28-مايو-2019

السجال حول مفهوم الدولة العميقة أو دولة الظل، تعاظم خلال العقود الأخيرة، خصوصًا أثناء محاولة فهم الأنظمة الاستبدادية المناهضة لليبرالية، ومع ذلك فإن جوهر هذه المفهوم يختلف من حالة لأخرى تبعًا لخصوصيات تركيبة الدولة محل النقاش، ولكن مصطلح الدولة العميقة المتدول بشكل عام وبعيدًا، ينطوي على أمورٍ مشتركةٍ تفترض وجود عناصر أو جماعاتٍ متكاثفةٍ في مفاصل الدولة المدنية والعسكرية والسياسية والإعلامية والأمنية تعمل لتحقيق أهدافٍ مشتركة.

سلسلة تحقيقات لـ"قناة كان" عن الدولة العميقة في الشرطة والقضاء والإعلام داخل إسرائيل

بخصوص إسرائيل، الحديث عن "الدولة العميقة" في الأدبيات التي شاعت خلال العقود الماضية في كثير من كتابات اليسار والقوميين الإسلاميين، يُصور إسرائيل على أنها الدولة العميقة التي تحكم الدولة التي يخاصمها كل صنفٍ من هؤلاء المفكرين، وفي الدول التي استولت عليها تلك الأيدولوجيات فإن الأحزاب المنافسة لها داخليًا هي دمى بيد إسرائيل.

اقرأ/ي أيضًا: التنظيم اليهودي السري في قمة إسرائيل

ويسود شبه إجماعٍ في الأدبيات التي أنتجتها تلك التيارات أن إسرائيل هي الدولة العميقة التي تحكم الولايات المتحدة الأمريكية، بل إن إسرائيل هي حكومة العالم العميقة.

بعد مقتل رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحاق رابين طفى على السطح في أوساط نسبةٍ ليست قليلة من المثقفين العرب انطباعٌ يفسر ذلك الحدث بأنه ثمرة قرار للدولة العميقة في إسرائيل التي ترفض السلام. المروجون لهذه الفكرة عثروا على دليلٍ إضافيٍ بعد إدانة رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود أولمرت وحبسه بتهمٍ جنائية.

داخليًا في إسرائيل، لم يتفجر يومًا ما نقاشٌ عريضٌ في صفوف التيار المركزي من الحياة السياسية والثقافية حول وجود أو ملامح "الدولة العميقة"، بالطبع بالإمكان العثور على استثناءاتٍ هامشيةٍ حول الأمر.

قبل أيام بدأ التلفزيون الرسمي "قناة كان" ببث سلسلة تحقيقات حول تجليات مفهوم "الدولة العميقة" أو "دولة الظل" في إسرئيل. في المفاصل الرئيسة كانت الحلقة الأولى والأهم حول الشرطة، والثانية حول القضاء، أما الثالثة فكانت حول الإعلام، وربما المفصل الناقص إن تطرقنا للأمر انطلاقًا من العقلية الفلسطينية هو مفصل الجيش والمخابرات.

رجال استخبارات وتحقيقات في الشرطة الإسرائيلية يحتفظون في الظلمة بمعلومات كثيرة عن شخصيات عامة تجعلهم قادرين على الإفساد

تبدأ القناة رحلة التقصي التي تطلقها بطرح تساؤل: "هل الأحاديث حول دولة داخل الدولة ، أي ما يُعرف بالدولة العميقة، له جذورة في الواقع؟". وتضيف، "سنحاول فهم مَن في الواقع يُسيطر على الدولة، هل يوجد في شرطة إسرائيل مجموعةٌ من الضباط الكبار تستغل قوتها في محاربة السياسيين وإحباط تعيين مسوؤلين في داخل الشرطة وخارجها؟ هل ثمة ملفاتٌ مفتوحةٌ ضد شخصياتٍ رفيعةٍ جاهزة لطرحها في اللحظة الملائمة؟".

اقرأ/ي أيضًا: أثرياء إسرائيل يمولون إرهاب المستوطنين ضد الفلسطينيين

لإشعال النقاش بين المؤيدين والرافضين لفرضية وجود تجليات لـ"الحكومة العميقة" أو "حكومة الظل" في صفوف الشرطة الإسرائيلية، تقتفي القناة أثر مسار إحباط مقترح وزير الداخلية الإسرائيلية غلعاد أردان، تعيين العقيد غال هيرش الذي أنهى قبل سنوات خدمته العسكرية في الجيش، قائدًا عامًا للشرطة.

قبل أن ينقضي يومٌ واحدٌ على إعلان أردان نيته تعيين هيرش في هذا المنصب، اتصل رئيس قسم التحقيقات مع غياي نير الذي يشغل منصب ضابط استخبارات شرطة إسرائيل، وطلب الحصول على ملف هيرش الذي حولته الشرطة الجورجية وكان يتضمن اتهاماتٍ لهيرش بارتكاب جرائم رشوة في جورجيا. هذا الملف تم إغلاقه قبل شهور، ولكن رئيس قسم التحقيقات قرر الإعلان عن فتح تحقيقٍ ضد هيرش فتراجع أردان عن اقتراحه بتعيينه قائدًا عامًا للشرطة، وفقًا لما كشفه المحامي مخائيل دوفيرن.

للتدليل على وجود "دولةٍ عميقةٍ" داخل الشرطة، بثت القناة إفادة أدلى بها "ضابطٌ رفيعٌ" في الشرطة يدعي غاي نير في شهر كانون أول/ديسمبر 2018 أمام لجنة الداخلية في الكنيست، أكد فيها أن هيرش كان ضحية لعملية اغتيالٍ معنويةٍ لمنع تعينه قائدًا عامًا للشرطة كما يرغب قادتها.

وقال الضابط ذاته: "مجموعةٌ من الأشخاص فقدوا صفة حرس البوابة، بل أنهم منذ مدة أخذوا القانون بأيديهم وأطلقوا عليهم اسم طُغمة. إنهم رجال استخباراتٍ وتحقيقاتٍ في الشرطة، يحتفظون في الظلمة بشكل عام بمعلوماتٍ كثيرةٍ حول شخصياتٍ عامة، يتحولون إلى أشخاصٍ أقوياء وقدرة على الإفساد".

"ثمة نظام ظلٍ يتخذ قراراتٍ تضمن الحفاظ على قوته وإقصاء من يشكل خطرًا عليه"

وفسر المحامي الإسرائيلي بنحاس فشلير، من حركة "شجاعة لمحاربة الفساد"، إفادة الضابط أمام لجنة الكنيست قائلاً: "ثمة نظام ظلٍ يتخذ قراراتٍ تضمن الحفاظ على قوته وإقصاء من يشكل خطرًا عليه، وكل من لا يخدم تعيينه في منصب ما أهداف النظام، هذا هو مفهوم الدولة العميقة".

وتكشف "قناة كان" في تحقيقها عن وجود ملف لدى الشرطة الإسرائيلية أطلقت عليه "ملف يستحاكي" يحمل اسم رئيس قسم التحقيقات موني يتسحاكي، ويتضمن أسماء 40 عضو كنيست ووزيرًا جرى جمع معلومات استخباريةٍ شرطيةٍ حولهم. يؤكد المحامي فشلير، أن اسم وزير الأمن الداخلي المسؤول عن جهاز الشرطة كان من بين الأسماء التي تم جمع معلوماتٍ استخباريةٍ حولها.

يصف المحامي ميخال دوفيرن، جمع هذه المعلومات بأنه "تكوين خزانٍ هائلٍ من المعطيات بالإمكان استخدامه في أية لحظة ضد أي عضو كنيست أو أي وزير". ثم يسأله معد التحقيق: "هل ثمة دولة عميقة في الشرطة؟" فجيب، "بشكلٍ قاطعٍ نعم، إنهم مجموعة من الضباط الكبار جدًا يعرفون معًا كيفية تحقيق أهدافهم وإقصاء ضباطٍ آخرين لا يوافقون طريقة تفكيرهم".

الضابط الرفيع السابق في الشرطة بنحاس يحزيقلي، يشرح آلية ونطاق عمل الدولة العميقة داخل الشرطة مبينًا أنها "دولةٌ عميقةٌ لكن ليس طبقًا لنظرية المؤامرة. فالأمر هنا لا يُشبه وجود عضو كنيست يتفق مع المستشار القضائي للحكومة على إسقاط نتنياهو. هذا لا يحدث" وفق قوله.

وبيّن يحزيقلي الذي يعمل حاليًا في "معهد أحفا"، أن الواقع يشير إلى وجود مجموعتين، الأولى مكونة من أعضاء الكنيست المنتخبين من الجمهور، والثانية مجموعة دائمة من ضباط الشرطة الذين يواصلون البقاء في المشهد، وهؤلاء يستخفون بالسياسيين بالقول من هم هؤلاء السياسيين الأنذال الذين يثيرون المشاكل ويزعجوننا أثناء أداء عملنا".

وأضاف، "أحيانًا نحن بحاجة لإنقاذ الشعب من سياسيّيه، وفي حال شخصنا وجود سياسي يُثير المشاكل قد يصل إلينا وبإمكاننا منع وصوله إلينا فإننا نفعل ذلك".


اقرأ/ي أيضًا:

بالجنس والابتزاز.. "الشاباك" يخترق حتى المستوطنين

يهوديات في سرير "الشاباك"

عاهرات الصهيونية من أجل احتلال القدس