04-نوفمبر-2017

صورة أرشيفية: مواجهات في قرية كفر قدوم - عدسة جعفر اشتيه (Getty)

اختبأت خلف شجرة التين وبجانب المغارة، كان مخبًأ ممتازًا لن يصله أصحابي بسبب خوفهم من المغارة التي حاك لنا الكبار أساطير مرعبة حولها كي لا نقترب منها. ورغم خوفي إلّا أنني كنت أفضل الفوز في "الغميضة" على أي شيء، لكنه لم يحدث!

من بعيد جاء صوت جدّتي موبّخةً من كان خلف الشجرة، وهي لا تدرك أنه عصام، أي أنا، حفيدها الأغلى! اضطررت للانسحاب من اللعبة ومثلت أمامها، فأجبرتني على البقاء في باحة البيت أو "باب الدار" كما نسميه، واحتساء الشاي معها لكي تغفر، فجلست بين يديها، وأشارت للمغارة وبدأت تقص عليَّ سيرتها هناك. لقد عاشت وأهلها في تلك المغارة أيام الحرب، وشهدت الأخيرة على ضعفهم تارة، وعلى قوّتهم التي تمثّلت في إيمانهم بحتمية النصر وضعف الظالم تارة أخرى، لأن قوّته صنيعة خيال المظلوم وبالتالي هو المتحكم بها، وشهدت أيضًا على انتشالهم الأمل خيطًا من عمق الحرب بكل ما فيها من حزنٍ وخوفٍ ويأسٍ وظلم.

كما يوجد عقل جمعي لدى الشعوب، يوجد خيال جمعي كفيل ببعث ما فيه إلى حقيقة لدى جيلنا

"كنا بالأول نسمع أصوات الطيّارات ونحس بالقذائف لما تنضرب، بس بعدين صرنا نطلع ونتفرّج عليهم لإنه تعوّدنا!". تقول جدّتي، ثم أجلس في حضنها ناظرًا لما فوقي، متأملاً كل ما قالت، ومبصرًا تلك القصة على جبين السماء، وفي حضن الغيوم التي حاولت طفولتي العارية من زبد الواقع رسمها من جديد، ثم أتخيل نفسي فارسًا وقتها، بطلا عظيمًا يسرق طائرات الموت هذه ويقودها وأصحابه نحو العدو، ويقاتلون حتى يطردونه، ثم خبّأ وجه جدتي كل هذا عنّي عندما أطلّت لتقبّلني لأغفو بعدها.

هذه القصة وقصص أخرى، وأغاني "ستّي وهيبة" التي ألّفتها وقتها استخفافا بالعدو المحتل، وطفولتي المنكشفة على الكون كأي فلسطيني، كانت سببًا في تأسيس خيالٍ قوّةُ الشعب فيه هي اليقين. وهذا الخيال ليس خيالي فقط، فكما يوجد عقلٌ جمعيٌّ لدى الشعوب، يوجد خيالٌ جمعي - إن صح التعبير - كفيل ببعث ما فيه إلى حقيقة لدى أبناء جيلنا.

فبين الرقص في أحضان جدّاتنا؛ إلى الرقص بين فوّهات البنادق، فرقٌ لا يذكر. ففي كليهما ترى ظالمًا ومظلومًا، وترى شجاعة وجبنًا، وترى أشخاصًا بأسلحة، وأشخاصًا أصبحوا أسلحة في وجه الظلم. وفي كلا اللحظتين طفولةٌ لا تخشى الموت، لا لشيء، ولكن لأنها أصلا لا تعرفه. وحجر فارس أكبر دليل، ذلك الحجر الذي تحدّى به الطفل فارس عودة دبّابات وآليات العدو الصهيوني، وهو يعلم أنه لن يدمّر ما لديه من قوّة بحجر، ولكنه أراد هزّ يقينهم بتلك الوقفة أمام ما يملكون من سلاحٍ وعتاد، وكأنه يقول: انظروا لي، بالرغم من كل هذا لست أخشاكم!

ثم كيف ننسى داليا، تلك الجميلة التي صاحبت الحجر، فصاحبتها رصاصة على بعد مليمتر واحد من القلب، وظلّت عالقةً إلى الآن:

جمالٌ راحَ يفدي الأرضَ فخرًا

بِقلبٍ يعتلي صقرًا مُعِزًا

تجرّدَ مِن سُكوتٍ لا يُقرُّ

أنوثة ثورةٍ وجمال أُنثى!

الله ما أبلغ تلك الثورة في فلسطين! وما أبلغ قول حجر فارس وأصحابه، وشهادة الرصاصة على إصرار قلب داليا على النبض، وما أعظم أحضان جدّاتنا النبيّة، وما أغبى عدوّنا وأجبنه إذ يصرُّ دائما على الاختباء.


اقرأ/ي أيضًا: 

خطاب باسل الأعرج الأخير

قلب حب على صورة شهيد

أرجوكم.. لا تغنوا أجمل الأمهات