تتسلل أشعة الشمس الدافئة، يبدأ صيادو الأسماك في ميناء غزة بعرض أسماكهم التي اصطادوها ليلًا، بانتظار بيعها بواسطة "الدلال"، والأمل يحذوهم بربحٍ وفيرٍ يسد حاجة عائلاتهم.

على رصيفٍ خرسانيٍ طويلٍ يتقن الصيادون عرض ما حصدته شباكهم من أسماك متنوعة عبر صناديق بلاستيكية، قبل أن يعلن الدلال بصوته الجهوري افتتاح المزاد بتقييمه للأسعار وسط تظاهرة بشرية صاخبة تلتف من حوله.

  "الدلالة" من أندر المهن في قطاع غزة، وقد بدأ العمل بها إبان الاحتلال البريطاني لفلسطين  

يبدأ التجار بالتقافز فوق حواف صناديق الأسماك ويتعالى الصراخ وترتفع الأيادي بالإشارات، طمعًا في الظفر بصفقة جيّدة من الأسماك بأفضل الأسعار، فيما يلتزم الصياد الصمت ويكتفي بمراقبة عملية البيع لمعرفة السعر الذي ستستقر عليه "الصفقة".

وتعتبر مهنة الدلالة من أندر المهن في قطاع غزة، وقد بدأ العمل بها إبان الاحتلال البريطاني لفلسطين، وقد أصدرت بلدية غزة عام 1936 قانونًا ينظم هذه المهنة؛ لا يزال العمل به مستمرًا حتى يومنا هذا، مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة عليه في العام 2004.

اقرأ/ي أيضًا: صيادو غزة: كان ناقصنا أسماك سامة!

العشريني عيسى الفيومي، دلال أكبر حسبة أسماك في ميناء غزة، استهوته هذه المهنة منذ عدة سنوات واكتسبها من أحد أقاربه، يقول: "على الدلال أن يكون عادلاً وأن يقف على مسافة واحدة بين الصياد والتاجر وأن يقيّم الأسعار بحق الله".

الدلال عيسى الفيومي

ويعترف الفيومي بأن من الصعب أن يُرضي الدلال الجميع، "فكل طرف يسعى خلف مصلحته، لذا فإن الدلالة هي أفضل طريقة لإرضاء الطرفين، فالعرض والطلب هما من يتحكمان في الأسعار هنا"، مؤكدًا أن الدلال يجب أن يتمتع إلى جانب الأمانة بـ"قوة القلب"، فلا يخاف من أحدٍ حتى لا يؤثر ذلك على عدالة تقييم الأسعار، فيفقد ثقة الصياد والتاجر.

   "الدلال" في سوق السمك يجب أن يتمتع بقوة القلب، فلا يخاف من أحد، حتى لا يفقد ثقة الصياد والتاجر   

ويتبع الدلال لملتزم حسبة السمك؛ الذي يتعهدها بعد أن ترسو عليه المناقصة السنوية التي تعلن عنها بلدية غزة، وبموجب ذلك يتحصل الملتزم على نسبة تتراوح ما بين 2.5 إلى 3% من إجمالي الربح من الصياد والتاجر، مقابل خدمة الدلالة.

العديد من الدلالين تعاقبوا على حسبة السمك خلال السنوات الماضية، وتمتعوا بسمعة طيبة بين الصيادين، ولعلّ أشهرهم وأقدمهم هو الحاج أبو شاكر شويخ؛ الذي تعهّد الحسبة في العام 1963، وكان هو الدلال في آن واحد.

أقدم متعهّد لحسبة السمك؛ الحاج أبو شاكر شويخ

"جميع الصيادين بيحلفوا بحياته حتى يومنا هذا ويدعو له بالرحمة. كان سمحًا مع الصيادين ويساعدهم في أوقات الضيق والأزمات ويصبر عليهم" يقول حسن شويخ (50 عامًا) نجل الحاج أبو شاكر، وقد سار على درب والده في امتهان هذه المهنة.

اقرأ/ي أيضًا: "أكلات" لا يعرف مذاقها إلا الغزيين

يقول الصياد أحمد العامودي (45 عامًا) إن الدلالة نظامٌ قديمٌ معمولٌ به من "أيام البلاد" كما كان يسمع من والده وأجداده، مؤكدًا أن النظام يُسهّل عملية البيع، ويضمن للصياد الحصول على كامل ثمن السمك في اليوم التالي من قبل ملتزم الحسبة، ويُجنّبه الوقوع في عمليات الاحتيال والنصب والتلكؤ في الدفع من قبل بعض التجار.

الصياد مفلح أبو ريالة (40 عامًا) قال إنه يجد الراحة والطمأنينة في التعامل مع الدلال في بيع أسماكه التي يصطادها، "فهذا النظام آمنٌ وعادل"، مبيّنًا أن بعض الصيادين الذين يبيعون أسماكهم خارج نظام الدلالة يتعرّضون لاحتيال وتلكؤ في دفع الثمن من قبل بعض التجار تحت حجج واهية، كالادّعاء بأنهم تعرضوا للخسارة أو أن بعض الأسماك فاسدة، فيما يلجأ البعض الآخر إلى التبخيس في السعر.

  الصيادون الذين يبيعون خارج نظام الدلالة يتعرضون لاحتيالٍ وتلكؤ في دفع الثمن، أو للتبخيس في السعر  

ويشتكي أبو ريالة من تقصير بلدية غزة التي تمتلك ساحة الدلالة في الاهتمام بالساحة، "فهي تفتقر إلى خدمات النظافة ولا يوجد فيها مظلة تقي الصيادين وأسماكهم حر الصيف، ومطر الشتاء".

وعند نشوئها في القرن العشرين، كانت مهنة الدلالة تتم بصورة بدائية، وفق ما أفادنا به المهندس جهاد صلاح، مبينًا أنّها كانت في ذلك الحين تتم على شاطئ البحر مباشرة، حيث كانت مراكب الصيادين ترسو قبالة معسكر الشاطئ وهناك كان يُقام المزاد، قبل أن يُنقل في الثمانينيات بعد بناء ميناء غزة الرئيسي.

الشاطئ الذي كان يُقام عليه سوق الدلالة

عارف البشيتي (40 عامًا) متعهد حسبة السمك الحالي في ميناء غزة، قال إن مناقصة البلدية في تعهد حسبة السمك رست عليه هو وشريكه بمبلغ مليون دولار سنويًا، معربًا عن أسفه من ضعف عمليات صيد الأسماك بفعل جرائم الاحتلال المتواصلة بحق الصيادين.

عارف البشيتي، متعهد حسبة السمك

ويتابع البشيتي، للأسف هذه السنة سيئة جدًا، فالمساحة المحددة للصيد من قبل الاحتلال محدودة ولا تتواجد فيها كثير من الأسماك؛ وهذا يؤثر علينا بشكل كبير، خاصة أن لدينا العديد من الموظفين الذين يتولون إدارة عملية الدلالة من محاسبين وإداريين ودلالين وعمال نظافة.

وأسفر ضعف صيد الأسماك عن تقليص وقت انعقاد المزاد، فالبشيتي بيّن أن المزاد كان ينعقد سابقًا عند الساعة السادسة والنصف صباحًا، ويمتد حتى العاشرة قبل الظهر، لكنه اليوم ينفضّ عند الساعة الثامنة صباحًا.


اقرأ/ي أيضًا: 

عيد غزة في يومه الأوّل.. "الفسيخ" في كُلّ مكان

سردين غزة غذاء لفقرائها.. ماذا عن الصيد الجائر؟

صيادون غزيون يهجرون مراكب الصيد إلى المراكب السياحية