26-يونيو-2019

تتجمع نسوةٌ في قرية المغيّر شرق رام الله في ساعةٍ مبكرةٍ من صباح كل يوم، ويأخذن شكل حلقاتٍ قرب الطابون، يتسامرن ويتبادلن أخبارهن في جوٍ غاب عن معظم القرى الفلسطينية منذ سنوات.

الزائر إلى المغيّر لا يمكن أن يضل طريق الطوابين، فرائحة الخبز المبعثة منه تفوح في كل أزقة وحارات القرية التي تبلغ مساحتها الاجمالية 20 ألف دونم، حرم الاحتلال الاسرائيلي أهلها من استثمار معظم مساحتها.

الزائر إلى المغيّر لا يمكن أن يضل طريق الطوابين، فرائحة الخبز المبعثة منه تفوح في كل أزقة وحارات القرية

تمكنت المغيّر من الوقوف في وجه تكنولوجيا المخابز الحديثة، وبقيت محافظة على الإرث الفلاحي الأصيل، حيث ما زال يعمل فيها أكثر من 40 طابونًا، كما أن بعض العائلات تعتمد على صناعته كمصدر رزق لها.

اقرأ/ي أيضًا: "تشبارة" الفلاحين.. صناعة حققت اكتفاءً ذاتيًا قبل قرن ونصف

اعتادت وداد أبو عليا (63 عامًا) على إعداد الخبز في الطابون منذ كان عمرها (14 عامًا)، حيث تعلمت ذلك من خلال والدتها، ثم نقلت هذا التقليد إلى بناتها.

قالت الحاجة أبو عليا: "في البداية كان هذا العمل صعبًا ومتعبًا جدًا، لكنه مع الوقت أصبح عادة ممتعة، وأشفق اليوم على البيوت التي تخلو من الطوابين، فالطابون إرثٌ فيه رائحة الماضي التي بدأنا نفقدها في كثيرٍ من قرانا".

لا تتخيل أبو عليا نفسها تتناول الخبز الذي يُصنع في المخابز الحديثة، فهي ترى بأنه خالٍ من الفوائد الصحية الموجودة في خبز الطابون الذي يُعدُّ من طحن القمح الخالص.

وتضيف، "يكون عادة الطابون لثلاث أو أربع عائلات، ونقسم وقت إعداد الخبز فيما بيننا، فمنا من يعده صباحًا وأخريات في ساعات المساء".

تقوم أبو عليا عند الانتهاء من إعداد الخبز  "بتزبيل" الطابون، حتى يبقى ساخنًا للمرة القادمة، وهذا ما تفعله العائلة الأخرى التي تستعمله، وتعتبر هذه عملية يومية اعتادت عليه.

بعد الانتهاء من إعداد الخبز يجب "تزبيل" الطابون حتى يبقى ساخنًا للمرة القادمة

و"تزبيل" الطابون يكون من خلال استعمال زبل الحيوانات -إذا كان جافًا- خصوصًا زبل الماعز، حيث يكون وقودًا صالحًا. وفي حال الاعتناء الصحيح، يُمكن الاكتفاء "بتزبيله" مرة واحدة كل 24 ساعة، إذا كان على الطابون نارًا كافية وقت "التزبيل".

اقرأ/ي أيضًا: بالصور | قرية كور وحنينٌ لأيام عز

يُبين عضو اللجنة الزراعية في المغيّر كاظم الحج محمد، أن القرية زراعيةٌ وفيها ثروةٌ حيوانيةٌ ممتازة، والقمح متوفرٌ فيها على مدار العام، "واستخدامنا للطابون أمر لا مناص منه، فهذا تراث فلسطيني وطابع فلاحي أصيل نريد الحفاظ عليه" وفق قوله.

يفخر الحج محمد بأن المغيّر من القرى القليلة التي ما زالت تحافظ على طابعها الفلاحي، فيما 80% من أهلها يزرعون القمح والشعير ومعظم البقوليات، كما يزرعون أشجار الزيتون واللوز، والخضروات، وأغلب عائلاتها تملك الأغنام التي ينتجون منها الحليب والجبنة والسمن البلدي والزبدة البلدية.

يعتبر الحج محمد ذلك "جدوى اقتصادية ممتازة" لأهالي القرية، ويقول: "نأكل مما ننتج، الأمر الذي وفر علينا مصاريف كثيرة، فالخبز نصنعه نحن، والزيت من زيتوننا، ونزرع الخضروات على مدار العام، لم تثقل كاهلنا القروض لكي نوفر قوت يومنا، فنحن أبناء الأرض، والأرض كالطفل إذا اعتنيت بها أعطتك الفرحة والبسمة التي تتمناها".

ووفق الباحث في التراث والعلوم الإنسانية شريف كناعنة، فإن الطابون شكل مكانًا لالتقاء الجارات والصديقات، تحديدًا الكبيرات في السن، إذ يؤدي الطابون في هذه الحالة نفس وظيفة "الديوان" بالنسبة للرجال، فهن يتسامرن ويتمازحن ويتبادلن الأخبار والإشاعات، ويتناقشن في كل ما يهم المرأة في القرية.

الطابون ديوان النساء، وقد يكون تعبيرًا عن "تحالفٍ" بين ربات البيوت، أو تمهيدًا لعلاقة نسب

ويضيف في مقاله بمجلة التراث والمجتمع، "تستطيع صاحبة الطابون أن تعبر عن رغبتها أو عدم رغبتها في توثيق صداقتها مع بعض الجارات والقريبات عن طريق انتقاء من تسمح لهن باستعمال الطابون وقت الحاجة للخبز، أو عمل المسخن أو وضع صينة بطاطا في الطابون".

ويشير كناعنة إلى أن كثيرًا ما تشترك عدة جاراتٍ أو قريباتٍ في طابون واحد، "ويكون عادة السبب الظاهر وراء هذا التشارك هو الاقتصاد في الزبل، ولكن في الحقيقة كثيرًا ما يكون هذا التشارك تعبيرًا عن تحالف جديد بين ربات البيوت فقط أو بين عائلاتهن ككل، وكثيرًا ما يحدث هذا لدعم تحالفٍ جديدٍ يقصد منه الوصول إلى علاقة نسب، وفي هذه الحالات تكون أم العريس هي التي تأخذ المبادرة داعية أم العروس أن تبرد طابونها وتوفر عليها الزبلات".


اقرأ/ي أيضًا: 

صور | البدّادة.. ما تبقى من الزيتون

زواج فلسطينيات وإنجابهن.. الماء وسيطًا

معصرة أحمد عيسى.. قرن ونيف من الحب