29-سبتمبر-2015

أناس يرتدون زي شارلوك هولمز في لندن (Getty)

في إحدى حلقات المسلسل الكرتوني الياباني الشهير المحقق كونان، تُستدعى الشرطة لشقة؛ فتجد أنّ شخصًا ما قد انتحر وتقتنع بذلك للوهلة الأولى، ولكن كل ذلك يحدث قبل أن يتدخل كونان.

لماذا لا يمكن تناول دور المثقف إلا في ثنائيةٍ تجمعه بالسلطة؟

لماذا لا يمكن تناول دور المثقف إلا في ثنائيةٍ تجمعه بالسلطة؟ فإن كانت هذه المقابلة صحيحة في السياق الغربي، فإلى أيّ مدى هذه الثنائية صحيحة لدينا! علينا في البداية تناول مفهوم السلطة. أولًا، السلطة شأنها شأن أي شيءٍ في هذا الوجود من الكون حتى هذا المقال، تتكون من جدلية ثلاثية؛ فالسلطة تتكون من: الآمر والمأمور والأمر، ويتحتم على هذه الثلاثية أن تكونَ مشروطة بالتوافق والقبول؛ فهو شرط العلاقة الأول وإلا فإنها تصبح سيطرة لا سلطة. 

ثانياً، إن السلطة هي خلاصة إطار حاكم فوقي لنظام مؤسِس مركب عليها، فالسلطة لدينا لديها برلمانات ومجالس تشريعية وصناديق اقتراع... إلخ، ولكن ليس لدينا مثلًا ليبرالية كرؤية للعلاقات الاجتماعية، ولا علمانية كأسّ مؤسس لفصل الدين عن السلطة ولا حتى فلسفة وضعية. فالسلطة لدينا لم تنضج لتصبح نظاما ولم تنبت من نظام، هي تقريبًا أنظمة معلقة فوق رؤوسنا كمروَحة لا تكف عن تكرار نفسها، والمثقف يرقُبها ساخطًا "لمَ لا تتوقف"؟

وهنا نأتي "للطرح الجذري" كما يصفه محمد أبو القاسم حاج حمد، وهو طرح المثقف والمجتمع ذو الأسبقية على المثقف والسلطة. كان هذا الأمر إلى حدٍ بعيد شديد الوضوح لدى مثقفي مرحلة النهضة (1785/1945)، فكان خطابهم موجهًا للمجتمع يناقش مشاكلهم ويعمل لنقدها من داخلها، ولكن ذلك تغير مع فكر مرحلة الثورة من قطع مع التراث وتبني القيم التقدمية والحداثية، فأصبح الموروث عارًا يجب التخلي عنه، وأصبحت القضايا الدينية رجعية ومناقضة للعلم الحديث، أسوة بالغرب الذي تجاوز اللاهوت والميتافيزيقا معتبرًا أياها من الموروث الخرافي للبشرية. أصبح المثقف العربي يخوض حروبًا دونكشيوتية لا توجد إلا في خياله وخيالِ حزبه، وانسلخ عن تاريخه وحاضره، فبحثَ المجتمع عمّن يفهم تاريخه وقيمه ويتحدث بلغةٍ يفهمها. 

ومع بدايات القرن الحالي أصبح هذا "اللاعصري" حديثَ العصر، وخرج من الحيز "الوهمي" للحرية الشخصية والممارسة الذاتية إلى الحيز العام مطالبًا بالاعتراف به، وليس ذلك على الصعيد العربي بل العالمي، كوننا نحيا في وقتٍ انعدمت فيه خصوصية حدثٍ ما، لا مكانَ للهرب.

لقد كان ما أشيرُ إليه شديدَ الوضوح في الانتفاضات الجماهيرية العربية، وخاصة مع درس الإسلام السياسي الذي يجب تعلم الكثير منه، كونهم كانوا حركاتٍ اجتماعية قبل انتقالهم للطور السياسي، ونجحوا في تحقيق أهدافهم كونهم نبعوا من الجدل التاريخي للمثقف العربي صاحب خطاب التغيير المجتمعي لا السياسي. 

من المحزن أن نرى من يلوم الجماهير على اختياراتها ويتّهمها بالتخلف وكأنه آتٍ من المريخ!

والآن، من المحزن أن نرى من يلوم الجماهير على اختياراتها ويتّهمها بالتخلف وكأنه آتٍ من المريخ، الشباب العربي عطِشٌ للتقدم والنهضة والرقي، وسيفعلُ أي شيءٍ في سبيل ذلك، كلُّ ما يحتاجه هو المقاربة الصحيحة، وربما تكون طريقة رؤيتنا للمشكلة هي جزءٌ كبير منها، خاصةً في وقتٍ نرى فيه المثقف ينتحب يأسًا ولا أحد يسمعه، ورجل دينٍ يقود الملايين للهاوية.

لا يمكننا ترك المقدس وتأويله تحت سيطرة الأموات وبحاميةٍ كهنوتية، وذلك في سبيل الركض وراء حلولٍ سريعة مستعارة لا تشبهنا في شيء، المعركة الحقيقية والمثمرة تكمن في مواجهة المجتمع ومن داخل جدله الذاتي بعيدًا عن الكسل الثقافي والهرب للأمام، التفكيك (وقد قام عشرات المفكرين بذلك) ثم التركيب داخل الجسد نفسه.

إنّ الحاجة للتنوير ملحة وإلا سنبقى أسرى العود الأبدي للفشل، فمصيرُ أي ثقافة مرتبط بطريقة مقاربتها للمقدس إن كان ذلك تخلفًا أو تقدمًا. الأمرُ ليس هينًا، من الصعب أن تفضح تناقضات المجتمع وأن تُحمّله مسؤولية فشله، وأن تُجبره على أن يرى نفسه في المرآة، فهو الذي يستمر بتكرار خلق ذات الأنظمة ثم يندب حظه، من الصعب أن يعترف المجتمع بأن الخلل منه – وليس من السلطة شماعته المفضلة- فذلك سيعني الإصلاح والخروج من دائرة السكون للتغيير. هذه المهمة شاقة وسيواجه القائمون عليها معارضة قوية، ولكن في نفس المكان الذي سيصلبونك فيه؛ ستبني لك الأجيال القادمة نصبًا تذكاريًا. 

في العصر التكنولوجي السريع الذي نحياه، وخاصةً في الوسائط الاجتماعية حيث النموذج الغربي للمثقف حاضرٌ أمامنا بقوة، وكوننا الطرف الحضاري الأضعف، يفرض علينا هذا النموذج مناهج وسلوكيات لا تتناسب إطلاقًا مع مشاكلنا، فطبيعة المثقف الذي يُرضي الأسياد لا تصلح لنا، ولكننا مجبرون على الأخذ بها لكي لا نكون أوبسليت وخارج التاريخ، وهنا التحدي الأكبر، علينا أن نعرفَ جيدًا أننا ضعفاء ومهزومون وأن نعترف بذلك، ونسلك طريق الضعفاء في التعلم.

إنّ ما نحتاجه يبتعد عن مثقف فوكو ذلك الذي يؤمن بأن "الناسَ ناضجون بما يكفي كي يقرروا من ينتخبون" ويطالب "ببناء سياسةٍ جديدة للحقيقة"، ويقترب من مثقف كانط الذي يطالب "بالحقّ العام في استخدام المنطق والعقل" بعيدًا عن احتكار النخب أيًا كانت صفتها، أي مثقف تنويري، وبالطبع هذا لا يعني التصور الحديّ لثنائية على حساب أخرى؛ فكما قال إدوارد سعيد "لا مهرب للمثقف من السياسة، فأينما أدار وجهه فثمة سياسة".  

عودة على بدء، أما السلطة؛ فينتبه كونان لبقعة مياهٍ أسفل المُنتحر وبعد تدقيق يكتشف الجميع عبر عبقرية توجو موروي الفذة أن الضحية كان يقف على قطعة جليدٍ كبيرة، وقام القاتل برفع درجة حرارة المكيف لكي تذوي قطعة الجليد ببطء؛ فيتأرجح الجسد ويهلك، إلى ذلك المناخ علينا دفع الأنظمة، إلى تلك الجريمة الكاملة، وإلى حين ذلك، نسأل الله أن يعثر كونان على الترياق ويحلّ عنا.