03-أكتوبر-2022
اللغة في مخيلتنا

الذاكرة لها حكمها على المصطلحات، فتعرفها بحسب التجربة مع حدث أو قصة لم تمحَ تفاصيلها. وفي حياتنا نحن الفلسطينيين نقول كلمة ما أو موقفًا فتعود بنا الذاكرة إلى تجربة الانتفاضة الثانية وما قبلها وحتى بعد ذلك.

ما زلت أسمع إلى غاية الآن عبارة يقولها بعض الفلاحين في طولكرم: "أمك خطرت على المدينة". لا أعرف لماذا تستخدم هذه العبارة في الوقت الحالي مع أنني كبرت وانتهت جزئيًا بعض المخاطر التي كانت توضع أمام المواطنين للنزول إلى المدينة وقضاء حوائجهم.

لا أستطيع إلا أن أخاف من قيامي بإشعال ضوء بالبيت وإطفائه مباشرة، بسبب تحذير أهالينا أيام الانتفاضة بعدم القيام بهذا الفعل خوفًا من اقتحام جنود الاحتلال للمنزل

هذه الكلمة (خطرت) كلّما أسمعها لا أستطيع إلا أن أتذكر أحداث الانتفاضة الثانية والمخاطر المصاحبة لعملية النزول إلى السوق مثلاً. ولا أستطيع إلا أن أخاف من قيامي بإشعال ضوء بالبيت وإطفائه مباشرة، بسبب تحذير أهالينا أيام الانتفاضة بعدم القيام بهذا الفعل خوفًا من اقتحام جنود الاحتلال للمنزل.

المصطلحات المحكية هنا والكلمات، لها تعريفٌ مختلفٌ عن أصلها بسبب ارتباطها بالاحتلال الإسرائيلي. وفي أحاديث منفصلة مع شبان وشابات عايشوا الانتفاضة الثانية، جمعت بعض هذه المصطلحات وتعريفها وفق التجربة الشخصية في ظل الاحتلال.

عندما يقول شخص كلمة "لمّة" قد يخطر في البال لمة الأصحاب أو الأهل، وقد تعني أيضًا اقتحام قوات الاحتلال لمخيم العين في مدينة نابلس في الانتفاضة الثانية وقيامها بجمع الرجال في ساحة بجانب مدرسة في المخيم، بحسب ما تعرفها هبة خضيري من المخيم، والتي تربط أيضًا تاريخ استشهاد الشاب داوود قاطوني من مخيم العين بامتحانها الجغرافيا في الثانوية العامة عام 2006.

تقول هبة خضيري: "عندما يقول لي أحدٌ عندي امتحان جغرافيا أتذكر الشهيد داوود قاطوني، الذي كان مطاردًا من الجيش وكان يطلق النار عليهم من زقاق بيتنا بالمخيم. كنّا نعرفه، وعندما أطلق الجنود النار عليه (بتاريخ 21 حزيران/يونيو 2006) كنت أدرس مادة الجغرافيا، وقد رأيت شابين من المخيم يحاولان سحبه، كنت حينها أطل عليه من شباك بيتنا وأدرس الجغرافيا وبعدها أعلنوا عن استشهاده".

عندما يقول لي أحدٌ عندي امتحان جغرافيا أتذكر الشهيد داوود قاطوني، الذي كان مطاردًا من الجيش وكان يطلق النار عليهم من زقة بيتنا بالمخيم. كنا نعرفه، وعندما أطلق الجنود النار عليه كنت أدرس مادة الجغرافيا، وقد رأيت شابين من المخيم يحاولان سحبه

فخر عاهد (36 عامًا) من قرية رنتيس شمال غرب رام الله، عاصر أواخر الانتفاضة الأولى وبعدها الانتفاضة الثانية، يقول: "عندما يناديني أحد -أبو الفخور- أتذكر الشهيد إيهاب أبو سليم، الذي استشهد في التاسع من أيلول/سبتمبر 2003، بعد أن نفذ عملية في الداخل المحتل، لأنه هو الوحيد الذي  كان يناديني بهذا اللقب".

تحيي بعض الكلمات في ذاكرتنا مشاهد الإغلاقات العسكرية وصعوبة التنقل بين القرى أو الذهاب لمركز المدينة في فترة الانتفاضة الثانية. وإن كانت هذه الكلمات الآن لا تعني بالضرورة وجود حاجز أو إغلاق، لكنها تترجم هكذا في العقل.

واجد النوباني من قرية اللبن الشرقية جنوب نابلس، عندما يضطر إلى سلك طريق التفافي لتجنب الأزمة مثلاً، تذكره هذه الكلمة "الالتفافي" بالطرق الوعرة والجبال التي كان يسلكها المواطنون أيام الانتفاضة الثانية للوصول إلى قرية أخرى أو للمدينة بسبب وجود حاجز عسكري أو إغلاق. وتنتقل الذاكرة إلى مرحلة أعمق فتربط مشاهد الطرق الالتفافية بفصل الشتاء وازدياد صعوبة الأمر على الفلسطينيين.

ويقول واجد: "كلمة (كرفان) تذكرني بوجود الاستيطان والتوسع الاستيطاني. كذلك  كلمات (باص) أو (سبارو)  أو سيارة بنمرة صفراء تذكرني بصراخ وهتاف طلبة المدارس أيام الانتفاضة الثانية لتنبيه الجميع بأن المارين على الشارع العام للقرية مستوطنون، وبالتالي يستعدون لرشقهم بالحجارة".

كذلك خالد بدير من قرية فرعون جنوب طولكرم، يقول: "كلمة (بلفلف) بالعامية تشير إلى شخص ذاهب في جولة، لكن في الانتفاضة الثانية ربما أصبح هناك تحول في المعنى، فكلمة (بلفلف) أصبحت تعني أنني أبحث عن طريق ما كي أصل من نقطة إلى نقطة أخرى بسبب سياسة الإغلاقات والحواجز العسكرية. عندما أسمع هذه الكلمة أتذكر الحاجز والشخص الذي قال هذا المصطلح يبحث عن طريق آخر للوصول إلى بيته. بلفلف ارتبطت بالذاكرة بالطرق الالتفافية والهروب من الحواجز".

في مخيم جنين، لا تعني (نيسان) اسم أحد شهور السنة، بل يرتبط معناها بذكرى اجتياح مخيم جنين (حملة السور الواقي) في شهر نيسان/ ابريل عام 2002. وازداد المعنى عمقًا بعد استشهاد جميل العموري في 2021، الذي لم ينسَ هو أيضًا اجتياح المخيم فربط اسم بارودته بشهر الاجتياح (نيسان).

في مخيم جنين، لا تعني (نيسان) اسم أحد شهور السنة، بل يرتبط معناها بذكرى اجتياح مخيم جنين في شهر نيسان. وازداد المعنى عمقًا بعد استشهاد جميل العموري في 2021، الذي لربط اسم بارودته بشهر الاجتياح (نيسان)

يقول محمد أبو خرج (26 عامًا): "في المخيم عندما تقول لشخص ماذا تعني كلمة (نيسان) يجيب أنها تذكر باجتياح المخيم وببارودة جميل العموري التي كان يطلق فيها النار على جيش الاحتلال. كما يوجد قاعة ومنتزه في المخيم يحملان اسم نيسان".

صورة من مخيم جنين
صورة من مخيم جنين

تقول صديقة لي من مدينة جنين كان عمرها نحو 8 سنوات عندما اجتاحت قوات الاحتلال المخيم، إنها عندما ترى الآن "السنيورة" أو تأكلها لا تستطيع إلا أن تتذكر تلك الأيام، عندما اجتاحت قوات الاحتلال مخيم جنين وانقطعت الكهرباء وفرض حظر التجول، وكان يسمح لهم بالخروج لمدة معينة، فكانوا يشترون معلبات من بينها السنيورة لأنها تحفظ من غير ثلاجة.

أما المحامي محمد يزيد شلبك من مدينة جنين، فله تجربة شخصية مع مصطلح (دورية) وما تشكله من مصدر قلق لتبعات الاعتقال، خاصًة أنه كان مطلوبًا للاحتلال الإسرائيلي وتم اعتقاله أكثر من مرة. 

ويوضح أنه في الثلاثينيات من عمره بدأ بممارسة مهنة المحاماة بعد منع إسرائيلي لمدة 7 سنوات، وفي عمله القانوني تمر عليه عبارة (وكالة دورية غير قابلة للعزل)، وقد أصبحت كلمة (وكالة دورية) تعني له (الحذر من الدورية). هكذا يقرأها بسبب تجربته الشخصية.

وأضاف شلبك: "في كل مرة أقرأ فيها العبارة كاملة أتذكر دوريات جيش الاحتلال مقتحمة مدينة جنين دون أن أربط ذلك بفترتي الانتفاضة الأولى أو الثانية، بل بسياق الاحتلال ككل. وقد صار عندي تقاطع في مصطلح دورية من الناحية المهنة والتجربة الشخصية.

وقد تعني كلمة "غيّمت" في لهجتنا العامية اقتراب نزول المطر، لكنها قد تعني أيضًا عند من عاشوا تجربة المطاردة من الاحتلال في الأيام الانتفاضة الثانية باقتراب الخطر بسبب تواجد شخص مشتبه بأنه عميل للاحتلال في مكان وجود مجموعة من المطاردين، وبالتالي يجب الحذر والرحيل من المكان.

تقول ميس عوض من طولكرم: عندما طلبت مني التحدث حول هذا الموضوع، تذكرت أول مقابلة أجريتها عندما كنت في المرحلة الابتدائية، حينها طلب مني الحديث للإعلام عن حادثة اغتيال الشهيد ثابت ثابت، حيث تم إطلاق رصاص على بيتنا من الجهة القريبة من منزل الشهيد. تحدثت للإعلام حول ما جرى، كانت هذه المقابلة الأولى في حياتي، وعندما يطلب مني إجراء مقابلة في مواضيع أخرى أتذكر أول مرة قمت فيها بذلك.

وأضافت، أنها تربط مرحلتها الابتدائية في مدرسة إشبيلية في طولكرم بقصف قوات الاحتلال للمقاطعة في الانتفاضة الثانية: "عندما يذكرني أحد بقصف المقاطعة أتذكر مرحلتي الابتدائية، كنت حينها في الصف الثالث، وسمعنا صوت القصف وأخرجونا من المدرسة إلى بيوت في المدينة بهدف حمايتها، حينها أمسكت بيد شقيقتي وكنا نريد أن نذهب للمقاطعة لأن والدي كان فيها لكن الشرطة منعتنا وبقينا في أحد البيوت وبعدها ذهبنا للمنزل".

في حالة ميس وحالات أخرى مشابهة، نكون بانتظار كلمة أو اسم مكان أو حتى لقب حتى تسترجع الذاكرة صورة أحداث لا تمحى وأشخاص لن يغيبوا من الذاكرة.