16-مارس-2022

تصوير (الترا فلسطين)

نشأتُ في قرية شكّلت الزّراعة محور الحياة فيها، وكانت سَلَّة الغذاء الأساسية تأتي من ناتج الأرض ومن بركة ما نزرعه من قمح وخضروات وبقوليّات، وكانت أشجار الزيتون والعنب والتين واللوز والصبر من أهم ما يُحيط ببيوتنا.

  يُزرع الفول في باكورة الشتاء، وله حضور وافر في الأمثال الشعبية الفلسطينية، فإيّاك أن لا تأكل منه حين يحضر، وتناوله دائمًا يُرجع الشخص إلى "الأصول"! 

وكان لأيّام الربيع بالغ الأثر والحضور في مطبخنا الريفي، حيث تكثر الأعشاب والنباتات التي يتم جمعها من سهول القرية وتلالها أو من الأغوار كالعكّوب والخبّيزة والخردل والجرجير والسلك والسبانخ والحمّيض والدريهمة والأصيبعة، واللوف وقرن الغزال، وفوق ذلك كانت الأرض تجود بمحاصيلها الشتوية التي كُنا نُبكّر في زراعتها كالفول والحمص والبازيلا. ولذا لا عجب أن تخضّر أطباق موائدنا وسُفرات طعامنا، وأن يكون للأعشاب والبقوليّات وأهمّها الفول، أثر بالغ في ثقافتنا المطبخية.

حبّ الفول الأخضر - Getty

قال الشاعر عبد المجيد فرغلي، واصفًا الفول:

قامت على ساقها تزهو بنوّار .. كبسمة الطّفل كم شعّت بأنوار
في حقل فولٍ ترامى فوق مزرعة .. من أرض ريفيّ حول الجدول الجاري

يُعتبر الفول في التقويم الفلاحي الفلسطيني باكورة الزراعة الشتوية، حيثُ "يُعفر" في الحقول بعد شتوة الموسم البدري (تشرين ثان/ نوفمبر)، وبه تبدأ دورة الفلاحة، فهو باكورة ثمار الأرض، ولذا جعلت وفرته رمز الخير كما في المثل الشعبي: "السنة المليحة بتنعرف من فولها وسخولها".

نبتة الفول - Getty

ومن هُنا رُبما جاء الاعتقاد لدى القدماء بأن حبّة الفول ترمز للجنين، الذي تخلق الحياة معه وتتجدد بمولده، ثم صارت حبّة الفول رمزًا للطفل الذكر الذي تُؤمل ولادته ثم حياته. وتتجلى بقية هذه الاعتقادات بما يُغنى للأطفال حين يبدأون أول خطوات المشي، حيث يُكنى للطفل بأنه (قرن الفول):

دادي يا قرين الفول .. دادي تمشي وتطول

دادي يا قرين الفول .. دادي حمص مبلول

ويعمد الفلاحون في قُرانا الفلسطينية إلى زراعة الفول بين أشجار الزيتون، ويقولون إن للأمر فائدتين إحداهما عائد على الشجر، حيث يُغني التربة ويفيدها، والثاني عائد على الفول إذ يحميه الشجر من الصقيع، ويوفّر له الرطوبة المناسبة.

اقرأ/ي أيضًا: هذا ما تبقى من أكلات فصل الشتاء

وتشير المصادر التاريخية إلى أنّ الإنسان عرف زراعة الفول في العصور التي سبقت التاريخ. إذ قدّسه الرومان واستعملوه في صلواتهم، واستخدمه اليونانيون كبديل عن الورق في صناديق الاقتراع، وَوُجد بكثرة في مقابر الفراعنة.

وأظهرت حفريات أجريت في فلسطين المُحتلة، 4 حبّات فول محروقة في "مغارة الواد" في الكرمل، قُدّر عمرها بـ 14 ألف سنة، وأشار الآثاريون إلى أنّ هذه الحبّات هي الأصل البرّي للفول قبل التّدجين.

صورة تعبيرية - Getty

ولعل أهمّ اكتشاف مُتعلق بالفول كان العثور على 469 حبّة فول قُدّر عُمرها بـ10 آلاف عام، وذلك في حفريات أثرية في ثلاثة مواقع في الجليل السّفلي في فلسطين المحتلة، وقد وُصفت هذه الحُبوب بأنها مُنتقاة بعناية ومخزّنة لأجل الزراعة، وهي مُرتبطة بالحَضارة الزراعية الأولى في بلادنا.

كما أشارت اكتشافات أثرية لوجود الفول في مقابر الفراعنة، ويُعتقد أن الفول من أوائل البُقوليات التي تم تدجينها.

لغز حقل الفول

تزخر الذهنية الشعبية بالكثير من الحكايات والمعتقدات المتّصلة بنبات الفول، ولا يغيب الفول عن المرويات التاريخية والدينية والأسطورية، ما يعكس أهميته للإنسان كطعام مُنذ فترة قديمة. ففي عدد من الحكايات الخُرافية نجدُ (الغولة) قد زرعت حقلًا بالفول الأخضر، وأن هذا الفول كان سببًا في الحياة أو الموت في تلك الحكاية.

 تزخر الذهنية الشعبية بالكثير من الحكايات والمعتقدات المتّصلة بنبات الفول، ولا يغيب الفول عن المرويات التاريخية والدينية والأسطورية 

ونجد الحطّاب مثلاً في حكاية "أبو الفُول" يدخل حقل الفول الخاص بالغولة، فتخدعه بزعمها أنها عَمّته، وتمنَحُه حقلها وبيتها، لينتهى به المطاف في بطنها.

Getty

وفي حكاية "نُص نصيص" الشهيرة ينجو البطل ومن معه من كيد الغولة لأنه استخدم حفنة الفول كعشاء له.

وفي حكاية مُثيرة تُروى في عددٍ من القرى الفلسطينية مثل أبو شوشة ودير عمار والقبيبة، نسمع أنّ رجلًا دخل إلى حقل الفول لجمع الحشائش لأغنامه، فدخلت ابنة الغُولة بين الحشائش التي يُكوّمها الرجل في عباءته، وحملها إلى بيته دون أن يعلم ما بها، وتنتهي الحكاية بأن تُقدّم له الغولة هدية (المَسْدَة أو مسحة اليد الشافية) لأنه لم يؤذ صغيرتها وأطعمها فوق ذلك زلابية.

اقرأ/ي أيضًا: المسخن: تكامل خيرات البيت الفلاحي

تقودنا هذه الحكايات للبحث عن جذور الربط بين الفول والغول، فمن الواضح أن للفول حكاية توازي تاريخ تدجينه قبل 10 آلاف عام، وليس الأمر مجرد تشابه لفظي بين الكلمتين (غول - فول)، ومن هُنا ربطته المخيّلة الشعبية بالخرافات والأساطير القديمة. 

 اعتقد الفراعنة أن الفول رُبما كان يحوي السّر الأعظم للحياة والموت 

وفي واحدة من أقدم الاعتقادات الأسطورية المنسوبة لكهنة الفراعنة في مصر يُقال بأن الفول رُبما كان يحوي السّر الأعظم للحياة والموت، ومردّ ذلك اعتقادهم بأن أرواح الموتى تقبع في "حقل الفول" بانتظار تناسخها من جديد. 

حبّ الفول الجاف - Getty

وهو اعتقاد شاطرهم فيه فيثاغورس (571-495 ق. م) في اليونان القديمة، حتى أنه حظر على تلاميذه أكل الفول. وقد انتهت حياته جرّاء هذا الاعتقاد، وذلك حين كان ملاحقًا من أعدائه فوصل لحقل فول فآثر تسليم نفسه للموت على أن يعبُر من حقل الفول فتتعطل دورة تناسخ الأرواح التي يُؤمن بها.

ولعل أغرب ما يُقال عن الفول في الاعتقاد الشعبي، أن العفاريت والجن، تنام وتقيّل عند الظهيرة في حقل الفول، ولذا يُوصى الأهل أطفالهم بعدم النوم أو اللعب بحقل الفول، ورُبما جاء هذا الاعتقاد من المرويات بأن الفول غذاء الجنّ الأساسي.

اقرأ/ي أيضًا: كفتة الفلسطينيين.. داود باشا العرب!

يُعدّ "الفول" نباتًا عشبيًا سنويًا، من جنس البقوليات ثُنائية الفلقة، وهو من الفصيلة القَرنية (الفراشية)، وموسم زراعته في الخريف وتنضج ثماره في أول الربيع، ولذا قيل فيه: "الفول في آذار مثل مخلب الفار" كناية عن صغر حجمه. ولنباته زهرةٌ بيضاء مُبقعَةٌ بالأسود، وثمارها عبارةٌ عن قرونٍ طويلة فيها عِدّةُ بذور. 

زهرة نبتة الفول

ولطالما كان توفّر الفول في السلة الغذائية وحضوره في موائد الشعوب أمرًا محل مدح وثناء، والبعض اعتبره إلى جانب العدس بديلًا عن اللحوم والشحوم على المائدة، فالفول غنيّ بالبروتينات والنّشويات والفيتامينات والأملاح المعدنية، لدرجة أنّه يمكن اعتباره من أغنى المواد المُغذية بعد اللحم والبيض.

اقرأ/ي أيضًا: "لحم الفقراء" في تراث فلسطين

وللفول جُملة من الفوائد الطبّية، منها منع الإمساك والتخفيف من روائح الجسم، وإن كان الإكثارُ من أكله نيًا قد يؤدي إلى انحلال كريات الدم لدى بعض الأجسام، وهو ما نُسميه بالعامية التّفويل، فيُقال: "فلان امفَّوِّل".

الغربلة والتنقاية!

كان من المُثير لعلماء الآثار الإسرائيليين في حبّات الفول التي عثروا عليها في فلسطين المحتلة أنها مُتطابقة في الحجم، وأنها مُنتقاة بعناية وبانسجام فيما بينها. الأمر الذي يُعيدنا لنقرأ كيف يتعامل الفلاحون مع بذار الفول مُنذ القدم وحتى اليوم، في بلاد تُعتبر موطن الحضارة الزراعية الأولى.

 ما اعتبره علماء الآثار الإسرائيليين "مثيرًا للاهتمام"، هو فعلٌ طبيعي تُمارسه الفلّاحات الفلسطينيات 

إلى وقت قريب كانت والدتي وجاراتها يعمدن لغربلة المحاصيل وتنقيتها في "الحوش" أو قاع الدار، حيث يجلس أرضًا ويبدأن حفلتهن متعاونات على إنجاز المهمّة.

تستخدم النساء "الغربال" للقمح، أما الفول والحمُص فيستخدمن له "الكربال" وهو شبيه بالغربال لكن فتحاته أكبر، فتوضع حبّات الفول فيه ويتم هَزّه وتحريكه بانتظام فتسقط الحبّات الصغيرة وكسرات الفول، ويتم تحويل الحبّات الجيدة التي تتطابق في الحجم إلى التنقاية، حيث تقوم النّسوة باستخراج القش والعيدان والشوائب منها. 

ثمّة فرق بين الغربال والكربال - (SAID KHATIB/Getty)

ومع انتهاء عملية التنقاية يتم تقسم الفول إلى ثلاثة أكوام (حُصص): حُصّة الأكل، وحُصّة الزراعة للموسم التالي، وما يفيض عن الحاجة يكون متاحًا للتوزيع أو البيع. أمّا ما يسقط من "الكربال" وما لا يصلح للأكل فإنه يحوّل لطعام وأعلاف للدواجن والدواب.

وقديمًا كان يتم تخزين الفول في "المطامير" و"الخوابي" والجِرار المُعدّة خِصّيصًا لذلك، حيث تُنتقى أفضل الحبوب وأسلمها وأنضجها لتكون بذار الموسم التالي، والشّعار الذي يعتمده الفلاحون في ذلك: "تفوّلوا ولو بِكَبْشَة"، وتحفظ الحبّات جيّدًا، بحيث يتم إبعادها عن الرّطوبة والماء والسّوس، لتحفظ خصائصها وتبقى بحالة جيدة للموسم التالي.

اقرأ/ي أيضًا: "المطبخ الإسرائيلي" المليء بالأكاذيب

وهذا ما يحيل للقول أن ما اعتبره علماء الآثار الإسرائيليين "مثيرًا للاهتمام"، هو فعلٌ طبيعي تُمارسه الفلّاحات الفلسطينيات في الأرياف من عهد جدّاتهن قبل آلاف السنين حتى اليوم، يفعلن ذات الأمر، ويواصلن حياكة الحضارة دون تزييف أو تحريف. 

الفول.. ذمٌّ ومدح

ينعكس تاريخ الفول القديم في حضوره بثقافتنا المشرقية، ومن الطرافة أن نجده ممدوحًا ومذمومًا في ذات الوقت. وما يُحكى ويُقال عن الفول في الموروث الأدبي والشعبي ما يُشير إلى هذه الثنائية التي تعكس تداخل معرفتنا وتنوّع مشاربها، وأثر الثقافات والحضارات القديمة في تشكّل مطبخنا العربي.

وحين نطالع الأدب العربي يُبهرنا ما نُسب للفول من الغلاظة وسوء الأثر على الأجسام، وأنه يُغلق العقل والأفهام ويحجب القدرة على التفكير والبيان. ومن أطرف ما قيل في ذلك ما نُسب للشاعر أبو العباس الخوزاني مودِّعًا شهر رمضان:

أقول لشهر الصّوم لما قَضيته .. عليك سلام الله بُورك راحلًا

وقد كنت من "سحبان" أفصح لهجةً .. فصير طبعي بأقلائك "باقلاً"

يؤكد أبو العباس في البيت الثاني أن أكل الفول في شهر رمضان جعله مثل "باقل" الذي يضربون به المثل في البلاهة والعجز عن الكلام، رغم أنه كان قبل ذلك مثل "سحبان" الذي يضرب به المثل في الفصاحة والقدرة علي الكلام.

وفي مديح الفول والثناء عليه قال الشاعر السوداني محمد المجذوب:

هات فُولاً بالزيت في أوّل الليل .. وأذهبْ به الشّجا عن لهاتي

ربِّ إني قنعتُ بالفول فارحمه .. لقد خالطَ الهوى في رُفاتي

والفول في أمثالنا الشعبية حاضرٌ بما يناسب تربّعه في الموائد ولذا زعموا: "إللى بياكل الفول بيمشى عرض وطول". كما أنه طعام الإفطار المناسب "الفول فطور الأمير، وغدا الفقير، وعشا الحمير".

أطباق ومذاقات

تُؤكل قرون الفول الخضراء وحبوبه اليابسة مطبوخة بأشكالٍ ووصفاتٍ كثيرة، ذلك أن الفُول مكتمل بنفسه، وقد جعلت منه السنين الطوال صالحًا لأن يطبخ مُستقلاً بذاته، أو أن يكون تساليًا ومُقبلات، ولا يُمانع الفول أن يَحضُر مع مكونات أخرى في الأطباق لأنه عِشري يألف الاصناف ويُحب أن يندمج معها.

Getty

ومن حسنات طبخه أن مذاقه جميل ومقبول في الأطباق على تنوعها، سواءٌ كانت وجبات رسمية أو ملحقاتٌ ومُقبلات، وهو مرن الطعم ومقبول المذاق سواءٌ طُهي مع اللحوم أو بدونها.

اقرأ/ي أيضًا: في مُدونة "الشيف المُتنكر" القصة تزيّن الطبق

ومما يُمدح في الفول أيضًا أنه يؤكل حوسًا وهوسًا وشويًا وقليًا ومرطًا، ويمكن أن تلاقيه مع الحساء وفي أطباق الشوربة واللبن واليخنة، ويدخل في الأرُّز والبُرغل.

الفُول مكتمل بنفسه، ومذاقه مقبول في الأطباق على تنوعها - Getty

ولكثرة حضوره في المطبخ الشعبي، فإن المثل يحذرك من عدم الأكل عند رؤية أطباقه: "إللى بشوف الفول وما بيوكلش، راح يحب وما ينولش"، بل إن تناوله يُعيدك دائمًا للأصول، كما يقول المثل: "بيوكل فول وبيرجع للأصول".

ومهما كتبنا عن الفول وأطباقه وأوصافه وأمثاله، فإنّ الفول يؤكل ولا يُقرأ، وقديمًا قالوا في المثل لتجنّب كثرة الحديث عن الفول: "لا تقول فول إلا ليصير بالمكيول".

وإن كان لا بُد من نصيحة للقرّاء فهي: كلوا الفول قبل أن ينتهي موسمه، والمثل الشعبي الفلسطيني يقول: "إن خِلص الفُول أنا مُشْ مَسؤول".