23-مارس-2020

صورة أرشيفية: كارنتينا الخليل

تُسارع الحكومة الفلسطينية كنظيراتها في دول العالم لفرض إجراءات صارمة لمنع انتشار وباء كورونا كوفيد-19، مُلزمة الناس بالبقاء في منازلهم وعدم التنقل إلا للضرورة القصوى، كأحد أشكال الحجر الصحي التي عرفتها فلسطين منذ مئات السنين لمواجهة الأوبئة كالطاعون والسّل والكوليرا والجدري والحصبة والملاريا والجذام، والأوبئة المُعدية عمومًا التي فتكت في البلاد وأهلكت العباد خلال القرون الماضية، والتي تشير الدراسات التاريخية أنها غيرت الخارطة السكانية في فلسطين وبلاد الشام أكثر من مرة.1

لا تزال بعض المدن الفلسطينية تحتفظ بالأماكن التي أسست قديمًا لغرض الحجر الصحي، وقد أطلق عليها السكان اسم الكرنتينا

ولا تزال بعض المدن الفلسطينية تحتفظ بالأماكن التي أسست قديمًا لغرض الحجر الصحي، وقد أطلق عليها السكان اسم الكرنتينا. 

معنى كلمة الكرنتينا

كرنتينا، جمعها كرنتينات “Karantina” وهي مكان الحجر الصحي، ومنها قولنا: كرتن، يُكرتن، وقد دخلت بلادنا من العثمانية: قرانتينه "qarantina"، ويعود أصلها إلى اللغة الإيطالية: “quarantena”، وترجمتها حرفيًا إلى العربية تعني "أربعين يومًا".2 وبعضهم يُسميها “تحفظخانه” كما في النقش العثماني على مدخل كرنتيا الخليل. 

نقش عند مدخل كرنتينا الخليل

تشير المراجع إلى أن الكلمة الإيطالية “كرنتينا” صارت تدل على الحجر الصحي بعد وباء الطاعون الشهير عام 749هـ/1348، حيث كان على سفن البندقية الانتظار أربعين يومًا ليُسمح لها بالرسو في ميناء "دوبروفنك" خلال انتشار الوباء، للتأكد من سلامتها وخلوها من الأمراض.  

الكلمة الإيطالية “كرنتينا” صارت تدل على الحجر الصحي بعد وباء الطاعون الشهير عام 749هـ/1348

والكرنيتا تعني الحجر الصحي أو المكان الذي يُعزل فيه الأشخاص، أو الحيوانات، خوفًا من خطر العدوى، وتتوقف مدة الحجر الصحي على الوقت الضروري لتوفير الحماية في مواجهة خطر انتشار أمراض بعينها. وهي وسيلة ناجعة في الحد من إنتشار الأمراض المُعدية، على قاعدة: "درهم وقاية خير من قنطار علاج".

اقرأ/ي أيضًا: "انجل - كورونا".. شهادات من داخل أشهر فندق في فلسطين

وهناك من يعتقد بأن كلمة قُرنطل في اسم الدير الشهير في مدينة أريحا “دير قرنطل" الذي سُمي بذلك من قبل الصليبيين إنما جاء تحرفيًا من كلمة "كورنتينا"، بحكم الاعتقاد أن صوم سيدنا عيسى واعتزاله لأربعين يومًا في هذا المكان.3 

بناء الكرنتينا في فلسطين

والحجر الصحي ظاهرة قديمة عرفتها فلسطين والعالم العربي بوقت مُبكر، حيث كان المرضى يُعزلون في أبنية ومغاور وآبار مُخصصة لذلك بعيدًا عن قراهم وبلداتهم، ولعل أشهر ما في تاريخنا عن الحجر الصحي حكاية الرجال العشرة البُرص في مغارة برقين بالقرب من مدينة جنين، الذين شفاهم النبي عيسى في ما اعتُبر إحدى معجزاته.

وفي الحديث النبوي ورد التنبيه حول تجنب نشر العدوى: "إذا وقع الطاعون بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا منها، وإذا كان بأرض ولستم بها فلا تقربوها"4، وهو ما كان معمولًا به في البلاد العربية طوال قرون. حيث أنشئت المستشفيات "البيمارستانات" في مدن الشام جميعها، لمداواة ورعاية المرضى، وأُلحِقَت بها غرفٌ للحجر الصحي.5 

وكانت الإجراءات المعمول بها في عموم بلاد الشام تفرض عزل أية قرية أو منطقة ينتشر بها الطاعون أو الأوبئة، ومثال ذلك ما نُطالعه في يومية  14 كانون أول/يناير  سنة 1814: “مع دخول هذه السنة في محرم ظهر الطاعون في أحد القرى فأمر الأمير (بشير الشهابي) في قيام مناظرين أن لا يخرج أهلها ولا يدخل أحد إلى عندهم، فسلمت تلك الجيرة في هذا التدبير”.

كانت الإجراءات المعمول بها في عموم بلاد الشام تفرض عزل أية قرية أو منطقة ينتشر بها الطاعون أو الأوبئة

الكرنتينا كلمة شائعة في فلسطين، ونجدها حاضرة في الوثائق والمراجع التاريخية التي تناولت تاريخ فلسطين بعد الحملة المصرية على بلاد الشام 1831-1840، ولعل مَرَدُّ ذلك لاهتمام إبراهيم باشا بإقامة المحاجر الصحية في البلاد لتجنب نقل الأوبئة المُعدية لجنوده من قبل السياح الأجانب الذين فُتحت لهم دُروب البلاد وَسُهلت لهم سبل الوصل لبيت المقدس.

اقرأ/ي أيضًا: تأملات في زمن الطوارئ

وبحسب المؤرخين، فإن الهدف من بناء الكرنتينات كان الحيلولة دون انتشار الأوبئة والأمراض المُعدية وخصوصًا الطاعون، بعد أن صارت البلاد عامرة بمواكب الحج المسيحي الآتية من أوروبا، فكان لا بُد من الانتباه لخطر الأوبئة التي كان شبحها يُلاحق الناس، ولذلك أقيمت الكرنتينات في المدن الرئيسة وخاصة الساحلية التي ترسو بها سفن حجاج النصارى، وصار لهذه المحاجر الصحية موظفون يُشرفون عليها ويأمرون بحبس القادمين إليها لعدة أيام، لحين التأكد من سلامتهم وخلوهم من الأمراض.

تشير الوثائق بأن الكرنتينا الأولي الرئيسية في سوريا قد أنشئت سنة 1834 في بيروت، وكان على السفن والركاب القادمين إلى فلسطين وعموم بلاد الشام البقاء بين 10-12 يومًا فيها. وقد طلب إبراهيم باشا من القناصل الأوروبيين، وخصوصًا القنصل الفرنسي هنري غي، إقامته من أجل حماية جيشه من الأمراض، كالطاعون الذي انتشر عدة مرات في المناطق المجاورة. 7 

وبإنشاء الكرنتينا في بيروت تأثرت الحركة في يافا، جراء قلة الحجاج، بالإضافة إلى أن النزول في بيروت سيجبر الحجاج الأوروبيين على عبور طريق أطول نحو القدس، الأمر الذي دفع ممثلين عن طائفتي الأرمن والأرثوذوكس في القدس للتوجه إلى إبراهيم باشا سنة 1835، طالبين منه بناء الكرنتيا في يافا، غير أنه رفض ذلك وأبدى موافقته أن تكون في حيفا. ثم وافق بعد ذلك بفترة على إقامتها في يافا، فأقيمت غرب المدينة وأنهي العمل بها سنة 1836.

وبعد ذلك توالت أبنية الكرنتينا في المدن الفلسطينية الساحلية والداخلية، حيث تشير السجلات إلى إقامة حجر صحي في القدس بجوار كهف الأدهمية خارج باب العامود، ثم في عام 1849 أقيمت كرنتينا جديدة خارج السور قرب قلعة باب الخليل.

كارنتينا في القدس بجوار كهف الأدهمية خارج باب العامود، وكارنتينا آخر قرب قلعة باب الخليل

وأنشأ محمد علي باشا كرنتينا في بلدة "الشيخ زويد" في شمالي سيناء لحجر القادمين إلى مصر من بلاد الشام. كما أنشأ العثمانيون كرنتيناتٍ في مدن فلسطينة وعربية منها الكرنتينا في مدينة غزة، والكرنتينا في مدينة الخليل عام 1848. وفي مدينة نابلس لا يزال الأهالي يُسمون الدرج الواقع بجانب المستشفى الوطني باسم “درج الكرنتينا”.9 

اقرأ/ي أيضًا: يوميات في الحجر الصحي.. عائلة فلسطينية في بكين

أما في يافا، وكونها مدينة ساحلية، فتشير المراجع التاريخة لوجود أكثر من كرنتينا فيها: الكرنتينا التحتانية جنوب يافا، الكرنتينا الجديدة “الفوقانية” داخل السور، كرنتينا دير الروم، كرنتينا دير الأرمن، كرنتنيا الهدار.10

ويشير مؤلف كتاب "مذكرات تاريخية عن حملة إبراهيم باشا" أنه “في سنة 1840 صار طاعون بالشام فأقيمت كورنتيا لمواجهة ذلك وجعلت من مبنيين أحدهما للمصابين والآخر للمحجوز عليهم لحين التأكد من خلوهم من المرض”.11

ومما نلاحظه وجود مباني في الأغوار على الضفة الغربية من نهر الأردن تحمل اسم الكرنتينا، غير أنني لم أجد خبرًا عن تاريخ إنشائها وإقامتها، ومنها: مبنى الكرنتينا القائم جنوب فصايل الذي حَوَّله جيش الاحتلال لمكان لحجز الأغنام والمواشي في الأغوار، والكرنتينا شرق الجفتلك التي غالبًا استخدمت حجرًا صحيًا للقادمين عبر جسر دامية لفلسطين.

مباني في الأغوار على الضفة الغربية من نهر الأردن تحمل اسم الكرنتينا، غير أنني لم أجد خبرًا عن تاريخ إنشائها وإقامتها

وكانت الدولة العثمانية قد شددت على إجراءات المحاجر الصحية في سواحل بلاد الشام والحجاز بعد العام 1895 خشية تفشي الأوبئة. وقد ذكر أمين يوجه الذي عمل في البحرية العثمانية في مذكراته أنه في العام 1905 تم الحجر على باخرة "الصُّرة السلطانية" 12 بمن عليها: "لقد وصلت اليوم إلى بيروت باخرة "قونية" التي تحمل الصّرة السلطانية، ولقد أُخبرت بأن الصحة العامة في الباخرة خلال الأيام الخمسة التي قضاها الحجاج فيها في منتهى الكمال، وقد قدم الأطباء الثلاثة الموجودين في الباخرة تقريرًا بهذا الشأن.. ورغم هذا فإن إدارة الصحة الموجودة في بيروت تُريد إبقاء هيئة الصُرة كُلها في الحجر الصحي لمدة سبعة أيام نظرًا لوجود مائة وأربعين راكبًا في الباخرة..." 13 

الكرنتينا كما وصفها الرحالة

بين يدينا وصفٌ دقيقٌ لعمل الكرنتينا وخصوصًا تلك التي كانت على شواطئ المدن الساحلية في فلسطين، فقد وُصفت من قبل عشرات الرحالة العرب والأجانب الذين نزلوا فلسطين من خلال الموانئ، ومن بين من وصفها نُطالع مذكرات البريطانية ماري إليزاروجرز “الحياة في بيوت فلسطين 1855-1859”، ومذكرات الرحالة الياباني توكوتومي كينجيرو “الرحلة اليابانية إلى فلسطين ومصر 1906”.

بين يدينا وصفٌ دقيقٌ لعمل الكرنتينا وخصوصًا تلك التي كانت على شواطئ المدن الساحلية في فلسطين

تصف ماري إليزاروجرز بتفاصيل كثيرة الحالة الصحية في فلسطين، وتتناول الأوبئة والحجر الصحي في صفحات متفرقة من مذكراتها. ومن ذلك ما وصفت به وصولها لميناء يافا ودخولها الكرنتيا: "... تم اقتيادنا عبر الدرجات الحجرية إلى باب يؤدي إلى ساحة داخلية مربعة تتكون أضلاعها من جدارن مبان حجرية ذات أسقف مُستوية وواطئة تمتاز بحالتها المُزرية ... وكان مركز الحجر الصحي مكتمل العدد على غير العادة بسبب انتشار الكوليرا في مصر...". 14  

اقرأ/ي أيضًا: كيف تدخل في العزل الذاتي لمواجهة فايروس كورونا

وبحسب إليزاروجرز، فقد كان يرافقهم عسكري حاملاً عصاه الطويلة ليتأكد من إلتزامهم بالحجر الصحي، مانعًا أي زائر من ملامستهم أو الاقتراب منهم: "وبعد وقت قصير جاء السيد جراهام صديقنا العزيز من القدس لزيارتنا، حيث وقف خارج نافذتنا بوجود الحارس الذي وقف هناك لمراقبتنا، فلو حدث أن لامست أيدينا أيدي الضيف الزائر، فسوف يتعين عليه الانضمام إلينا في الحجر الصحي المفروض علينا..." 15 

أما كينجيرو فوصف وصوله لميناء حيفا والحجر الصحي: "...نستعد الآن للنزول من السفينة، شيء لم يكن في الحسبان ولم نتوقعه، لا بُد أن نوضع في الكرنتينه “الحجر الصحي” مدة أربع وعشرين ساعة... في موقع الكرنتينه تم تجميع ممتلكاتنا وتبخيرها بالبودرة لتنظفيها والقضاء على أي جراثيم تكون قد علقت بها، ومن ثم وجب على الجميع أن يكونوا عرايا، حتى يتم رشهم بالودرة مثلهم مثل أمتعتهم..." 16  

ويصف أيضًا طريقة شرائه للطعام من البائع في ميناء حيفا: "وبالصدفة وجدت ما يُشبه الكشك الصغير يبيع الطعام، وكنت في عجلة من أمري فأسرعت ناحيته، إلا أن صاحب الكشك كان يصيح في وجهي من بعيد قائلاً: لا تقترب! لا تقترب!. تعجبت كثيرًا إلا أنني أدركت أن هناك بلاطة من الرخام عند الكشك عليّ أن أضع عليها النقود، مقابل الطعام الذي لم يُسلمني إياه، بل وضعه على البلاطة وكان عليّ أن أحمله بعد ذلك، ربما كان يخاف أن أنقل إليه عدوى مرض أو وباء، ولذا كانت البلاطة الرخامية هي الوسيط بين البائع والمشتري حتى لا يحدث تلامس بينهما. وحملت الطعام وعدت أدراجي مرة أخرى حيث تم حجزنا داخل الكرنتينه!". 17   

 ____________________________

1- الأوبئة: حين يبدأ المرض بالانتشار خارج حدودة الزمانية والمكانية فانه يتحول إلى وباء  “epidemic”وتُعرفه منظمة الصحة العالمية بأنه: "تفشي المرض بأسلوب غير متوقع ويستدعي الاستنفار".

 2- انظر المعجم التأثيلي للالفاظ الاعجمية في اللهجة الفلسطينية معين هلون، اصدار جامعة بيت لحم 2019، الصفحات 714-715.

3 -  موسوعة بلادنا فلسطين / مصطفى مراد الدباغ - دار الهدى 2006، جزء 8. صفحة: 548

4 -  أخرجه أحمد والطحاوي والبغوي، رحمهم الله، واسناده صحيح “المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية 8/141”.

5 - انظر: الكوارث الطبيعية في بلاد الشام ومصر  491-923هـ = 1097-1517م، محمد حمزة صلاح- رسالة ماجستير 2009- الجامعة الاسلامية غزة.

6- لبنان في عهد الامراء الشهابيون، مجموعة الدكتور أسد رستم - منشورات المكتبة البولسية 1984، القسم الثالث صفحة:604.

 7 -   انظر الحكم المصري في فلسطين، خالد محمد صافي- مؤسسة الدراسات الفلسطينية 2010،  ص2019،// الاصول العربية لتاريخ سورية في عهد محمد علي باشا، الدكتور أسد رستم- منشورات المكتبة البولسية 1988، المجلد الخامس، صفحة: 108 .

8-  الحكم المصري في فلسطين، مصدر سابق صفحة: 219// تاريخ الكوارث في بيت المقدس، بشير عبد الغني بركات، دار المقتبس 2016، الصفحات: 24-27.

9- قضاء الخليل 1864-1918، أمين سعود ابو بكر-عمان 1994، الصفحات:100 + 357 + بحث: الرقمان التركيان العثمانيان للكرنتيه بالخليل ، تأليف أ.د يزنس عمر // تاريخ الكوراث في بيت المقدس مصدر سابق .

10-  موسوعة يافا الجميلة، علي حسين البواب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2003،الجزءالثاني  الصفحات: 1026- 1028

11- مذكرات تاريخية عن حملة ابراهيم باشا على سوريا - لمؤلف مجهول، دار كتبية. الصفحة: 122

12- الصرة السلطانية: الكيس أو الخرقة الذي توضع به النقود والمجوهرات، وهي هنا كسوة كانت تُقدم من السلاطين العثمانيين للكعبة مع أعطيات وهدايا وعطور ومساعدات مالية للحرمين الشريفين.

13- المحمل الشريف ورحلته الى الحرمين الشريفين، يوسف جاغلار وصالح كولن- دار النيل 2015، الصفحة: 109

14/15 - الحياة في بيوت فلسطين: رحلات ماري إليزاروجرز في فلسطين وداخليتها “1855-1859”، الصفحات: 22 -24

16/ 17 - الرحلة اليابانية إلى فلسطين ومصر “1906” توكوتومي كينجيرو “لوقا”، المركز القومي للترجمة 2013،  الصفحات:  42- 43