ذاكرة وطنية

اليوم في غزة: نهارٌ مقتول وليلٌ من ألم!

11 فبراير 2025
233322323.jpg
اليوم في غزة: نهارٌ مقتول وليلٌ من ألم!
رانية عطا الله
رانية عطا الله

مع استمرار العدوان والحصار، يعيش سكان قطاع غزة أيامًا تُختزل في صراعٍ يومي للبقاء. الليل لكلّ شيء إلّا الراحة، وهو امتدادٌ للرعب والخوف والظلام، ولاستقبال البرد القارس، ومياه الصرف الصحي التي تغمر الخيام، وفي النّهار معارك لا تنتهي من طابور الماء إلى طابور الخبز.

طوابير موت، وكذلك طوابير حياة، كل شيء في غزة صار يستدعي طابورًا طويلًا؛ طابور مياه، طابور خبز، طابور أمام تكيّة الطعام، طابور لشحن الجوال.. كيف تنهش الحرب حياة مليوني إنسان؟

تستيقظُ هناء صبح (47 عامًا) منذ الصباح الباكر لتُلملم "الزفتة" من أحد المباني القريبة لإشعال النار وإعداد الإفطار لأفراد عائلتها العشرة، على بوابة خيمتها بمخيم "قربان" غرب مدينة غزة، فيما تُرسل ابنتها الأصغر إلى أحد المخابز الباقية في المدينة، لإحضار "ربطة خبز" بعد أن تصطفّ لنحو 4 ساعات أمام طابور المخبز.

يضيق وقت "هناء"، فمن معاناة تجهيز الإفطار، إلى تنظيف الخيمة، ومن ثم الالتحاق بطوابير شاحنات المياه الإغاثية وبعدها إلى تكايا الطعام حيث تنتظر حتى تملأ إناءها، فعائلتها تتناول وجبة الغذاء بعد الظهر وفقًا لموعد التكية، ومن ثم إلى تنظيف الأواني.

تقول إنّها تمضي الـ 24 ساعة من يومها بالركض من المياه إلى التكية وحتى التنظيف بأقصى سرعة، ويوم الغسيل يستغرق النّهار، و"لو اشتهت نفسك أكلة معيّنة ستحتاجين نهارًا آخر".

وتضيف: "عندي براد النار ويجب عليّ أن أنزع منه السواد حتى استخدمه لشرب المياه. وبعد جلي الأواني يأتي دور استحمام أطفالي وغسل ملابسهم"، لتنتهي هي بعد ذلك "بظهر مهدود من مسح الخيمة"، كما تقول.

بينما لا تنام الليل من ألم جرحه غير الملتئم، يأكل عمل الخيام نهار هناء صبح (47 عامًا)، كما ترهقها هواجس الليل.
بينما لا تنام الليل من ألم جرح غير ملتئم، يأكل عمل الخيام نهار هناء صبح (الترا فلسطين)

وتشير هناء إلى دور غياب وسائل المواصلات في ابتلاع يومها في حالة اضطرارها للخروج "اليوم الذي أخرج فيه من الخيمة ألغي كل مشاغلي، خروجي للحصول على طرد غذائي معيّن نيابة عن زوجي المريض يأخذ وقتي بالمشي، ويأكل من صحتي، فأنا مصابة بقدمي، عدا عن تعب الطرق المهدّمة".

تقول إنّها تحرص على استقبال الليل بنوم أطفالها مبكرًا خوفًا من تصاعد الأحداث، وترى أنّ "الليل قاتل أكثر من النهار" فهي تختنق من الأماكن المغلقة ولا تستطيع النوم من التفكير، وبسبب آلام جرحها غير الملتئم، ويصير أكبر طموحها الحصول على المهدئات كي تنام، وتضطر أحيانًا للجلوس على باب الخيمة بانتظار أن "يطلع النهار".

هناء: الليل قاتل أكثر من النهار.. أختنق من الأماكن المغلقة ولا أستطيع النوم من التفكير ومن آلام جرحي غير الملتئم

ومع أنّ وقف إطلاق النار ما يزال ساريًا حتى الآن، إلّا أن الأم هناء ما تزال تتخوّف من مباغتة الصواريخ ليلًا، أو من اضطرار أبنائها لقضاء حاجتهم، وتقول إنّها تحسب "ألف حساب لشظايا الصواريخ واحتمالية احتراق الخيمة".

وفي مثل هذه الأجواء الماطرة، الليل والنهار بالنسبة لها يتساويان في القسوة، ففي الجو الماطر، الحياة صعبة في الخيام. الأغطية تتبلل غالبًا، والغسيل لا يجفّ، وليس هناك ما يكفي من الملابس من الأساس، ومن يمرض يصيب بالعدوى بقيّة أفراد العائلة. وتقول إنّها تطمح للعودة إلى حياتها لتجتمع وجاراتها حول أكواب "النسكافيه" في حديقة منزلها في بيت لاهيا أقصى شماليّ القطاع.

أما حسن أبو وردة (71 عامًا) والذي نزح من مدينة جباليا إلى مخيّم ملعب اليرموك غرب غزة فلا يسيطر على نهاره إلا الحسرة، كما يعيش في دوامة تفكير لا يتوقف. ويقول: "طول نهاري صافن، قاعد لا شغلة ولا عملة، ولا فلوس ولما أساعد أنقل فقط 4 لتر من المياه الإغاثية، ولا أشعر سوى بالعجز والبرد والخوف والجوع والإهانة، ليس نهاري المقتول فقط، أنا نفسي هلكت من الحال الذي وصلت له".

وبينما ترافق الشمس أبو وردة في جلسته وسط شارع الملعب من الشروق حتى المغيب، يحاول التجوّل بين أزقة المخيم هربًا من حالته، وفي ذلك يقول: "خلال نهاري أحيانًا أحرّك جسمي وأجمع نفايات المخيم للنار، وأحيانًا أُلملم فتات الخبز الذي يرميه أطفال المخيم وأجففه لاستخدامه في الإشعال".

حسن أبو وردة: كل دقيقة أموت 100 مرة نفسيًا وجسديًا.. فقدت 70 كيلوغرامًا من وزني، ولم يبقَ لي سوى جمع فتات الخبز

ويضيف: "نحن محاصرين حتّى في لقمتنا، العين بصيرة واليد قصيرة، واليوم الذي يمر بلا [طعام] تكية نبيت بلا عشاء، وإذا لم تأتِ الشاحنة الإغاثية نشرب المياه المالحة"، ويلفت إلى أنه في كل دقيقة يموت 100 مرة نفسيًا وجسديًا.

يحاول أبو وردة تجنّب الخروج من المخيم بسبب ارتفاع تكلفة المواصلات وضعف حركته. وفي الليل تتكاثر عليه الهموم. يقول إنّ الشعور بالإهانة يكبّله، عدا عن معاناته من البرد، وتفجّر مياه الصرف الصحي بين أزقة المخيم.

على هذه الهيئة يقضي حسن أبو وردة (71 عامًا) نهاره مع الكثير من الفكر والحسرة بعد نزوحه من جباليا إلى مخيم اليرموك غرب غزة
يقضي حسن أبو وردة (71 عامًا) نهاره مع الكثير من الفكر والحسرة بعد نزوحه من جباليا إلى مخيم اليرموك غرب غزة

وفي حي الدرج شمال قطاع غزة يقضي الصحفي أحمد قنن (28 عامًا) نهاره في البحث عن نقاط الطاقة البديلة لشحن هاتفه من أجل إتمام عمله في التغطية الإعلامية والتواصل. كما يشحن "كشافات" المنزل لمجابهة عتمة الليل بمنزله، قائلًا "بشق الأنفس نستطيع شحن أجهزتنا الذكية؛ لممارسة عملنا الصحافي عبر الهاتف".

وبينما يصف قنن طوابير المياه والطعام الإغاثي بـ "طوابير الموت"، يشارك الناس منذ بداية الحرب، الانتظار والخوف والجوع، عدا عن مساعدته لأهله في إشعال مواقد الطهي وتسخين مياه الاستحمام.

الصحفي أحمد قنن: طوابير المياه طوابير موت.. أشحن هاتفي بشق الأنفس لأغطي الحرب، بينما أخشى أن أُقتل وأنا أبحث عن قصة

يقول قنن: "النهار ضيّق لدرجة أن أتعب من محاولة توفير شبه الطعام، كما أن تكاليف العمل الصحفي تلاحقني على رأس كل ساعة عدا عن البحث عن قصص الإنسان المشرّد وسط الخطر".

ويضيف: "الوسيلة الوحيدة للتنقل في الحرب هي الدراجة الهوائية أو المشي لإنجاز المهام وسط طرق وعرة، ونعيش على أمل أن نقضي ولو مهمة عمل واحدة بسرعة"، لافتًا أن ذلك يكلفه جهدًا بدنيًا وعقليًا ونفسيًا مضاعفًا.

وينوّه الصحافي قنن إلى دور أخبار الفقد في تعطيل مهامه العملية والمنزلية، ويوضح أن جدولة المهام في الحرب مهمّة يصعب الحديث عنها؛ لأن للحرب تكاليف تفوق المستحيل.

ويقول إنّه يكره ليل غزة بقدر خوفه من تبخر جثمانه دون أن يودعه أحد، لافتًا أنه يتوق إلى عشاء عائلي لا شتات فيه، كما يشتاق للذهاب للعمل بأمان.

وبالاتجاه إلى مدينة خانيونس جنوب القطاع، يؤكد الشاب جواد العقاد (26 عامًا) على محاولته الهروب من الحرب عبر نافذة الشعر، كما أنه يستمر في توثيق أحداث الإبادة بالكتابة.

ويوضح جواد العقاد أنّ الخوف وتأمين الماء والطعام وجمع الحطب باتوا ضمن روتينه اليومي "أحيانًا يأتي العمل في الصحافة أو الكتابة متأخرًا، لأن تأمين الاحتياجات يشغل معظم وقتي، وأحيانًا أضطر للتخلي عن بعض المهام لأمنح عائلتي الأولوية لاسيما وأن عبء التفكير في كل لحظة يثقل على الروح".

جواد العقاد(26 عامًا)
جواد العقاد خلال محاولاته إتمام مهامه العملية رغم انقلاب روتينه اليومي واحتراق نهاره بين طوابير الانتظار

ويشير العقاد إلى التسوّق كمغامرة مرهقة نفسيًا وجسديًا في ظل ارتفاع الأسعار وندرة البدائل، مضيفًا أن "النهار بات يحمل ثقلًا لم نعتده، وضيق الوقت والشعور بالاستعجال يزيد من الضغط، وكثيرًا ما يتحول الوقت إلى عدو"، كما أن الليل، الذي كان يُعد وقتًا للراحة، أصبح مرعبًا ومليئًا بالهواجس.

وبات جواد ينتظر ساعات الليل المتأخرة للعمل بعد أن يخلد الجميع للنوم، مؤكدًا أن المشاعر مزدحمة بالخوف والألم، وأنه يتمنى أن يعود الهدوء ليومه؛ ليأخذ قسطًا من الراحة بلا شعور بالذنب.

جواد العقاد: النهار يحمل ثقلًا لم نعتده.. الوقت تحوّل إلى عدو، والكتابة صارت هروبًا من واقعٍ ينهش الروح

من جانبها تؤكّد آلاء حلس (25 عامًا) على قسوة نهار الحرب الذي تبدأه منذ الصباح بالذهاب إلى إحدى الخيام التي تم تحويلها إلى صيدلية خاصة في منطقة مواصي خانيونس جنوب القطاع.

وتؤكد أنها تقضي معظم وقتها في الصيدلية بين خدمة الناس وعواصف التفكير، وفي ذلك تقول: "أشعر كأني أعيش كابوسًا طوال الوقت، وخلال دوامي أسأل نفسي: لماذا أنا هُنا، لماذا أعمل في خيمة؟! وبعد أن ينتهي عملها عند الرابعة مساءً تقريبًا، تعود وتتناول الغداء مع عائلتها في خيمتها، وأحيانًا تستسلم للتفكير والبكاء".

آلاء حلس: أعيش في كابوس.. الخيمة غارقة بمياه المجاري، والنوم مستحيل.. أحيانًا أتمنى أن أستيقظ لأجد كل هذا حلمًا

أما عن الليل، فقد أكدت حلس أن ليل المخيم يأتي باكرًا حيث ينام الجميع قرابة الساعة السابعة، مضيفةً "الكل ينام إلا أنا، أجلس على هاتفي، أُقلّب صور الماضي وأبكي ولا أصدق أني أعيش وأنام في خيمة بالعراء، اختنق، تجتاحني نوبة بكاء مع تفكير لا يتوقف، وأظل على هذه الحالة حتى يغلبني النعاس قرابة الساعة 12 ليلًا وأحيانًا فيما بعد".

آلاء حلس تعمل الآن في صيدلية بخيمة بمنطقة مواصي خانيونس
آلاء حلس تعمل الآن في صيدلية بخيمة بمنطقة مواصي خانيونس

وتشير آلاء إلى قسوة هذه الأيام في المخيّم، حيث يسكن النهار والليل هواجس مرعبة، أبرزها الخوف والجوع، بينما يموت بعض سكان المخيم من قسوة البرد.

وتضيف: "تبهدل حالنا، دخلت على خيمنا مياه المجاري، أشعر أني أعيش في مستنقع من القرف، لا أستطيع المشي ولا الجلوس ولا النوم".

 

الكلمات المفتاحية

انتشال شهداء

أمٌّ غزية تتابع انتشال جثمان نجلها الشهيد من مستشفى كمال عدوان

حصيلة الشهداء الذين سقطوا خلال العدوان الإسرائيلي منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ولم تصل إلى المستشفيات، وبقيت تحت الركام أو في الطرقات، وصلت إلى 14222


عبد الناصر عيسى.jpg

أصرّ الاحتلال على استثنائه من صفقة شاليط.. من هو الأسير عبد الناصر عيسى؟

يُعد الأسير عبد الناصر عيسى من أبرز الأسماء التي سيفرج عنها الاحتلال في صفقة التبادل يوم السبت المقبل


إياد حريبات.jpg

ذاق الويل في السجون.. الأسير إياد حريبات يتحرّر اليوم ضمن صفقة التبادل

من بين 369 أسيرًا، يتحررون ضمن دفعة السادسة من صفقة التبادل، ينتظر الأسير المريض إياد حريبات، اليوم السبت، موعدًا طال انتظاره مع الحريّة. 


مركبة تابعة لوحدة الظل.jpg

كيف نجحت "وحدة الظل" في تأمين الأسرى الإسرائيليين؟

"وحدة الظل" كانت تتلقى تعليماتٍ على مدار الساعة لنقل الأسرى من مكانٍ إلى آخر

رمضان بلا مساجد في غزة
تقارير

صور | رمضان في غزة بلا مساجد

استهدفت صواريخ الاحتلال المساجد في قطاع غزة بشكل مباشر، بما في ذلك قصفها على رؤوس المصلين، وتعرضت مساجد أثرية، مثل المسجد العمري الكبير، للتدمير، ووثّق جنود الاحتلال بهواتفهم إحراق المصاحف وتدنيس المساجد

رونين بار وبنيامين نتنياهو
أخبار

المحكمة العليا الإسرائيليّة تجمّد قرار إقالة رئيس الشاباك مؤقتًا

أصدرت العليا الإسرائيلية أمرًا مؤقتًا بتجميد قرار إقالة رئيس جهاز الشاباك، رونين بار، بعد تقديم التماسات من المعارضة وجمعيات مدنية، وقد منعت المحكمة تعيين بديل له حتى النظر في الالتماسات


القاضي المتقاعد أهارون باراك، الرئيس الأسبق للمحكمة الإسرائيلية العليا
راصد

الرئيس الأسبق للمحكمة العليا: "إسرائيل" على حافة الحرب الأهلية

حذر القاضي أهارون باراك من خطر انزلاق إسرائيل نحو حرب أهلية بسبب التوترات الداخلية المتفاقمة، ودعا إلى التهدئة والتفاوض لتجنّب العنف، منتقدًا محاولات إقالة مسؤولين كبار

نتنياهو طلب تدمير غزة
أخبار

بعد 48 ساعة من بداية العدوان.. نتنياهو طلب تدمير المنازل وقصف كل غزة

كشف الصحفي الإسرائيلي، ناحوم برنياع، عن حوار بين رئيس أركان جيش الاحتلال السابق، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، طالب خلاله نتنياهو في تدمير قطاع غزة

الأكثر قراءة

1
قول

الأرض مقابل الاستسلام.. نتنياهو مبشرًا بـ"الشرق الأوسط الجديد"


2
راصد

خبراء إسرائيليون: الحرب لن تعيد الأسرى واستئنافها دوافعه سياسية


3
راصد

نتنياهو انتهك وقف النار ودفع ترامب للتنازل عنه.. انقسامات في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية