مرّت شهور الحمل التسعة على الفلسطينية ميساء حسين بطيئة وثقيلة ومؤلمة، حتى وضعت توأمها أيمن وغزل قبل ثلاثة أسابيع، غير أن معاناتها لم تتوقف، وتعيش فصلاً جديدًا ومغايرًا من الآلام داخل مركز إيواء بمدرسة غرب مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة.
هذه الأم في العقد الثالث من عمرها، وتعيل مع توأمها طفلين آخرين، وتمثل نموذجًا مؤلمًا لما تواجهه الأمهات الحوامل في القطاع، اللواتي يخضن تجربة قاسية من الحمل والولادة في ظلّ الحرب الإسرائيلية المستعرة للعام الثاني على التوالي، والمتزامنة مع حصار حاد ومنع الاحتلال مقومات الحياة الأساسية عن أكثر من مليوني فلسطيني في جنوب القطاع وشماله على حد سواء.
أكثر من 17 ألف امرأة حامل على حافة المجاعة في غزة، بينما تعيش 11 ألف امرأة حامل بالفعل في ظروف تشبه ظروف المجاعة
وكونها مصابة بسرطان الثدي، فإن تجربة ميساء مع الحمل والولادة كانت أكثر قسوة، وتقول لـ "الترا فلسطين": "توقفت عن متابعة حالتي الصحية وعن تناول أيّ أدوية أو علاجات لها علاقة بالسرطان بسبب الحمل، وكانت شهور حملي صعبة وقاسية".
وعلى خلاف ما تحتاجه المرأة الحامل من راحة وتغذية ورعاية طبية فإن ميساء، 30 عامًا، اضطرت لخوض تجربة النزوح مرة أخرى عندما أُجبرت مع زوجها وأطفالها على مغادرة مدينة رفح عشية الاجتياح البري الإسرائيلي للمدينة في أيار\مايو الماضي.
ونزحت ميساء وأسرتها لأول مرة من شمال القطاع إلى جنوبه مع بدايات اندلاع الحرب عقب هجوم 7 تشرين الأول\أكتوبر من العام الماضي، ونالت نصيبها من هذه الحرب، بالدمار والتشرّد وإصابة زوجها، وبالحرمان من العلاج من سرطان الثدي.
مرض وحمل ونزوح
انقضت شهور الحمل بأوجاعها ووضعت ميساء توأمها، وتجددت المعاناة مع احتياجات أطفالها، وتقول: "زوجي جريح وساقه مكسورة وليس لنا دخل مادي نستطيع به تدبر شؤون حياتنا في ظلّ هذا الواقع المأساوي من الحرب والحصار وغلاء الأسعار".
وتعيش ميساء مع أسرتها في غرفة تفتقر لأبسط المقومات، حيث القليل من الأغطية ومستلزمات المطبخ، وبينما كانت تحتضن توأمها تساءلت وهو تجول ببصرها في أرجاء الغرفة: "هل هذه حياة؟"، ثم تابعت وهي تشكو من عدم توفر الطعام المناسب لها كامرأة ولدت حديثًا وأيضًا كمصابة بالسرطان.
وقبل اندلاع الحرب بشهور قليلة اكتشفت ميساء إصابتها بسرطان الثدي، وبسبب تداعيات الحرب والنزوح المتكرر وخروج مستشفى الصداقة الفلسطيني التركي عن الخدمة وهي الوحيدة لمتابعة مرضى السرطان في القطاع، حرمت هذه المرأة ونحو 10 آلاف مريض ومريضة من المتابعة والعلاج.
وجرّاء ذلك لا تستطيع ميساء ممارسة الرضاعة الطبيعية، وتعتمد كليًا على الحليب الصناعي وتشكو من ارتفاع أسعار العلبة منه وتبلغ 100 شيكل فيما كانت قبل الحرب حوالي 35 شيكل، وتقول إن العلبة تكفي توأمها يومين فقط.
وعلاوة على ذلك يحتاج هذا التوأم لحفاضات وتعرف شعبيًا بـ "البامبرز"، وقد ارتفعت أسعارها عما كانت عليه قبل الحرب، وتقول ميساء إن الحفاضة الواحدة تباع بأكثر من 10 شواكل، وليست متوفرة باستمرار، وتساءلت: "من أين أوفر كل هذه المبالغ ونحن أسرة بسيطة ونازحة؟".
ورغم معرفتها بالأضرار الصحية لها تضطر هذه الأم لاستخدام قطعًا من القماش بدلًا عن الحفاضات، وتقول إنها تتسبب بالالتهابات لطفليها حديثي الولادة.
وفي هذه الأثناء تعيش ميساء قلقًا مضاعفًا وخوفًا على أطفالها لو حصل لها أيّ مكروه سواء بسبب الحرب أو السرطان، وتشير إلى أنه جرى تحويلها من مجمع ناصر الطبي لمستشفى غزة الأوروبي لإجراء الفحوص اللازمة الخاصة بالسرطان، علاوة على إصابتها خلال الحرب بالضغط، وضعف الدم نتيجة سوء التغذية.
ولادة مبكرة
وبعد مكوثها لنحو أسبوع في المستشفى، وضعت العشرينية دنيا الأسطل مولودتها "حياة" في غير موعدها، وتقول لـ "الترا فلسطين" إن هذه هي تجربة الحمل والولادة الأولى لها، وقد وضعت ابنتها البكر في الشهر الثامن من الحمل، وفسر الأطباء ذلك بأن "الولادة المبكرة حاليا في غزة سببها تداعيات الحرب والحصار وسوء التغذية".
ورغم أن دنيا، 20 عامًا، بالأساس من سكان منطقة المواصي غرب مدينة خانيونس، ولم تخض تجربة النزوح، إلا أنها عانت من ويلات الحرب والحصار، وتقول: "قضيت أول حمل لي في أجواء من الرعب والخوف، وأصوات الطائرات والقصف لا تتوقف، وكذلك مجاعة حقيقية حيث لا تتوفر الأطعمة الصحية والفواكه التي تحتاجها المرأة الحامل".
وتتساءل هذه المرأة: "كيف ستكون حياة امرأة تحمل لأول مرة بدون أكل وشرب، وفي ظلّ أخبار مأساوية ويومية عن الموت والدمار؟".
يقول بهاء المجايدة إنه كان يتمنى أن يرزق بمولوده الأول في ظروف أفضل من هذه الظروف، ويكون بمقدوره أن يوفر لزوجته وابنته الطعام الصحي المناسب
وتذكرت دنيا مآسي الحصول على وسيلة مواصلات للوصول إلى الطبيب المعالج أو للمستشفى، وتقول إنها لن تنسى لبقية حياتها تلك الليلة التي دهمتها آلام المخاض عند الساعة الواحدة ليلاً، وكانت ليلة مرعبة وأصوات الزنانة مخيفة جدًا، وتضيف: "أقلتني سيارة إسعاف للمستشفى ووضعت ابنتي قبل الموعد المفترض للولادة".
ويقول زوج دنيا، بهاء المجايدة، 22 عامًا، إنه كان يتمنى أن يرزق بمولوده الأول في ظروف أفضل من هذه الظروف، ويكون بمقدوره أن يوفر لزوجته وابنته الطعام الصحي المناسب.
ويعمل بهاء كعامل بأجرة يومية تتراوح بين 20 إلى 30 شيكل، ويشعر بالضيق الشديد من عدم قدرته على توفير الاحتياجات الأساسية سواء لزوجته التي تحتاج للغذاء بعد الولادة المبكرة، أو لابنته التي جاءت للدنيا مبكرًا وفي ظروف قاسية ووزنها ضعيف بسبب سوء التغذية خلال فترة الحمل.
ويقول الزوج بنبرة غضب إن وعاء صغير من شوربة الخضار كلفه حوالي 50 شيكلا، وخلال الأسبوع الذي مكثته زوجته في المستشفى كان يحتاج يوميًا لمواصلات من المواصي وحتى مجمع ناصر الطبي حوالي 30 شيكلا، فيما كانت قبل الحرب لا تزيد عن 4 شواكل، وقد اضطر إلى الاقتراض من الأقارب والأصدقاء.
ولادة الحرب والحصار
وتعيش ألفت عاشور، 38 عامًا، على المحاليل الطبية، واضطر الأطباء في مجمع ناصر الطبي لمنحها وحدتين من الدم، بسبب الأنيميا والهبوط الحاد في دمها ووصل إلى 6 درجات فقط، بعد ولادة ابنها "آدم" قبل بضعة أيام، وتقول لـ "الترا فلسطين" إن هذه ولادتها الثالثة ولكنها الأصعب في ظلّ الحرب والحصار والنزوح.
ألفت من مدينة رفح وتقيم في خيمة بمنطقة مواصي خانيونس، وهي أم لثلاثة أطفال، وزوجها عاطل عن العمل، وليس للأسرة من دخل تعتاش منه، وعانت خلال شهور الحمل من ظروف بائسة جرّاء برد الخيمة وسوء التغذية.
ووفرت ألفت بعض قطع الملابس للمولود من بسطات الملابس المستعملة "البالة"، حيث تعصف بالغزيين أزمة ملابس حادة، جرّاء منع الاحتلال إدخال الملابس للقطاع من خلال معبر كرم أبو سالم التجاري الوحيد، فيما لا يزال يحتلّ ويغلق معبر رفح البري بين القطاع ومصر.
وإلى جانب ألفت كانت تجلس سلفتها (زوجة شقيق زوجها) مها عاشور وهي أم لستة أطفال، وتقول لـ "الترا فلسطين" إن اثنين منهما يعانيان من فقر الدم بسبب سوء التغذية، وحتى الخبز لم يعد الحصول عليها سهلًا، ومنذ أكثر من شهر لا يتوفر لديها الطحين.
وتقول إنها وجدت نفسها مجبرة على إلغاء وجبة الإفطار، وتتناول وزوجها وأطفالها وجبة الغداء سواء من التكية الخيرية، أو التي تعدها بنفسها من المعلبات، بالملاعق فقط لعدم توفر الطحين، وارتفاع أسعار الخبز بشكل كبير ولا تقوى على شرائه.
والشهر الماضي، حذر ممثل صندوق الأمم المتحدة للسكان في فلسطين نيستور أوموهانغي، من أن أكثر من 17 ألف امرأة حامل على حافة المجاعة، بينما تعيش 11 ألف امرأة حامل بالفعل في ظروف تشبه ظروف المجاعة.
وقال المسؤول الأممي، عقب زيارة للقطاع استمرت 8 أيام ورأى خلالها بنفسه الظروف المزرية التي تواجه النساء خاصة الحوامل منهن، إن سوء التغذية والقلق يعوقان الرضاعة الطبيعية لثلاثة أرباع الأمهات الجدد، في وقت لا يتوفر فيه حليب الأطفال.
وعلى الموقع الالكتروني الرسمي للصندوق تحدث أوموهانغي بالتفصيل عن تفاقم محنة النساء الحوامل، حيث توجد 49 ألف امرأة حامل، ومن المتوقع أن تلد 4 آلاف منهن قريبًا. وقد فاقمت ندرة الرعاية قبل الولادة وبعدها مخاطر الإجهاض والوفيات أثناء الولادة.
وبحسب منظمة الأمم المتحدة للأمومة والطفولة (اليونيسيف)، "يحتاج ما لا يقل عن 6 آلاف طفل حديث الولادة إلى رعاية مركزة في قطاع غزة كل عام. ولكن العدد الحقيقي قد يكون أعلى، حيث يخبرنا الأطباء أن نسبة الأطفال الذين يولدون قبل أوانهم أو يعانون من سوء التغذية أو مشاكل في النمو ومضاعفات صحية أخرى قد ارتفعت مع تأثير الحرب على نمو أجنتهم وولادتهم ورعايتهم".
و"نظرًا لعدم السماح للمساعدات والإمدادات التجارية بالدخول على نطاق واسع، وعدم تدفقها إلى كل من يحتاج إليها في جميع أنحاء قطاع غزة، فإن الأمهات الحوامل والمرضعات يفتقرن بشدة إلى الطعام المغذي الكافي، مما يؤدي إلى زيادة حالات الولادة المبكرة"، وفقًا للهيئة الأممية.