30-نوفمبر-2015

حدث في القدس 2015 (Getty)

يتحدث "العهد القديم"، أو الجزء اليهودي من "الكتاب المقدس"، عن صراع دموي كبير بين الإسرائيليين الذين يمثلون شعب الله المختار، وبين شعوب أخرى كثيرة في منطقة بلاد الشام آنذاك، مثل الآراميين في سوريا والمؤابيين والعمونيين في الأردن وغيرهم. 

تحضر شخصية الملك ديفيد في المخيال اليهودي والثقافة الغربية المسيحية عمومًا كمؤسس للدولة اليهودية الأولى

بالإضافة إلى ما بدا أنهم ألد أعداء "رب الجنود" وشعبه المختار، والمتمثل بالفلسطينيين، أو الفلستيين، في سواحل فلسطين واليبوسيين في القدس. وتحضر هنا شخصية الملك ديفيد في المخيال اليهودي والثقافة الغربية المسيحية عمومًا كمؤسس للدولة اليهودية الأولى ومملكة رب الجنود المولع بإصدار أوامر الإبادة بحق كل من اعترض طريق شعبه المختار، إذ كان يدعو في مناسبات عديدة لإبادة أطفال ونساء أعدائه، الذين هم بعض خلقه بالمناسبة، وحتى الحيوانات الوضيعة التي قادها حظها العاثر للعيش في حظائر الأغيار. 

كان ديفيد فتى أشقر والأصغر من بين إخوته، ويعمل في رعي أغنام أبيه على هامش من الحياة في أرض كنعان آنذاك، حتى أن أباه لم يذكره حينما جاء النبي صموئيل يبحث عن ضالته بين أبناء الرجل التلحمي، والذي أخبره الرب أنه سيكون ذا شأن كبير. تحول ديفيد بعد أن تمكن من قتل المحارب الفلسطيني جليات، إلى أسطورة جديدة لشعب الله المختار، وأصبح ديفيد اسماً على مسمى في أوساط الإسرائيليين، إذ يعني اسمه بالعبرية المحبوب، مما أوغر صدر شاول عليه فيما بعد، وكان ذلك بالطبع قبل أن يقبل شاول بتزويج ابنته لديفيد مقابل مهر قدره مئة غلفة فلسطينية، والغلفة لمن لا يعرف هي قطعة الجلد التي تُزال في عملية ختان الذكور، لكن ديفيد كان كريماً مع عمه المستقبلي فأحضر مئتي غلفة بعد أن قضى بالطبع على أصحابها من الفلسطينيين، وهو مشهد صورته السينما الهوليوودية بكيس قماش يقطر دمًا، ويشفي غليل الرب وأبنائه! 

استمرت نجاحات ديفيد المؤيد برب الجنود، فأذل اليبوسيين واستولى على أورسالم، لتصير أورشليم عاصمة مملكة الرب. وعلى الرغم من انشغاله في بعض الأحيان بمراقبة زوجات جنوده المغيّبين في حروب استدرار دم الفلسطينيين، وهن يستحممن على أسطح منزلهن، مما أودى به إلى مضاجعة إحداهن وتدبير أمر قتل زوجها ليواري فضيحة حملها بابن زناه بها، وعلى الرغم من قضائه بعض أوقاته في مداعبة قيثارته، إلا أن كل ذلك لم يمنعه على الإطلاق من الاستمرار في هوايته المفضلة، وهي تجميع قطع الغلفة من أعضاء الفلسطينيين! 

يبدو لافتًا استعمال كتاب ديني يعتبر مقدسًا لدى مليارات البشر، لصور دموية في القتل مع إيحاءات جنسية تنطوي على أبعاد نفسية سادية لدى القتلة، وهم من يقاتلون ويَقتلون باسم الرب للمفارقة! لن أكون متجنيًا على هذا الكتاب وأدعي أن صور الإجرام التي يزخر بها هي مصدر كل الجرائم في هذا العالم، إذ من الواضح أن شبّيحة نظام الأسد لم يقرؤوا سيرة الملك ديفيد المشرفة قبل قيامهم بقطع عضو الطفل حمزة الخطيب في درعا، ولكن مع ذلك، من السذاجة إغفال دور هذه النصوص في إذكاء حالة السعار في صفوف المستوطنين الإسرائيليين الجدد، والتي ازدادت بشكل فاضح في الآونة الأخيرة، وخاصة إن علمنا أن أكثر المستوطنين تزمتًا وتطرفًا دينيًا وقوميًا هم من يسعون بشدة إلى الاحتكاك بالفلسطينيين ومهاجمة بيوتهم ومزارعهم.

كما أنه لا داعي حقاً لقراءة كل نصوص الكتاب المقدس أو التلمود والنبش في تاريخ أدبيات الحركة الصهيونية للإقتناع بأنها تمثل أكثر ما عرفه البشر من عنصرية، بل يكفي في عصر السرعة أن تبحث عن مقال أو فيديو لجدعون ليفي، وهو صحفي إسرائيلي يكتب في صحيفة هآرتس، وهو يتحدث من دون رتوش عن نظرة الإسرائيليين لأنفسهم كشعب الله المختار وأنقى أعراق خلقه، ونظرتهم للفلسطينيين ككائنات لا ترقى لمستوى البشر، لتفهم عقلية أحفاد ديفيد وعقيدتهم الراسخة التي تستخدم لتبرير كل أنواع العذاب التي تُصب على رؤوس الفلسطينيين من جهة، وإذكاء روح التوحش لدى شعب الله المختار رغم أنها لا تخبو أبداً من جهة أخرى!

نعود إلى ديفيد، مؤسس مملكة الرب الذي تدفع "إسرائيل" اليوم أموالاً طائلة في جنبات القدس بحثاً عن قلعته المفقودة تارة، أو تابوت عهده المفقود تارة أخرى. لم ينسى أبناء إسرائيل الحديثة فضل ديفيد عليهم، فسموا أحد أهم فنادق "عاصمتهم الأبدية" على اسمه، رغم أنهم أفسدوا تلك البادرة الجميلة بإقامتهم للقاءات السياسية الهامة لقادتهم مع أصدقائهم من الأميركيين والأوروبيين -وهم غُلف بالمناسبة- أو حتى بعض "جيرانهم" الفلسطينيين، مما يعني أن عظام ديفيد لا تكاد تجد وقتاً لتستريح في مرقدها بين كل زيارة وأخرى من أغلف أو فلسطيني، وهما ضلعا عقدته الفرويدية المستعصية!

من المعروف أن الإتحاد الأوروبي قد موّل قبل سنوات مشاريع "فلسطنة" المناهج الدراسية بالكامل، وذلك حرصاً منه على إزالة كل بذور "التحريض" من رؤوس الأجيال الفلسطينية الجديدة، وذلك كجزء مهم من "عملية السلام". في المقابل، لا يبدو أن مبدأ إيقاف التحريض هذا يسري على الجانب الآخر، ولا يبدو أن ثمّة دعوات من أي جهة لتنقية "التراث" الإسرائيلي من كل مسببات العنف الدموي، بالتوازي مثلاً مع دعوات بعض المثقفين العرب المتكررة لنبش التراث الإسلامي وتنقيته من بذور "التطرف"، كيف لا ومثل هذه النصوص التي تدعو لقتل الفلسطيني بأبشع الصور، تجد مكاناً رحباً لها في ثقافة الإسرائيلي سواء أكان متديناً أو علمانياً، فمن دون أدنى مبالغة، يحرص الساسة الإسرائيليون في كل مناسبة على تأكيد أن صراعهم مع الفلسطينيين مرتبط بالتاريخ، وأن ما تشهده أرض "يهودا والسامرة" هو مجرد امتداد لمطاردة ديفيد للفلسطينيين في جبال "شكيم".

هم لا يقولون ذلك بشكل مباشر بالتأكيد، لكن ماذا يعني لك تكرار نتنياهو -ذي الأصول البولندية- لمقولة أن الشعب اليهودي قد عاش في أرضه منذ ثلاثة آلاف سنة! كيف لنا أن نفهم محاولات السياسة الإسرائيلية لإستدعاء الزمان والمكان التوراتيين في كل شيء من أسماء حملاتهم العسكرية على غزة، والتي تمثل في الوعي التوراتي اللعنة المستعصية منذ أيام شمشون الجبار، مروراً باستلهام أسماء أسلحتها من عناصر توراتية مثل مقلاع ديفيد الذي قتل به جليات، إلى اللافتات التوضيحية التي تملأ جنبات الضفة الغربية؟ بالإضافة إلى هذا، كيف لنا أن نضمن أن يفّرق أميركي أبيض يملك حق الإنتخاب، ويعيش على أطراف "حزام الكتاب المقدس" في الولايات المتحدة، ولا يتجاوز معدل ذكائه وثقافته مثيليهما عند جورج بوش الإبن، ويتبنى عقيدة بروتستانتية حلولية لا تكاد تميز بين الرب وشعبه المختار، كيف لنا أن نضمن تفرقته بين فلسطينيي اليوم وبين أعداء الفتى اللعوب الأشقر ديفيد؟! 

لا عتب عندي على رب الجنود العنصري الذي لا يعرف معنى الربوبية التي تعني الحنو والرأفة بجميع خلقه، ولا على شعبه المختار أبداً، لكني أتساءل فقط عن "غفلة" القيادة الفلسطينية، والتي تحرص دائماً على التحذير من تحويل "الخلاف السياسي" إلى صراع ديني، وتتباهى على الدوام بخلفيتها العلمانية، عن تخاذلها خلال مفاوضاتها العتيدة عن المطالبة بتصفية ثقافة "جيراننا" الإسرائيليين من كل ما يدعو للفتك بالفلسطيني، بدل انشغالها في رسم خارطة أكبر "أورشاليم" في التاريخ كما ظهر من قبل، ولكن يبدو أن ثمة تفضيلًا للتماهي أكثر مع رغبات ونزوات "جيراننا الإسرائيليين" مهما بدا ذلك صعباً، وأن الإستراتيجية المعلنة كانت وستظل تجنب كل ما "يثير" الإسرائيلي، بما في ذلك الأعضاء الذكرية الغلفاء!

فرغم أن حصول "شعب الجبارين" على مسمى دولة غير عضو في الأمم المتحدة كان مدعاة لسخرية النشطاء والمتابعين آنذاك، إلا أني لا أرى مانعاً من الإعتقاد بأن الأمر كان مدبراً بعناية ومدروساً بحنكة سياسية وتفاوضية نادرة، فكما كان ديفيد كريماً مع عمه وجلب له مئتي غلفة فلسطينية بدلاً من مئة، فقد أُريد بنا، نظراً للتداخل اللغوي في كلمة عضو، أن نراعي عقدة "جيراننا" المتأصلة من الأغلف الفلسطيني، فسعينا لأن تكون دولتنا الفلسطينية من دون عضو أصلاً بدل أن تكون مختونة فحسب! 

يحرص الإسرائيليون على التأكيد أن صراعهم مع الفلسطينيين مرتبط بالتاريخ، وأنه امتداد لمطاردة ديفيد لجالوت

أما الفلسطيني، فيبدو أن قدره يحتمّ عليه إلى الآن أن يبقى جسده مستباحاً من قبل الإسرائيلي، فرغم أن فلسطينيي اليوم ليسوا غلفاً على الأغلب، فقد وجد الإسرائيلي ضالته في أعضاء أخرى، يستخدمها -على قذارتها بدم الأغيار- ليستبدلها بالأعضاء التالفة لبعض الإسرائيليين، حيناً عن طريق فلسطيني مدفوع "بتسامح" أحمق كالأب الذي تبرع للإسرائيليين بأعضاء ابنه الذي قتله جنود الرب في جنين، مقدماً سيناريو مثالياً لفيلم مخرج سينمائي ألماني لا يزال يتطهر من دنس الهولوكوست بالترويج للتطبيع بين المتخاصمين من "أبناء العمومة"، أو في غالب الأحيان باستئصال أعضاء الشهداء الفلسطينيين الذين تحتجز "إسرائيل" أجسادهم كعقاب لهم وﻷهاليهم المستفرد بهم، بينما يحتفل آخرون بانتصارات سياسية لا يزيد تأثيرها في واقع الفلسطينيين عن تأثره بظهور تجعدات تشبه الرقم 194 على عضو مولود ذكر جديد في إحدى قرى رام الله التي يُغير عليها المستوطنون كلّما رغبوا بذلك! 

يبقى أن نقول أنه ما دام لدينٍ ما أقل مساهمة ممكنة في تبرير وبناء الأسطورة الوطنية والقومية والإخلاقية لقيام دولة "إسرائيل"، وذلك بحرف مسار خطة اللعين "هرتزل" من الأرجنتين وأوغندا إلى فلسطين، فإن من حق من يعتقد بذلك من الفلسطينيين أن يستحضر ديناً آخر في هذه المواجهة متى رأى ذلك في صالح قضيته، بل ومن حقه أن يعتقد ألا حل لتلك القضية إلا عن طريق هذا الدين، بما أنه كانت لدين آخر مساهمة واضحة في بدء مأساته ونكبته المستمرة منذ ما يربو على 67 عاماً، وإن أزعج ذلك "الجيران" أو قطع التمويل! 

ملاحظات:

1- الأسماء التوراتية المذكورة ذكرت بهذا الشكل عن قصد، وإن طالها بعضُ تعريب فهي لا تزال مأخوذة من النسخة العربية للكتاب المقدس عند المؤمنين به. من المهم التأكيد أيضاً أن الشخصيات المذكورة وعلى رأسها رب الجنود، لا علاقة لها على الإطلاق بإله الكون أو أي من أنبيائه، بل هي مجرد شخصيات ناتجة عن المخيلة المريضة للطبقة الدينية الفاسدة في جماعة أدمنت العبودية والاستلاب قديماً من مصر إلى بابل. 

2- تشارك كلمة "غفلة" الواردة في النص لمرة واحدة في كل حروفها مع كلمة أخرى مجرد مصادفة لعينة.

3- ما يبدو للوهلة الأولى تسطيحاً واختزالاً هو أعمق بكثير مما يظن الظان، فوجب التنويه.
 

اقرأ/ي أيضًا:

ما بعد إسرائيل.. معيارية اسبارطة الصهيونية

مَن للأقصى؟