22-يونيو-2019

كانت اللحظة الأخيرة التي تُكلمه فيها، ودَّعها على أمل العودة للمنزل سريعًا لتناول طبخة "ورق العنب" التي طلبها لغداء اليوم، وذهب لحضور حفل زفاف في القرية، إذ اعتاد أن يشارك الطفل عبد الجابر ياسين أهالي قريته عصيرة القبلية جنوب مدينة نابلس أفراحهم.

في اليوم ذاته، وهو الثالث من شهر أيار/مايو الماضي اعتُقل الطفل ياسين (15 عامًا) وسط قريته، بعد أن باغته جنودٌ كانوا قد اقتحموا القرية بادعاء رشقهم بالحجارة، فطاردوه بآليةٍ عسكريةٍ وحاولوا دهسه ثم أمسكوه وألقوه به سريعًا بداخلها بعد أن أوجعوه ضربًا.

الطفل عبد الجابر ياسين اعتقله جيش الاحتلال تزامنًا مع حفل زفاف في عصيرة الشمالية بعد التنكيل به

كالصاعقة وقع الخبر على والدته حنان بني شمسة (أم مهدي) ولم تستوعب اعتقاله كطفل، فهذا يحدث لأول مرة ليس في عائلتهم فحسب بل في القرية بأكملها.

وزاد في خوف والدته وقلقها على طفلها الأصغر، تعرضه لضربٍ مبرحٍ على يد الجنود لحظة اعتقاله، وتقول: "تكالبوا عليه وضربوه بأيديهم وبأعقاب بنادقهم" قبل أن يزجّوه "بعنف" داخل الجيب العسكري.

لم تعرف عائلة عبد الجابر أو "عبود" كما ينادونه في القرية مصيره إلا بعد ساعاتٍ من اعتقاله، فاتصلوا على هاتفه النقال ليرد أحد الجنود "ابنكم يرشقنا بالحجارة، عينوا له محامي".

المحكمة فرصة وحيدة للّقاء

نُقِلَ الطفل وفق رواية ذويه لـ الترا فلسطين إلى مركز اعتقالٍ بمستوطنة أرائيل قرب سلفيت ثم لمعسكر حواره جنوب نابلس، ثم اقتيد لسجن مجدو داخل الخط الأخضر، ومن هناك صار يُعرض على المحكمة كل حين وآخر.

ترفع والدته صورة له أعدوها بالحجم الكبير في استوديو القرية، وتقول إن محكمة الاحتلال قضت وبعد ثلاث جلسات من المداولة بسجنه أربعة أشهر وتغريمه ماليًا بثلاثة آلاف شيكل، مضيفة أن العائلة رفضت القرار واستأنفت ضده.

منذ ذلك الحين وعائلة الفتى عبد الجابر تتنقل بين المحاكم، وهذه فرصتها لتراه، فهو ممنوعٌ من الزيارة، تُعلق والدته: "يحضروه مقيدًا ويُمنع حديثه معنا".

عائلة الطفل عبد الجابر ياسين لا تراه إلا في قاعات المحاكم فهو ممنوع من الزيارة

بغياب عبد الجابر نُكئ جرح العائلة ثانية، حيث كانت قد فقدت شقيقه قبل سنوات بحادث سير. تقول شقيقته نورس (21 عامًا)، إنهم لم يعتادوا فراقه مطلقًا، فهو "شعلة نشاط" في المنزل ويضفي عليه المرح والسرور.

اقرأ/ي أيضًا: بين زيارةٍ وأخرى.. هكذا يكبر الأسرى الأطفال فجأة

عبد الجابر واحدٌ من 250 طفلاً فلسطينيًا تعتقلهم إسرائيل داخل سجونها، وتبدأ عقابهم منذ اللحظات الأولى وبما يُخالف القانون، فهي تعتقلهم ليلاً وسط ترويعٍ لهم ولذويهم وتقتادهم مكبلين ومعصوبي الأعين لمستوطناتٍ أو لمعسكراتٍ للجيش، ويُحقَّق معهم لوحدهم بلا رفقة ولي الأمر.

صمتٌ عالمي

ولا ترمي إسرائيل باعتقال هؤلاء الأطفال "لترهيبهم" وردعهم فحسب، وإنما تدمير جيلٍ بأكمله، ويستهدف العائلة وبُنْيتها من الداخل، فالاعتقال لا ينتهي بالإفراج عن الطفل، بل للاعتقال تبعاته السلبية حتى بعد ذلك.

تُبين المحامية سحر فرنسيس، مديرة مؤسسة الضمير لرعاية الأسرى وحقوق الإنسان، أن ما يقلقهم هو إصابة الأطفال أثناء اعتقالهم، كما حدث مع الفتى محمود صلاح من بيت لحم، حيث أُصيب وبتر الاحتلال ساقه بعد اعتقاله، كما يعزلهم ويحرمهم زيارة المحامي.

الطفل محمود صلاح بعد الإفراج عنه

ووفق فرنسيس، فإنهم كجهاتٍ حقوقيةٍ يدركون المخاطر المحدقة بالأطفال الأسرى، ولذلك يقدمون تقارير وشكاوى للمقرر الخاص بالأمم المتحدة، تحديدًا لجنة حقوق الطفل ولجنة التحقيق الخاصة بالأراضي المحتلة، "لكن كل هذا لا يؤدي لمساءلة ومحاسبة فعلية للاحتلال" كما قالت.

محكمة الجنايات لم تُحقق في شكاوى بشأن انتهاكات الاحتلال لحقوق الأطفال الأسرى

وأضافت لـ الترا فلسطين، أنه لا يوجد قرارٌ من الجهات الدولية يطالب الاحتلال بإطلاق سراح الأطفال الأسرى ووقف تعذيبهم وسوء المعاملة والمحاكمات غير العادلة والاعتقال الإداري، مشيرة إلى شكاوى خاصة قدمتها هيئة شؤون الأسرى لمحكمة الجنايات الدولية، لكن المدعية العامة لم تفتح أي "تحقيقٍ رسميٍ" بشأنها.

وكل ما يفعله العالم -وفق فرنسيس- لا يتعدى "تحركاتٍ شعبيةٍ" لقضايا بعض الأطفال، أو تحركًا على مستوى البيانات للاتحاد الأوروبي، وهذه كلها "لم ترتق لتشكل ضغطًا على الاحتلال بما ينهي قضية اعتقال الأطفال" وفق رأيها.

ردع مسبق

أمينة الطويل، الباحثة في مركز الأسرى للدراسات، ترى أن هذه الاعتقالات تهدف لتحجيم ومنع أي دور "تحرري وقيادي" لهؤلاء الأطفال مستقبلاً، مشيرة إلى أن المجتمع الفلسطيني "فتي" وأن نحو 50% منه هم من الأطفال، وبالتالي يعمل الاحتلال على زعزعة هذه الشريحة وتفكيكها وإرباكها وزرع الخوف والاستسلام.

وتُضيف أن سلطات الاحتلال تُريد من الغرامات المالية ضرب الجانب المادي والاقتصادي للأسير وتعويض المستوطنين المتضررين من المقاومة الفلسطينية، إضافة لخلق "شرخ" في المستوى الاجتماعي بإبعاد الناس عن عائلة المعتقل.

كان وقع اعتقال الطفل عبد الجابر على أهله وأهالي قريته كبيرًا، رغم الهجوم المتكرر للجنود والمستوطنين ضد القرية، لهذا ستبذل عائلته جهدها بالدفاع عنه وتخفيض حكمه، ليدرك مدرسته وعيد الأضحى معهم، فقد حرمه الاعتقال شهر رمضان وعيد الفطر مع ذويه.


اقرأ/ي أيضًا: 

أطفال فلسطين في سجون الاحتلال.. لقاء مبكر بالجلاد

لماذا يتحدث المجرمون مع أطفالنا؟

"عهد" أيقونة جيل فلسطيني مقاوم