منذ بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لم تجد الأم الأربعينية أم حسنات عاشور (45 عامًا) أيّ مساحة للبهجة والأمل، إلاّ حينما بدأت بقطف ثمار بعض المحاصيل، وأوراق النباتات التي زرعتها بجانب خيمة نزوحها في منطقة المواصي غرب خان يونس جنوب قطاع غزة.
يواجه هؤلاء المبادرون الزراعيون مشكلات عديدة، أهمها شح المياه وتقلب أحوال الطقس، وقلة البذور وغلاء أسعارها، وتناقص الأسمدة والمبيدات اللازمة
تقول عاشور، إنها "حاولت التغلب على غلاء أسعار الخضار وشحّها في الأسواق، عبر زراعة محاصيل ونباتات موسميّة، وفّرت لها ولأسرتها بعض الغذاء في أيام النزوح الطويلة، وأراحتها من عناء التجوّل في الأسواق والتكايا بحثًا عن الطعام".
استثمرت عاشور خبرتها البسيطة في الزراعة قبل اندلاع الحرب الإسرائيلية بمنزلها الذي دمرته قوات الاحتلال، فاشترت بذور السبانخ والسلق والجرجير والكزبرة والفجل وزرعتها، بينما استزرعت بذور محاصيل أخرى؛ كالبصل والثوم والفول والطماطم والفلفل والباذنجان وغيرها.
لكن حالة عاشور بهذا النجاح لا تُشكِّل نموذجًا فرديًا، إنما توجهًا مقاومًا لكثيرٍ من الغزييّن في مخيمات النزوح وبين أنقاض المنازل المُدمّرة؛ لمواجهة حرب المجاعة التي انتهجتها "إسرائيل" سلاحًا آخر في حربها ضدهم.
ويحاول الأهالي عبر هذه المبادرات، توفير جزءٍ ولو بسيط مما يحتاجونه من غذاءٍ صحيّ، بعيدًا عن المُعلبات التي سببت لهم مضاعفات صحية، خاصة المرضى منهم وكبار السن والأطفال.
عقباتٌ وحلول
ويواجه هؤلاء المبادرون الزراعيون مشكلات عديدة، أهمها شح المياه وتقلب أحوال الطقس، وقلة البذور وغلاء أسعارها، وتناقص الأسمدة والمبيدات اللازمة، فضلاً عن خبرتهم البدائية بالزراعة.
ولمواجهة قلة المياه في مخيم نزوحها، تقول السيدة عاشور: "أستغل المياه المتبقية من أعمالي المنزلية وأوفرها لمزروعاتي رغم قلتها، وعملت على ترشيد استهلاكها عبر الزراعة في مساحات محددة من التربة، وفي أحواض خاصة".
وللتغلب على ضيق المساحة بين الخيام، زرعت عاشور بداخل ما توفر لديها من معلبات فارغة وأوانٍ وحاويات بلاستيكية، وهو ما أتاح لها وفرة في تنوع المزروعات وزيادة في كميتها التي بدأت بتوزيع بعضًا منها على جيرانها من النازحين.
فشل ونجاح
وعلى غرار السيدة عاشور، يتفقد المُعلّم محمد شبير (53 عامًا) يوميًا نمو مزروعاته التي زرعها بجانب خيمته في منطقة القبة بمواصي مدينة خان يونس.
بكثير من التفاؤل يقول شبير: "هذه التجربة الثانية في الزراعة الذاتيّة بعد نجاح تجربتي السابقة، ورغم ما اكتنفها من صعوبات، إلا أنها حققت لي اكتفاءً ذاتيًا في معظم الأصناف".
بفائق العناية، يتجوّل شبير بين أحواض فسائل الثوم والبصل وبعض من نبات الملوخية والذرة ويقول: "عانيت كثيرًا من غلاء البذور التي قلّصت كميتها حين الشراء، ثم استخلصت بذورًا من بعض ثمر الخضروات، وقمت بتجفيفها وإعادة زراعتها، في محاولة استنبات جديدة للتغلب على غلاء أسعار البذور".
ورغم فشله في زراعة بعض الأصناف، إلا أن محاولاته لم تتوقف في تكرار زراعتها بعد أخذ النصائح من أقربائه والمزارعين النازحين بجواره.
لكن هذه المعضلة لم تكن الوحيدة في طريق محمد شبير، الذي يخوض تجربة الزراعة لأول مرة، حيث نوعية التربة الرملية التي لا تصلح لزراعة بعض المحاصيل، "وهو ما اضطرني لخلطها بالتربة الطينية التي تحتفظ بالمياه لفترة أطول" يضيف شبير.
زراعة الأمل
أمّا على الناحية الشرقيّة من المدينة، فلم يجد الشاب رائد سمور (34 عامًا) بُدًّا من توفير لقمة عيشه من زراعة مساحة من فناء منزله المُدمّر، والمكتظة بالحجارة والغبار استطاع استصلاحها ببالغ الصعوبة.
سمور الذي عاد إلى منطقة بني سهيلا بعد اجتياح بريّ إسرائيلي لقرابة 4 أشهر، أعقبها توغلات مفاجئة، صُدم -كما أهالي البلدة جميعًا- من حجم التدمير والتجريف للأراضي الزراعية والممتلكات في البلدة؛ التي اشتهرت بالزراعة على مستوى قطاع غزّة لسنواتٍ طويلة مضت.
وبعدما كانت حديقة منزل سمور مليئة بالورود وأشجار الزينة، يكافح حاليًا لزراعتها بالخضار أملاً في إيجاد مصدر غذائي ملائم يسد رمقه ورمق عائلته. يقول سمور : "الزراعة في هذه الظروف ليست للاسترزاق، بل هي أملنا في الحياة وفي الوجود والبقاء".
ورغم أن هذا النمط من الزراعة لا يمكنه حل أزمة نقص الغذاء في القطاع بشكلٍ كلي، إلا أنه يشكل خطوة لتدبر الأهالي والنازحين لشؤون حياتهم وتوفير ما تيسر لهم من الغذاء.
تحولات كارثيّة
ومنذ أن أطلقت "إسرائيل" حرب الإبادة على قطاع غزّة، غدا اعتماد جُل أهالي القطاع في غذائهم على المساعدات الإنسانية المُقدمة عبر المنظمات الأممية، بعدما كان مصدرهم في الغذاء مرتكزًا على المنتجات الزراعية التي حُرموا من تذوقها بفعل تقلّص المساحات الزراعية وتدمير الاحتلال لكافة مقومات الإنتاج الزراعي.
إذ إن الأضرار الناجمة عن الحرب تسببت في وقف إنتاج المساحات الزراعية، مما حدّ من إمكانية حصول الغزيين على المواد الغذائية الأساسية، وهو ما أدى إلى تفاقم المجاعة ووصولها لمستويات كارثية.
قبل الحرب شكّل قطاع الزراعة في غزة أهمية كبيرة لسكانه على عدة مستويات؛ من بينها تحقيق الأمن الغذائي وتوفير فرص العمل ودعم الاقتصاد المتهالك أصلاً
وقبل الحرب شكّل قطاع الزراعة في غزة أهمية كبيرة لسكانه على عدة مستويات؛ من بينها تحقيق الأمن الغذائي وتوفير فرص العمل ودعم الاقتصاد المتهالك أصلاً.
أرقام صادمة
وذكر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، في تقرير أصدره في حزيران/يونيو الماضي، أنّ "إسرائيل" أخرجت أكثر من 75 بالمئة من مساحة الأراضي الزراعية عن الخدمة في قطاع غزة، إما بعزلها تمهيدًا لضمها للمنطقة العازلة على نحو غير قانوني أو تدميرها وتجريفها.
بينما أشارت منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" في تقرير نشرته في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أن الحرب ألحقت الضرر بـ67.6 في المئة من الأراضي الزراعية (أكثر من 10 آلاف هكتار) حتى الأول من أيلول/ سبتمبر، في حين كانت النسبة 57.3 في المئة في أيار/مايو، و42.6 في المئة في شباط/ فبراير.
كما تسبَّبت الحرب في تضرر 71.2 في المئة من البساتين والأشجار المثمرة، و67.1 في المئة من المحاصيل الحقلية (لا سيما في منطقة خان يونس)، و58.5 في المئة من محاصيل البساتين، حسبما ذكر التقرير الذي يستند إلى صور الأقمار الصناعية.
كما سجّل التقرير أضرار واسعة النطاق في قطاع الزراعة بفعل الأعمال العدائية، أدّت إلى توقف الإنتاج المحلي الحاسم للأغذية الطازجة والمغذّية بشكل شبه كامل،
وبحسب "الفاو" فإن من شأن هذه السياسات الحدّ من إمكانية حصول السكان على المواد الغذائية الأساسية اللازمة لنمط غذائي صحي، ما يطرح مشاكل خطيرة بالنسبة إلى التعافي مستقبلاً.