08-أكتوبر-2015

محمد البكري مؤديًا دور المتشائل

مضى ما يقارب العشرين عامًا على قراءتي لتلك الرواية، من غير أن أحظىَ بالنباهة، أو النبوءة المبكرة بما سيحدث لي/ لنا، وقرأتُ مبهورًا بلغتها، وتلميحاتها، وإسقاطاتها الواضحة فكرةً ومعنىً، والعميقةِ لغةً وكتابةً، كما لم أقرأ لأحد ما فيه إشارة إلى أن حاله ستشبه يومًا حال البطل، أو أحد الشخوص الثانويين في حياة السرد المفترضة، بل الحياة الحقيقية فيما تبين لي بعد، إذ كيف لشخص واحد من لحم ودم أن يجمع بين النقيضين ويهنأ، أو لأقل يتهانأ، من باب ينسى ويتناسى، فيعيشُ قارئهُ مرة في كنفِ الفوز، ومرة أخرى في جحيم التحسر والخسران؟

تركت روحي تلهو في خرائب البلد، وتتعمّد بزيت القتلى على الأسفلت والتراب

ومهما يكن من الحال يبدو أن لا حرج علي ولا عتبَ، فالمصاب جلل، ولا حيلةَ لمثلي وغيري للتفكير من قبل بما ستؤول إليه أحوال البلد، يبقىَ أن أتحدثَ بالتاريخ الذي يجمع البلدين لا النقيضين، وأتحدثَ هناك عن أجنبي اللسان والمعشر، وهنا أتحدثُ عن أجنبي الروح ويجمعني به اللسان، وله بندقية كبندقية الأول وسوط وسجن" وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضة"، هل أخطأ صاحب القول في قوله، ربما لا، بل لا، فالأيام أثبتت ما كان علينا خافيًا، وليس لي إلاَّ عد ما تهدم وتقصف ووقع وبقي تحت الأنقاض، وما احترق وغرق وما انفك يحلم بوصول إلى الغربةِ هربًا من أرض تلفظُ ناسها كفوارغ الرصاص.

إلى هذه الساعةِ أضرب رأسي بكل زاوية بيت يشبه بيتي هناك، وأنهل من كل ساقية ماء مررت بها، وأكلم كل نبتة كالتي تنبت في دياري، دونَ أن أقطع علاقتي مع الأنهار السريعة الجريان والعريضة كالبحيرات، في خلاف مع أنهارنا التي جفّت حين غضبت السماء، وحفظت ماءها لوقت آخر، ربما سيأتي هذا الوقت الآخر، ربما لن يأتي إلاَّ متأخرًا وقد بتَرني قلبي، ولفني ثوبي الأبيض الأخير في أبهى ما يبيحهُ الحجُّ إلى مساقطِ الذكريات، وقبور من تركت خلفي حين خرجت على أمل العودة سريعًا.

اقرأ/ي أيضًا: طبخ الحب

إلى هذه الساعة من الليل الطويل -وهذه صياغة مجازية ومتداولة- أقرّب الرواية من رؤيتي لأقرأ بها ما يحدث، أجدُ أنني لا أملك إيمان الأنثى يعاد، لا الأولى ولا الثانية، ولا باقية الطنطورية، وليس لي ولد اسمه ولاء، يحمل السلاح ويستأسد في كهف لا يخرج منه إلا شهيدًا، عبرتُ حدوداً نعم، أكلت خوفًا نعم، رماني الدرك رصاصًا نعم، وفي رحلتي لانتشال أهلي داورني العسس وأرادوا شرًا بي نعم، ونفذتُ بكلِّ ما أملكُ من أولاد ومال وزوجة، وانتصرتُ للجوء كما ينبغي، غير أني مثل المتشائم تركت روحي تلهو في خرائب البلد، وتتعمّد بزيت القتلى على الأسفلت والتراب، وكل محاولاتي أن أكونَ رجلًا جديدًا يحدد ملامح حياته باءت بالفشل، أنا إنسانٌ متشائم، وأعتبر ما حدث شؤمًا وأربط ذلك بالخرافة، فقد قالت لي عجوز في القرية بعد أن رأت البومَ على أطلال بيتنا القديم: "الله يستر، سيكون في قريتنا موت"، وصدقتْ في ذكر الموت وأخطأت في تحديد المكان، لم يكن الموت في القرية فحسب، الموت في كل الأقضية والنواحي والدساكر، وانسحب من الأشياء الجامدة إلى كل روح تدب على الأرض، سلام لك وعليكِ ايتها العجوز النحس، فقد سقتِ لي جزءًا من الحقيقة التي أنعمُ في جحيمها اليوم.

يا شام، منحتني سحنة الفلسطيني ودمه الحلو، ولم أكن أعلم أنك ستمنحينني كل حياته

أنا سوري، أقتربُ بحكم وجودي بين نهرين في شمال شرق البلد من حكاية سومرية أو آشورية أو ميتانية، وأضمّ بين جنباتي أحكام القبائل التي تصارعت طويلًا على العشب والماء، وتعرفت على الدم أول مرة في قصص الرعاة وحفَظةِ الشعر النبطي، وحفظتُ اسمي معجونًا بكل ذلك إضافة إلى ماتربيت عليه وتديّنت به، ولم أقل مرة: كم أنا محظوظ، ولم أقل شيئًا في أمري، فولي أمري أدرى، ابتداء من الله إلى الحاكم بأمره، إلى أبي، وانتهاء بمعلميي الكثر وعصيهم المقدودة من شجر الرمان، الطرية والحازة في الجسدِ والنَفسِ.

أنا سوري ولي بلاد أربع، سُميت شام، وآه يا شام، يا شام، منحتني سحنة الفلسطيني ودمه الحلو، ولم أكن أعلم أنك ستمنحينني كل حياته، ظروفها، تشنجاتها، ويلاتها، دمارها، وصحوتها، وأخيرًا هذه الخيام التي لم ننصبها في البلاد التي جئناها، نصبناها في أرواحنا، ورحنا نأكل تحتها ونتزاوج وننجب يوميًا أطفالًا يشبهونَ الوجع، لهم الوحشة ذاتها ولهم أغانيه.

كنت أعدتُ قراءة "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس/ المتشائل" ووجدتني فيها، قلتُ سأقرأ فيها حياتي، كما تقرأ قارئة الكف حياة السذج والمخدوعين والموهومين، وتبشر بحياة قادمة هانئة لا ضير فيها ولا شرور، ربما بعد يومين أو شهرين أو سنتين أو مئتي سنة.. 

أفكرُ جديًا في أن أتلبّس روح إميل حبيبي، وأتحدثَ عن (يعادي) وأتفائل مثله وأتشائم، وأكتبَ بأصابعَ لا ترتجف روايتي القادمة "المتشائل".

اقرأ/ي أيضًا: تشارلز سيميك... فوتوغرافيا الحروب