01-أكتوبر-2019

لم يحظ طائرٌ مهاجرٌ باهتمامٍ ومتابعةٍ مثل الذي حازه طائر اللقلق، هذا الذي دخل إلى حياة المجتمعات التي يمر منها في موسم هجرته من شمال أوروبا مرورًا ببلاد الشام ومصر حتى جنوب أفريقيا، فنسجت المخيلة الشعبية حوله تُراثًا مَحكيًا كبيرًا جعله واحدًا من أهم الطيور التي تَعْبُرُ بلادنا، نَلمَسُ ذلك حين نُطالع الحكايات والأمثال والأهازيج وطريف الأقوال التي يُستقبَلُ بها هذا الطائر. وفوق ذلك فإن سيرته مُقترنةٌ بالاحترام، حتى أنهم نسبوا له صفات الذكاء والفطنة ولقبوه بكنية "أبو خُديج"، وحرموا قتله وقرنوا مروره بالخير.

"أبو خديج" من أسماء طائر اللقلق، وفي الموروث الشعبي نسبوا له الذكاء وحرموا قتله وقرنوا مروره بالخير

واللقلق لمن لا يعرفه طائرٌ من ذوات السيقان الطويلة والأجنحة العظيمة، ولون ريشه أبيض إلا عند نهاية أطراف أجنحته فهي سوداء، بينما لون ساقيه ومنقاره أحمر. وهو طائرٌ ضخم يصل طوله إلى 100- 125سم، ويصل طول جناحه إلى 155-200 سم، ووزنه يصل إلى 2.3 - 4.5 كجم.

أثناء هجرة اللقلق من أوروبا إلى أفريقيا لا يمر بالبحر الأبيض المتوسط، بل يتجنب الهجرة فوق الماء، ولذا يمر ببلاد الشام شرقًا ومضيق جبل طارق غربًا. وأثناء حركته في البرية يمشي ببطء ولكن بلا توقف، وخلال طيرانه تكون رقبته ممدودة إلى الأمام.

وأثناء هجرته يُحلّق بشكلٍ جماعي على شكل أسراب كبيرة مُصدرًا صوتًا قويًا يلفت الانتباه. ويكون تحليقه بشكل منتظم فيظهر كأنه حبلٌ طويل في السماء، الأمر الذي يجعل الأطفال يُخاطبونه بقولهم: "يا طير سويلي حبل".

ويقال عن اللقلق أنه طائر وفيٌّ ومخلصُ الحُبِّ للمكان الذي ينزل أو يعيشُ فيه، حيث  يعود لذات المكان كُلما مَرَّ مُهاجرًا من فوقه. ولطالما كان هذا الطائر سفيرًا للحب وللتغني بالمحبوبة والتمسك بها والرغبة بالهجرة لأجل بلوغها.

أنا لرافق الحوام وأهاجر وأطير .. وأحوم فوق دار الولف وأطير

شهيد الله لو حطوا نواطير .. من آخر الدنيا لمرق فوق دور لحباب

ويتغذى اللقلق على الديدان والحشرات والجنادب والبرمائيات والأسماك، وهو أليفٌ لا يؤذي الفلاحين ومحاصيلهم الحقلية، ولذا وصفوه بأنه منهم، وتمنوا عليه أن يُخلصهم من الجنادب التي تأكل المحاصيل:

أبـو ســـعد يا مِنَّـا .. يا أبـو مُنقار امْحَنّـا

بحيات أبوك وجدك .. تنقر هالجندب عَنّا

واللقلق طائرٌ لا يُؤكل ولا فائدة من تربيته، فهو يعيش في مكان ويربي أطفاله في مكان آخر، ولذا لا قيمة لتدجينه أو تربيته، ولأجل ذلك قيل عنه في المثل الشعبي: "طول السنة بلا حَسنة".

اللقلق طائرٌ لا يُؤكل ولا فائدة من تربيته، فهو يعيش في مكان ويربي أطفاله في مكان آخر، ولذا لا قيمة لتدجينه أو تربيته

وتسمية هذا الطائر باللقلق إنما جاءت من أصلٍ عربيٍ فصيح، فاللقلقة هي شدّة الصوت "الصياح"، واللّق صفة الرجل كثير الكلام، وفي لسان العرب ورد القول: "اللقلق واللقلاق: طائر أعجمي طويل العنق يأكل الحيّات، والجمع اللقاليق، وصوته اللقلقة". وحين تستمع لصوت هذا الطائر تنتبه بأن صوته يحاكي هذين الحرفين: "ل. ق"، الأمر الذي يجعلنا نعتقد بأن العرب سمَّته تسمية تُحاكي صوته الذي يُصدره، فصار لقلقًا لأنه يصدر صوتًا يقول: "ل.ق .ل.ق".

اقرأ/ي أيضًا: "أبو قاسم وحريمه" في الموروث الشعبي

ويُسميه البعض باسم الحوّام، والحوّام هو الطائر كثير الحوم والدوران، وتقال للطائر إذا حام في الهواء ودار حول عين الماء. وهو اسمٌ يُطلق أيضًا على نوعٍ من الطيور الجارحة التي تحوم في السماء بحثًا عن طرائدها. وحين يأتي اللقلق في شهر نيسان/إبريل (شهر الخميس) يُغني له الأطفال:

حوّام شهر الخميس .. السنة الجاي وأنا عريس

وفي العتابا نسمعهم يقولون عن اللقلق الحوام:

يا قلبي رافق لطيور اللي عَلّو .. وعلو قلب لمغني وعلو

رافقهم وهاجر معهم  لعلو ..  حبيتك توجده مع الحوام

***

يا ريتني طير امرق ع ديرتكم .. والا حَوّام ارتفع عَ  بيدركم

يا وليفي عند ما يطلع بدركـم .. بتنـور ع الروابي ولهضـاب

***

جبل حوا جبل آدم جبل حام .. أشبه طير الحوام لو حام

وقبل ما يبشروا إمك بلوحام  .. يا حُبك حط بقلبي الظنا

***

غير أن أشهر أسماء هذا الطائر في فلسطين وبلاد الشام عمومًا اسم "أبو سعد"، وهو اسمٌ له دلالة مُهمة عند العرب، ذلك أن السعد بمعنى اليمن والسرور والاستبشار بالخير، وفوق ذلك فإن سعد أو (سعد الله) كان إلاهًا يَعبدهُ النبطيون، وهو أيضاً صنمٌ كان يُعبد في الجاهلية، وفيه يقول الشاعر:

أتينا إلى سعد ليجمع شملنا

فشتتنا سعد فلا نحن من سعد

وقد نسجت العرب حول سعد حكاياتٍ وقصصًا كثيرة أشهرها قصص السعود الأربعة في فصل الشتاء، "سعد ذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الخبايا".

وقد حمل طائر اللقلق اسم "سعد" استبشارًا بالخير الذي يأتي معه في رحلتيه من وإلى أوروبا، ذلك أنه يأتي لبلاد الشام في المرة الأولى في شهر أيلول/سبتمبر على أبواب الخريف ويحل معه المطر، ولذا يقولون له حين يرونه: "أبو سعد دق الرعد"، كأنه يأتي فيأتي الرعد والمطر معه، ويغني له الفلاحون عند قدومه في بداية الخريف :

أبو سعد دق الرعد

يا أبو منقـار محـنا

جيب الحنا تانتحنا

عنـد أبـو الـشــيخ

ثم يأتي اللقلق لبلادنا في طريق عودته لموطنه في شهر نيسان/إبريل مع نهاية الربيع، تزامنًا مع اقتراب مواسم الحصاد للقمح والشعير والغلّات عمومًا، لذلك فإننا نعتبر عودته تعني توقف المطر والرعد، ونقول في المثل الشعبي: "إذا طَل أبو سعد بطل الرعد".

يأتي طائر اللقلق لبلاد الشام في شهر أيلول مع اقتراب المطر، ثم يأتيها مع اقتراب مواسم حصاد القمح والشعير في نيسان

وهناك اعتقادٌ لدى المصريين القدماء عن اللقلق بأنه حين يأتي لبلادهم، فهذا يعني عودة إحدى الأرواح لجسدها مرة أخرى، وهو في معنى تجدد الحياة وانبعاثها بسبب الخير الآتي معه.

وفي العتابا يغني الفلسطينيون لـ"أبو سعد" - اللقلق:

بُو سعد مرق وسيقانه رفيعا .. سلب عقلي بسيقانه الرفيعا

ما توخذ غير هالسمرا الرفيعا ..  تسلم من جنهم والعذاب

***

بُو سعد قعد عنا وقعداته خفيفة .. شلف عقلي بحوماته الخفيفة

يا حوام العصر سلم عَ لوليفه .. قبل الشمس تعطي ع لغياب

ويُسميه آخرون "أبو عصب" والتسمية جاءت من طول "عُصبانِه" التي هي المسمى الشعبي للسيقان، ذلك أنه طائرٌ دقيق الساقين وطويلهما، وقد ضربوا به المثل في الطول: "فلان رجليه أطول من رجلين أبو سعد".

اقرأ/ي أيضًا: غزال الجبل الفلسطيني: ارحموني

وبعضهم سمّاه الحاج قاسم، وَمَردُّ ذلك لحكاية شعبية تقول أن اللّقلق قبل أن يُمسخ طائرًا كان رجلاً ورعًا اسمه الحاج قاسم، لكن حدث ذات مرّة أنّ توضّأ باللبن فمسخه الله لقلقًا. وقيل إنما سُمي اللقلق بالحاج قاسم لأنه كان إذا رأى قوافل الحجاج رافقهم وأنس بهم واقترب منهم بلا خوف فأطلقوا عليه لقب الحاج قاسم.

ولأهلنا في المغرب العربي تسمية أخرى لهذا الطائر هي: "بَلاّرج"،  وربما اشتق الاسم من الأصل اليوناني "بيلارغو" الذي يعني "لقلق". أو لربما لُقّب الطائر في البداية بـ"بْلا رْجَلْ" [بدون رِجل] بالنظر إلى الوضعية التي يكون عليها واقفًا، حيث يبدو كما لو كان واقفًا على رجل واحدة، ثم تدرج الاسم حتى أصبح "بَلاّرج".

ومن اللطيف القول بأن العرب اعتبرت رؤية اللقلق في المنام مُبشرًا على الخير، ذلك أنه في المنام رجلٌ حسيبٌ نسيبٌ ذو تقوى وورع، زاهدٌ لا يؤذي ومتفكرٌ في عواقب الأمور، ورؤيته في غالب أشكالها عند المفسرين تبشر بخير ويمن وسعد.

وطائر اللقلق حاضرٌ أيضًا في الحكايات والقصص الشعبية بكثرة، حتى أنني لم أجد طيرًا حمل حكايات وأساطير كهذا الطائر، ولعل أشهر حكاية عربية تلك التي تحكي عن قصة الملك ووزيره اللذين تحولا لطائري لقلق ولم يستيطعا الرجوع لما كانا عليه إلا بصعوبة، ومثلها حكاية القاضي الفاسد الذي مسخه الله لطائر لقلق وجعل صوته مسخًا لضحكاته بسبب جوره وتعديه على الفقراء والأيتام. وهناك حكايةٌ أخرى تقول بأن طيور اللقلق كانت في الأصل عصابة قُطاع طرق، مسخها الله عقابًا لتجرؤهم على نهب قافلة حجاج كانوا في طريقهم لمكة المكرمة.

ونطالع في الأساطير الاغريقية قصة "الإلهة هيرا" زوجة زيوس، التي تحولت إلى طائر لقلق، لأنها سرقت ابن عدوتها "الملكة جيرانا"، الأمر الذي انعكس لاحقًا في الاعتقاد الشعبي لدى بعض المجتمعات بأن اللقلق هو رمز الفقد واختطاف الأطفال.


اقرأ/ي أيضًا: 

شقائق النعمان.. أسطورة الدم والحب

عن المستقرضات وعجوزها وأمطارها الغزيرة

لحم الفقراء في تراث فلسطين