قول

اللغة سلاحًا استراتيجيًا: كيف يُعاد بناء أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر؟

2 أكتوبر 2025
الاستخبارات الإسرائيلية
أنس أبو عرقوب
أنس أبو عرقوبصحفي مختص بالشأن الإسرائيلي

في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، شهدت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية زلزالًا استخباراتيًا عميقًا كشف حدود الاعتماد المفرط على التكنولوجيا في مواجهة التهديدات. كان الفشل مدويًا بما يكفي لإعادة صياغة العقيدة الأمنية من جديد: لا تكنولوجيا دون إنسان، ولا أمن دون لغة.

 في المحصلة، تكشف هذه التحولات العميقة في عقيدة "أمان" و"الشاباك" أن اللغة لم تعد مجرد وسيلة لفهم الآخر، بل أصبحت جبهة قائمة بحد ذاتها في الحرب الحديثة.

سلّط تقرير نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت"، مؤخرًا، الضوء على تحول استراتيجي جارٍ داخل هيئة الاستخبارات العسكرية "أمان"، حيث تُعاد هيكلة وحدات "السِّغينت" لتوسيع مسارات تعليم اللهجات واللغات الشرقية، من الفارسية إلى اللهجة اليمنية، مرورًا باللهجات الفلسطينية والبدوية، في محاولة لسدّ فجوة حيوية كشفتها الحرب: غياب التفسير البشري للمعلومة.

المقدم (خ)، رئيس قسم الاستخبارات الإشارية في "أمان"، لخّص هذا التحول بقوله: "لا بديل للإنسان، ولا للأذن، ولمن يعرف كيف يفسّر التعبيرات والسياقات"، مشيرًا إلى أن التحدي اليوم لم يعد فقط في جمع المعلومات، بل في قراءتها ضمن السياق الاجتماعي والثقافي والسياسي الصحيح.

في المسار الموازي، تتحرك وحدة 8200، الذراع الإلكترونية الأهم في الجيش الإسرائيلي، بخطة أوسع نطاقًا. فمنذ عام 2019، وبدعم من وزارة المعارف، بدأت هذه الوحدة تنفيذ خطة لتدريس اللغة العربية والثقافة الإسلامية في المدارس الإعدادية والثانوية، بهدف تهيئة طلاب مدنيين مسبقًا ليكونوا عناصر لغوية استخباراتية جاهزة عند التحاقهم بالخدمة.

ما يميز هذا المسار أنه لا يكتفي بالتأهيل اللغوي فحسب، بل يربط بين تعلم اللغة ومستقبل مهني مربح، حيث تشير التقارير إلى أن آلاف الطلاب يتوجهون سنويًا لهذا المسار، مدفوعين باعتقاد سائد بأن الانخراط في وحدة 8200 يفتح أبواب الاندماج في قطاع التكنولوجيا المتقدمة بعد الخدمة. وبالتالي، تشكّل اللغة هنا أداة مزدوجة: استخباراتية واقتصادية.

في المقابل، يعتمد جهاز "الشاباك" نهجًا أكثر عمقًا وتجذرًا، قائمًا على اختراق المجتمع الفلسطيني عبر أدوات لغوية وثقافية شديدة التخصص. فمنذ تأسيس "معهد اللغة العربية" بعد نكسة 1967، يتم تدريب الضباط على لهجات فلسطينية محلية، دراسة الدين الإسلامي، تلاوة آيات قرآنية، وفهم دقيق للسلوك الاجتماعي داخل المدن والقرى والمخيمات.

ويصف كبار المسؤولين في "الشاباك"، مثل يعقوب بيري وعوفر ديكل، هذا التدريب بأنه رأس الحربة في عمليات التجنيد والتحقيق، وهو ما جعل هؤلاء الضباط قادرين على خلق قنوات تواصل مباشرة مع المصادر، بل واختراق مستويات متقدمة من الثقة داخل المجتمع الفلسطيني، بما يشمل حتى معرفة أسماء العائلات والحمائل وأسماء الشوارع في المناطق المستهدفة.

فلسفتان أمنيتان بلغتين مختلفتين؛ هو الاستنتاج الناجم عند مقارنة جهاز "أمان" بجهاز "الشاباك"، والتي تظهر فروقات استراتيجية بنيوية في فهم كل منهما لوظيفة اللغة ودورها الاستخباراتي. ففي "أمان"، يتركز التكوين حول تدريب لغوي تقني-ميداني، يهدف إلى إعداد المجندين الجدد للعمل في ساحات متنوعة كغزة واليمن وإيران، مع تدريب مكثف يستمر لنحو 25 أسبوعًا قبل الخدمة العسكرية. أما في "الشاباك"، فإن اللغة تُدرّس ضمن بنية استخباراتية أعمق وأكثر تعقيدًا، تمتد على عشرة أشهر متكاملة، وتشمل العربية الأدبية والأساسية والمتقدمة، مع التركيز على معرفة دينية وثقافية دقيقة، وتوجيه الضباط نحو مهام اختراق مباشر للمجتمع الفلسطيني.

ويُضاف إلى ذلك أن "أمان" يستهدف بالأساس مجندين بلا خلفية لغوية سابقة، فيما يركّز "الشاباك" على ضباط يتم إعدادهم لقيادة ملفات ميدانية حساسة. كما تختلف المرجعية الثقافية في كلا الجهازين: فـ"أمان" يعتمد على مدخل عام للشرق الأوسط ولغاته، بينما ينغمس "الشاباك" في الفهم التفصيلي للدين الإسلامي والعادات المحلية، بهدف إتقان سلوك المحادثة وتحديد الانتماءات الجغرافية والاجتماعية للمستهدفين بدقة.

أما من حيث التوجه الاستراتيجي، فإن "أمان" يسعى إلى التوسع الأفقي في ساحات مختلفة حسب التهديدات، بينما يركّز "الشاباك" على التعمق الرأسي داخل ساحة واحدة هي المجتمع الفلسطيني، ما يجعله أكثر تخصصًا في اختراق البيئات المغلقة، ولكن أقل مرونة في التعامل مع سياقات متعددة.

وتطبيقًا لاستنتاجات الاستراتيجية وتحولات ما بعد الصدمة وانكشاف محدودية التكنولوجيا، أظهرت معركة السابع من أكتوبر أن أقمار التجسس، وبرمجيات التنصت، والتحليل الآلي تفقد فعاليتها إذا لم تكن مصحوبة بعقل بشري قادر على الفهم والتحليل، لا سيما في بيئات معقدة تتطلب إدراكًا عميقًا للسياق المحلي.

اللغة كمجال سيطرة ناعم: التحول من مجرد ترجمة البيانات إلى فهم أنماط التفكير والسلوك لدى الآخر، يعكس قناعة إسرائيلية بأن التفوق الاستخباراتي يبدأ من السيطرة على اللسان واللهجة والتعبير، لا من السيطرة على الصورة أو الصوت فقط.

تعليم اللغة بوصفه مشروعًا أمنيًا اجتماعيًا: الاستثمار الإسرائيلي في تعليم العربية والفارسية في المدارس ليس مشروعًا ثقافيًا فحسب، بل هو إعادة إنتاج للأمن عبر المدرسة، والمجند عبر الكتاب المدرسي.

الهندسة العكسية للمجتمع الفلسطيني: ما يقوم به "الشاباك" لا يقتصر على تتبع الأفراد، بل يهدف إلى إعادة صياغة فهمه الكامل للبيئة الفلسطينية، عبر معرفة الموروثات، والدين، والتعبير، واللهجة، والعلاقات الاجتماعية.

التحدي القادم: امتلاك الخطاب وليس فقط فهمه. ففي بيئة مشبعة بالصراع الرمزي، يصبح التفوق مرتبطًا بالقدرة على إنتاج لغة مضادة، أو على الأقل إرباك الخصم بلغته الخاصة.

والخلاصة أن اللغة باتت ميدانًا استخباراتيًا مفتوحًا. في المحصلة، تكشف هذه التحولات العميقة في عقيدة "أمان" و"الشاباك" أن اللغة لم تعد مجرد وسيلة لفهم الآخر، بل أصبحت جبهة قائمة بحد ذاتها في الحرب الحديثة. إنها ساحة اشتباك معرفي تُخاض فيها المعارك بالأمثال، واللهجات، والنبرة، والسياق. في هذا الواقع، لا بد لمن يواجه هذه المنظومة أن يعي أن الدفاع عن اللغة لم يعد مهمة ثقافية فقط، بل مهمة أمن وطني بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

الكلمات المفتاحية

النص الكامل لكلمة د. عزمي بشارة في افتتاحية مؤتمر "فلسطين وأوروبا" في باريس

النص الكامل لكلمة د. عزمي بشارة في افتتاحية مؤتمر "فلسطين وأوروبا" في باريس

بلغت فظائع الحرب الإسرائيلية على غزة حد إحراج حلفاء إسرائيل. لذلك، فإن وقف الحرب أوقف الحرج


قوة الإنفاذ الدولية... هل تعني عودة الاحتلال لغزة؟

قوة الإنفاذ الدولية... هل تعني عودة الاحتلال لغزة؟

التحوّل من "الحفظ" إلى "الإنفاذ" يُثير مخاوف فلسطينية مشروعة من أن تتحول هذه القوة إلى ذراعٍ أمنية دولية تعمل بما يخدم المصالح الأميركية والإسرائيلية


إسرائيل تشرع بتسوية الأراضي في مناطق "ج" وتسجيلها كملكيات خاصة للمستوطنين.. أي سياق؟

إسرائيل تشرع بتسوية الأراضي في مناطق "ج" وتسجيلها كملكيات خاصة للمستوطنين.. أي سياق؟

في أيار/مايو 2025، قررت الحكومة الإسرائيلية "إبطال" عمليات التسوية التي أجرتها السلطة الفلسطينية في المنطقة "ج"، والبدء بتنفيذ مشروع تسوية شامل لتسهيل التوسع الاستيطاني


التحول في الموقف الأميركي من إسرائيل: بين تغير الأجيال وتبدل الوعي السياسي

التحول في الموقف الأميركي من إسرائيل: بين تغير الأجيال وتبدل الوعي السياسي

بينما لا يزال الجيل الأكبر سنًا في هذه الجماعات يعبر عن دعم قوي لإسرائيل، يظهر بين الشباب ما يشبه حالة الفتور أو الانفصال العاطفي عن العلاقة التقليدية

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب
تقارير

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب

لم يكن المشهد الذي رافق استئناف العملية التعليمية في غزة يشبه أي عودة مدرسية شهدها القطاع من قبل

قيادي في حماس لـ "الترا فلسطين": تواصلنا مع روسيا والصين والجزائر لإحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن
مقابلات

قيادي في حماس لـ "الترا فلسطين": تواصلنا مع روسيا والصين والجزائر لإحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن

قال القيادي في حماس وليد كيلاني، لـ"الترا فلسطين"، إن الحركة أجرت اتصالات عديدة في الأيام الماضية، خاصة مع روسيا والصين والجزائر، للضغط بهدف إحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن


مركز غزة: مليوني فلسطيني بالقطاع يعيشون كارثة إنسانية تتفاقم يوميًا مع اقتراب الشتاء
أخبار

الإعلام الحكومي: 288 ألف أسرة بغزة لا تملك أبسط مقومات الحياة

قطاع غزة يحتاج 300,000 خيمة وبيت متنقل لتأمين الحد الأساسي للسكن الإنساني.

عن رواتب الأسرى.. بيان للرئاسة الفلسطينية يكرر التأكيد على دور "مؤسسة تمكين"
أخبار

عن رواتب الأسرى.. بيان للرئاسة الفلسطينية يكرر التأكيد على دور "مؤسسة تمكين"

في 10 شباط/فبراير، قرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس نقل صلاحية صرف رواتب أسر الشهداء والأسرى إلى مؤسسة "تمكين"، تحت عنوان "إصلاح النظام المالي" واستعادة المساعدات الدولية المعلّقة

الأكثر قراءة

1
تقارير

اغتصاب وتعذيب جنسي.. محرّرو غزة يروون لـ"الترا فلسطين" فظائع السجون


2
تقارير

الجبهة الديمقراطية لـ"الترا فلسطين": مصر عرضت على الفصائل خطّة من 5 بنود وهذه تفاصيلها


3
تقارير

داخل صندوق أسود: هكذا تُدار الدبلوماسية الفلسطينية


4
تقارير

خاص | الترا فلسطين يحصل على نصّ وثيقة الخطوات التنفيذية لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة


5
راصد

توني بلير.. سيرة إداري للإيجار