18-ديسمبر-2015

غرافيتي لـ بانسكي

لسبب ما لا أعرفه تذكَّرت المسيح، وتذكرت من صنع له الصليب. حتمًا سأل عن طول المسيح وعرضه حتى يتأكد أنه على مقاسه، وقبل كل شيء سأل عن عمله، قالوا له: "نجار"، فصنع له شيئًا من الخشب، من جنس العمل. انتقى أجود أنواع المسامير، وصنع بدقة أكاليل الشوك لتوضع حول رأسه. أترى كيف تم استعمال العقل بدقة لقتل الروح؟

وراء كل فكرة يمشي مفتش مباحث وسيارة شرطة وسجلات الممنوعين والمطلوبين

هذه قصة البشرية منذ البداية، ولا أحد يفهم السرّ لأن أحدًا لا يريد أن يفهم. ليس خفيًا عليك أن البشرية لا تزال تسير على نفس إكليل الشوك.. في الطريق نفسه.. ولا زالت المعلومات تجمع، ووراء كل فكرة يمشي مفتش مباحث وسيارة شرطة، وسجلات الممنوعين والمطلوبين (قيد الكتابة)، والوزراء (تحت الطلب)، والساسة الآن هم الصيارفة.. والناس كما هم.. يتعاطفون مع العبد الصالح، يبكون عليه، يتطهّرون بدمائه وجسده، لكنهم لا يتدخّلون لإنقاذه، ولا يحركون ساكنًا يوم الصلب.. وبعده، يبكون أمام تماثيل العذراء، ويطلبون الغفران والرحمة في المحاريب، ثم يخرجون منها للقاء القاتل بوجه بشوش.. ويقدمون "قائمة خدمات" كاملة لمن يدفع أكثر مهما كان ملوَّثًا بدم "المسيح".

ليس عندهم مشكلة في غفران خطايا يهوذا ومناصرته بعد الصلاة لمريم، وبعضهم على طريقة "الصلاة وراء عليّ أتقى، والأكل على مائدة معاوية أطيب" يمدح القاتل، لأنه لولاه ما كان مجد ابن مريم.. لقد صنع المسيح معجزته الخالدة وشعبيته الخارقة وقصته الملحمية يوم صُلِب (أو رُفع)!

هل نقترب من نفسية يهوذا أكثر؟ الرجل الثاني بعد المسيح، ظلّه يأكل معه من صحنه، ينافسه على الموقع في كتب التاريخ، ويدس السم في أيامه، وعاشق الزعامة لا يرتضي الموقع الثاني في السلطة أو الكتب، وصفة الرجل الثاني ليست ممتعة إلا إذا كانت محطة انتظار لعزل الرجل الأول. إمام الخطائين الخالد في اللعنة رأى أن المسيح أكثر مثالية وجمالًا وكمالًا من قذارة الحياة، التي انشغل فيها الناس بكنز الأموال والذهب والقصور، وجاء هو طالبًا منهم أن يتبرّعوا بها لكي لا تحملهم إلى النار، قال بصراحة: "دخول جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني ملكوت السموات".

نحن البشر بارعون في صنع الصلبان لقتل أرواحنا، أو على الأقل، مسخها، ومحوها من المعادلة

سيتآمرون عليه، سيقتلونه حفاظًا على ثرواتهم، وإن لم يكن بـيهوذا فبغيره، فلماذا لا يكسب الحسنيين، يريح المسيح من العذاب الذي ينتظره في الدنيا، ويسرق منه النور؟

لماذا قصة المسيح الآن؟ أقول لكم فقط إن لكلٍ صليبه، ونحن البشر بارعون في صنع الصلبان لقتل أرواحنا، أو على الأقل، مسخها، ومحوها من المعادلة. أنا مثلًا بارع في قتل نفسي كل يوم، ولا مشكلة عندي نهائيًا، على الإطلاق، أن أصنع الصليب، وآخذ مساميره بين أحضاني. أتخيّل صليبي مصنوعًا من الأقلام والكتب وورق الجرائد وأسلاك الإنترنت ولوجوهات المواقع، وأزرار الكيبورد، وبقايا اللاب توب، وأنا معلَّق عليه.

أكذب، وأظنني أحمل صليبي في حين أني مصلوب عليه.. قتيل بلا روح ولا نفس.. ولا أي شيء. والسيد المسيح أيضًا صنع الصليب لنفسه -دون أن يدري- حين بدأت دعوته وملحمته.. رحمه الله وأبدله دنيا خيرًا من دنياه!

اقرأ/ي أيضًا:

مصر تحت حكم المماليك.. مشاهد ووقائع فاضحة

رؤساء التحرير لا يدخلون الجنة