22-يوليو-2018

الجالس في الطابق الثاني من مطعم القدس على مدخل مدينة الخليل، سيشده إعلانٌ ضخمٌ عُلق على ميدان مجاور يحذّر فتيات المدينة من الابتزاز الإلكتروني على شبكات التواصل الاجتماعي، ويطالبهنّ في حال تعرّضن لذلك بضرورة مراجعة الشرطة الفلسطينية بالسرعة الممكنة.

الخليل المدينة الفلسطينية الأكبر والأكثر محافظة، كانت الأكبر في نسبة الجرائم الالكترونية، وبحسب إحصاءات رسمية صادرة عن وحدة الجرائم الإلكترونية في الشرطة الفلسطينية، فقد تم رصد 2028 شكوى عام 2017، بينما تم رصد 1327 شكوى عام 2016، وفي عام 2015 رصدت 552 شكوى.

الخليل المدينة الفلسطينية الأكبر والأكثر محافظة، كانت الأكبر في نسبة الجرائم الالكترونية

وتشمل الجرائم الإلكترونية (الابتزاز والتشهير والتهديد وسرقة البريد الإلكتروني والإساءة على مواقع التواصل الاجتماعي)، وتعرف بأنّها أي مخالفة ترتكب ضد أفراد أو جماعات بدافع جُرمي، وبنيّة الإساءة المادية أو المعنوية، سواء كان ذلك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وأن يتم ذلك باستخدام وسائل الاتصالات الحديثة مثل: الانترنت وأجهزة الاتصالات الحديثة.

دلالات الأرقام

قد يكون الإعلان السابق طبيعيًا، لولا حالة عامة تشهدها مناطق الضفة الغربية يتم بموجبها تسويق تلك الأرقام على أنها مرتفعة، ومرتفعة جدًا، وتشي بتحولات اجتماعية وثقافية ينبغي الاصطفاف ضدها!

اقرأ/ي أيضًا: الجرائم الإلكترونية.. في التدشين لدولة بوليسية

لكن من دون التوقف مثلاً عند أرقام أخرى لها علاقة بطبيعة استخدام الفلسطينيين لشبكات التواصل الاجتماعي؛ سنصل إلى استنتاجات خاطئة لا محالة. فهناك ما نسبته 52% من المجتمع الفلسطيني متصل بالانترنت، وفلسطيني واحد من بين كل 3 فلسطينيين موجود على شبكات التواصل الاجتماعي (أي 35%) بحسب تقرير "شركة سوشال استوديو" عام 2018، الذي كشف أن الفلسطينيين هم الأكثر إقبالاً على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.

وبحسب تقرير شركة "آيبوك" التي تُعنى بدراسة أداء مشتركي مواقع التواصل الاجتماعي لعام 2017، فإن تصفح موقع مثل "فيسبوك" مثلاً بلغ 69% بين الفئة العمرية 15- 29 عامًا، وبهذا تكون فئة الشباب هي الحاضرة والمسيطرة بالدرجة الأولى على مواقع التواصل الاجتماعي. وفي الوقت ذاته، تبلغ نسبة مستخدمي فيسبوك من الإناث  في فلسطين أكثر من 44%، وهي النسبة الأعلى عربيًا بحسب تقرير وسائل التواصل الاجتماعي في الدول العربية والصادر عن كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية عام 2018.

التوقف عند الأرقام السابقة يجعل المدقق يكتشف أن حجم التواجد الفلسطيني - وتحديدًا فئة الشباب - على الشبكات الاجتماعية أمرًا يبرر تنامي مظاهر وأشكال محددة من الجريمة الالكترونية، وهو أمر يتطلب دراسة وبحثًا لمعرفة أسباب هذه المظاهر والمناطق التي تكثر فيها، والفترات الزمنية التي تتنامي فيها، والسياقات الاجتماعية والسياسية لكل ذلك.

حجم التواجد الفلسطيني على الشبكات الاجتماعية يبرر تنامي أشكال محددة من الجريمة الالكترونية

من دون ذلك يبقى النظر إلى تلك الأرقام في ظل واقع فريد تعيشه فلسطين المحتلة حقًا يراد به باطلاً، إن لم نقل حقًا ويراد إعادة توجيهه وربطه بما يخدم النظام السياسي الفلسطيني الذي يعيش فصامًا بينه وبين عامة الناس، ومجمل النشطاء على الشبكات ذاتها.

تحول في الخطاب

أما الأرقام الكبيرة لمستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي في فلسطين المحتلة فلا يبررها إلا أن خطابًا فلسطينيًا (رسميًا، حزبيًا، شعبيًا) تجاه شبكة الانترنت، ولاحقًا الشبكات الاجتماعية منذ دخولها إلى فلسطين عام 1997، اعتبرها هذا الخطاب وسيطًا ومصدرًا رئيسيًا لنقل الصوت الفلسطيني للعالم أجمع، ووسيلة من وسائل التواجد والتشكل الفلسطيني الافتراضي الموحد، وهو الأمر المتعذر تحققه على الأرض في ظل حالة التشتت والتشظي التي يعيشها الفلسطيني في دول اللجوء القريبة والبعيدة بفعل الاحتلال ذاته.

اقرأ/ي أيضًا: عن موظف الدعم الفني: القامع والمقموع

استخدام الانترنت كان مرحبًا به من أجل خدمة القضية الفلسطينية ولمقارعة الاحتلال، وبالتالي كان التحشيد والدفع بالاستخدام والاحتفاء بالمستخدمين هو الخطاب الذي ارتبط مع بداية ظهور الوسيط الجديد ومجمل التقنيات والتطورات التكنولوجية المرتبطة به، وهو ما أثمر أن كان الفلسطينيون الأكثر حضورًا على الشبكة على شكل مواقع إلكترونية عامة وإخبارية، والأكثر مشاركة ونشاطًا على المجموعات المختلفة من مدونات ومواقع دردشة..الخ.

خلال تلك السنوات كان يتم التغاضي عن أي سلبيات تظهر، كانت تنزوي خلف المشهد الإعلامي/ النضالي باعتبارها آثار جانبية لا تستحق أي اهتمام.

غير أن تحولاً كبيرًا طرأ على خطاب السلطة ومؤسساتها تجاه الانترنت، وتحديدًا تجاه شبكات التواصل الاجتماعي في ظل تحولات سياسية واجتماعية عميقة يعيشها المجتمع الفلسطيني دفعت لأن تكون هذه الشبكات منصاتٍ لحشد رأي عام ضد سياسات رسمية فلسطينية في كثير من المواطن (ارفعوا العقوبات عن قطاع غزة، إضراب المعلمين العموميين، التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال...الخ)، في ظل تراجع وسائل الإعلام التقليدية التي ترتهن بمقولات ورؤى النظام السياسي الرسمي، من دون أن يتوقف عن كونه أداة تحشيد وتعبئة ضد الاحتلال.

الخطر الأكبر

خطاب السلطة ومؤسساتها تجاه الانترنت وشبكاته انقلب، هناك موقف، فيما يبدو أنه قد اتخذ من أعلى المستويات، ومفاده أن الخطر الأكبر على السلطة الفلسطينية ومؤسساتها هو شبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما يجاهر به مسؤولون وقادة أمنيون وحزبيون في لقاءات خاصة وبعيدًا عن العدسات.

يشي بذلك السباق المحموم الذي تقوم به السلطة ومنظومتها الرسمية وغير الرسمية ودوائر العلاقات العامة في مؤسساتها وأجهزتها الأمنية لتنظم مئات الندوات والورش في الجامعات والمدارس والمجالس المحلية والمساجد تُخَوِّف من هذه الشبكات، من دون أن يكون ذلك ضمن خطاب إعلامي/ سياسي يزرع وعيًا ومعرفة حول الشبكة وطرق استخدامها المثلى، متناسين ومتغافلين أهميتها بالنسبة لشعب محتل ومشتت ويُحارب في هويته الوطنية، ويعيش في جغرافيا مقسمة وسجن كبير.

الجهود الرسمية تَستَثمر في تنامي بعض الاستخدامات السلبية للشبكة من أجل قمع المستخدمين وتخويفهم

هذه الجهود الرسمية تَستَثمر في تنامي بعض الاستخدامات السلبية للشبكة من أجل قمع المستخدمين وتخويفهم، جهود تقترب من مفاهيم الابتزاز الإلكتروني، والتحرش الإلكتروني، وانتحال الشخصية...الخ، وتضخمها وتجعلها هاجسًا محليًا، تسن لها القوانين التي تضبط هذا "الانفلات" على مختلف الشبكات مع تنامي رغبتها بالسيطرة والضبط، وعبرها تخلق خوفًا عميقًا وقمعًا ناعمًا تجاه أدوات دومًا ما طالبنا بامتلاكها، وبحيازة ناصية الإبداع فيها.

اقرأ/ي أيضًا: حجب المواقع الفلسطينية.. هيّ فوضى

متابعة عادية لنشرات دوائر العلاقات العامة في المؤسسات الرسمية الفلسطينية ستكتشف بموجبها أن خبر تنظيم محاضره حول "مخاطر استخدام شبكات التواصل الاجتماعي" متكرر، ولن نبالغ إن قلنا أن هذا النوع من المحاضرات عقدت مئات المرات في السنة الحالية، جزء منها تركزت في الجامعات، حيث استهداف شباب هو الأكثر استخدامًا للشبكات الاجتماعية، فيما جزء أكبر خُصص لطلبة المدارس الثانوية والإعدادية، فيما يكون استهداف عامة الناس وتخويفهم عبر منابر المساجد والمجالس العامة واللقاءات المفتوحة.

هذه مفارقة شائكة نعيشها اليوم ويدركها الجيل الذي مر بالمرحلتين (الأولى 1997 – والثالثة 2018)، فـ21 عامًا كانت كفيلة بتغير جذري لطريقة النظر إلى هذا الوسيط/ الانترنت الذي كان أداة للتعبير عن شعب مقموع من الاحتلال ووسيلة تحشيد ضده، ليصبح اليوم في الخطاب الرسمي الوسيط الذي يعج بالجرائم الالكترونية.

تفصل المرحلتين السابقتين، مرحلةٌ وسيطةٌ عكست شكلاً مختلفًا لعلاقة النضال الفلسطيني بالإنترنت، يمكن أن نطلق عليها المرحلة الثانية، ويمكن التأريخ لها بعام 2006، أي مع بداية الصراع السياسي الحاد بين حركتى فتح وحماس، عندها تحولت الشبكة من أداة لمقارعة الاحتلال ووسيلة تكسر روايته، إلى وسيلة للتصارع والاقتتال الداخلي، وفيها فقد النضال الالكتروني الفلسطيني براءاته وطهارته أيضًا.

شيطنة الشبكات

اليوم نعيش في أتون المرحلة الثالثة، وفيها تُشيطن الشبكات أمام جيل جديد من الشبان الذين تشكل وعيهم وفكرهم من خلالها، وذلك عبر مختلف الفعاليات التي تستهدفهم وتخلق حالة خوف من الحضور والتواجد على الشبكات الاجتماعية، طالما لا يوازي هذا الخوف "الفوبيا" خطاب إعلامي تثقيفي معرفي يركز على الفرص التي تتيحها الشبكة خدمة للقضية الفلسطينية.

الشبكة اليوم لا تخدم النظام السياسي المكبل بانعدام الأفق السياسي وفشل الرهانات التفاوضية، بل ما يحدث هو العكس تمامًا، وهو ما يستوجب بحسب "عقلية السلطة"، العمل ضد الشبكة حتى لو بدا ذلك محاولة "دون كيشوتية"، ولا أسهل من ذلك إلا بحمل فزاعة الجرائم الالكترونية والتلويح بها أملا بالمزيد من السيطرة والضبط والتحكم.

ولا يمكن فهم هذا التحول الرسمي في علاقة السلطة مع شبكات التواصل الاجتماعي من دون أن نعي جيدًا أن هناك تغييرًا أكبر في طبيعة العلاقة بين المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية والسلطة، فبعد أن كانت علاقة سلطة وطنية تسعى مع مجتمع فلسطيني إلى إنجاز مشروع تحرر وطني، أصبحت علاقة سلطة قمعية بمجتمع وفقط بحسب الباحث عز الدين التميمي.

وما التخويف من شبكات التواصل الاجتماعي إلا إحدى مظاهر هذا المشهد القاتم، وإعلان الخليل الذي يماثله إعلانات في مدن فلسطينية أخرى ليس إلا تعبيرًا دالاً على ذلك مع تنامي مظاهر القمع الأخرى.

إنها مرحلة السيطرة عبر الخوف.


اقرأ/ي أيضًا:

قانون الجرائم الإلكترونية: السلطة تشرعن قمع الحريات

قانون الجريمة الإلكترونية: الأخ الأكبر يراقبك!

تعامل السلطة مع الإعلام.. محاولة لفهم الجنون!