21-يوليو-2019

لا أعتقد أن الخشية الحقيقية من مجلس القضاء الانتقالي تتمثل في سيطرة السلطة التنفيذية على القضاء، فسيطرة السلطة التنفيذية متكرسةٌ منذ سنواتٍ طويلةٍ، خاصة على الإدارة والمحكمة العليا، فالتنسيب لمنصب رئيس المحكمة العليا لم يكن يومًا تقليدًا قضائيًا، وعددٌ من رؤساء مجلس القضاء السابقين جاء من رحم السلطة التنفيذية مباشرة، ومن جاء من رحم القضاء مؤخرًا، كان باختيار السلطة التنفيذية وبشروطها ودعمها.

الخشية الحقيقية من مجلس القضاء الانتقالي ليست سيطرة السلطة التنفيذية على القضاء، فسيطرة السلطة التنفيذية متكرسةٌ منذ سنواتٍ طويلةٍ

أما بخصوص القرارات، فإن أكثر من 90% من القرارات التي أصدرتها محكمة العدل العليا كانت لصالح السلطة التنفيذية، إذ قدمت لها قراراتٍ أكثر مما كانت تطلب لدرجة الحرج، حتى أن مطلب تقاعد قضاة المحكمة العليا، كان مطلبًا للجنة تطوير القضاء التي تولى رئاستها رئيس مجلس القضاء السابق، واقترحت أن يكون التقاعد على عمر 65 سنة. وقانون محكمة الجنايات الكبرى الذي أُقِرَّ وعُدّلَ وأُلغِيَ هو صناعةٌ قضائيةٌ تنفيذيةٌ مشتركة، ونادي القضاة الذي كان يشكل أداة مهمة في الدفاع عن مصالح القضاء تعثر أيضًا بسبب الخلافات الداخلية بين القضاة، بل أن البعض منهم حمل السلطة التنفيذية مسؤولية تعثره، وبالتالي استحكام السلطة التنفيذية على القضاء ليس جديدًا، وفاق التوقعات.

اقرأ/ي أيضًا: إنهم يخشون إصلاح القضاء

الخيار الأمثل للإصلاح القضائي هو الإصلاح الداخلي، واستمعت إلى آراءٍ من قضاةٍ قادرةٌ على تحقيق الإصلاح الداخلي، لكنها كانت بحاجةٍ إلى آلية تنفيذٍ داخلية. طُرِحَت إحدى هذه الآراء في المؤتمر الشعبي لإصلاح القضاء، ولم يتم تبينها من أحدٍ من القضاء، ولم يكن  القضاء أو القضاة جاهزين لتنفيذها، بل إن صاحب هذه الرؤية كان قد أُقصِيَ من قبلُ عن اجتماعات مجلس القضاء الأعلى.

الحل الواقعي للإصلاح أصبح مقرونًا بدرجةٍ أكبر بالتدخل الخارجي، وهذا ليس محبذًا بل يخالف معايير استقلال القضاء، وإن كان لا بد منه، فإن التدخل الخارجي الأمثل هو مجلسٌ انتقاليٌ يأتي بقانونٍ يقره المجلس التشريعي، وهذا لم يتم، فالمجلس التشريعي حله الرئيس، والسلطة التنفيذية لا تريد انتخابات، بل أن بعض قوى المجتمع تعارض إجراء انتخابات في ظل الانقسام، وبالتالي كان الخيار الذي تم، والذي له ما له في ما يتعلق بأعضائه، وعليه ما عليه في ما يتعلق بآلية تشكيله المخالفة للقانون الأساسي، وأصبح لدينا مولودٌ جديدٌ يبدو أنه غير مشوه، لا يشكل من وجهة نظري نموذجًا دستوريًا بمواصفاته، لكنه أقرب إلى نموذج العدالة الانتقالية التي تمنح فرصة العمل لفترةٍ انتقاليةٍ تمهيدًا للانتقال السلس للعدالة الدستورية.

أعتقد أن إصدار حكمٍ على أداء المجلس الانتقالي الجديد، إن كان مجلسًا للعدالة الانتقالية أم لا، ليس بحاجةٍ إلى وقت طويل، فأول التحديات التي على المجلس الجديد التصدي لها هو انتداب قضاة لتشكيل هيئات محكمة العدل العليا ومحكمة النقض، فهي البوابة التي تُقفَلُ أو تُفتَحُ أمام تدخل السلطة التنفيذية، وهذا سيشكل مؤشرًا هامًا على وجهته. يضاف إلى ذلك مدى نزاهة إجراءات الترقية وشفافيتها، يلي ذلك التعينات، وإجراءات التوقيف وقضايا الحريات، واحترام قانون السلطة القضائية في تقييم عمل القضاة.

الأهم من ذلك، وكي ينطبق على الإجراء مفهوم العدالة الانتقالية، لابد من تعويض ضحايا التقاعد القسري ماديًا ومعنويًا، ولا يوجد ما يمنع بعد استقرار الحال البحث عن آليةٍ تُمكن إعادة القضاة الأكفاء إلى العمل ثانية.

على المجلس الانتقالي الاستماع جيدًا إلى التوصيات التي صدرت عن بعض منظمات المجتمع المدني واللجنة المجتمعية التي شكلها المؤتمر الشعبي لإصلاح القضاء وحمايته

على المجلس الاستماع جيدًا إلى التوصيات التي صدرت عن بعض منظمات المجتمع المدني واللجنة المجتمعية التي شكلها المؤتمر الشعبي لإصلاح القضاء وحمايته، وأهمها ضمان عدم تدخل السلطة التنفيذية وأجهزة الأمن في عمل القضاء، وأن يحافظ المجلس على استقلاليته في أدائه لمهامه وممارسة صلاحياته، بعيدًا عن أي ضغوطٍ أو تأثيراتٍ مهما كان مصدرها وغايتها. 

اقرأ/ي أيضًا: جرّاح القضاء

مطلوبٌ أيضًا من المجلس الانتقالي أن تكون عملية التقييم القضائي المرتقبة للقضاة وأعضاء النيابة العامة، مبنية على معايير واضحة ومعلنة وشفافة وعادلة أساسها الكفاءة والمهنية والنزاهة والاستقلالية، وأن يضع خطة واضحة المعالم لتوحيد القضاء ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وإجراء التعينات والترقيات الجديدة في الوظائف القضائية على أساس الشفافية والنزاهة وحق المواطنين في تقلد المناصب والوظائف العامة، على قاعدة تكافؤ الفرص دون أي حسابات سياسية.

إن اختيار أسلوب الحل الجراحي للقضاء بطريقة العدالة الانتقالية والمتمثلة بتشكيل مجلس انتقالي، يتطلب رقابة مجمتعية شديدة على التدابير التي سيتخذها المجلس الجديد، وليس بناءً على رأي شخصي مسبق، ويتطلب انفتاحًا أكبر من المجلس الانتقالي على مؤسسات المجتمع ووسائل الاعلام، وعليه أن يكون جاهزًا لرقابةٍ مجتمعيةٍ مشددة على أدائه وقراراته، فالرقابة المجتمعية هي الوسيلة الأفضل لرقابة تدابير العدالة الانتقالية، ويجب أن يكون تقييم الأداء على الأفعال لا على الأقوال.

أجزم أننا بحاجة فقط إلى أيام لا إلى شهورٍ ولا سنةٍ كاملة، كي نشتم رائحة المجلس الجديد

أجزم أننا بحاجة فقط إلى أيام لا إلى شهورٍ ولا سنةٍ كاملة، كي نشتم رائحة المجلس الجديد إن كان مجلسًا للعدالة الانتقالية، أو مجلسًا للهيمنة الديكتاتورية، والفرق بينهما.

أعتقد أن الرقابة المجتمعية المشددة على أداء المجلس الجديد يجب أن تترافق مع منح هذا المجلس فرص النجاح، وفي مقدمة ذلك منحه الاعتمادات اللازمة لإشغال الوظائف التي خلفتها العملية الجراحية بتقاعد 50 قاضيًا على الأقل، إشغالاً بعيدًا عن الحسبة السياسية.

نجاح تجربة العدالة الانتقالية في ملف القضاء، قد تتيح نجاحه في ملفاتٍ أخرى تتطلب المعالجة والإصلاح، كملف المصالحة، وملف المجلس التشريعي، وملف محاربة الفساد، فإما أن ننجو من الغرق، وإما لا مصير لنا سوى الطامة الكبرى، وعندها لا فرصة أمامنا على المدى المنظور للإصلاح إطلاقًا، لذا فالمهمة المطروحة على المجلس الانتقالي شديدة، وأشد بكثير من تلك التي كانت مطروحة عليه حين تولى المنصب ذاته قبل ثماني سنوات، والتاريخ سيمجد من ينجح في المهام العصيبة، لكنه لن يُرحَم عند الفشل، فاصنعوا من المعادلة فرصة للنجاح.


اقرأ/ي أيضًا: 

همسة في أذن الرئيس لجلسة استماع حول القضاء

هل سيُقايض القضاة استقلال القضاء بمنافع مالية؟

سقوطٌ مدوٍ للتعليم القانوني في تعيين قضاة