06-يناير-2017

"لقد وجدتُ بيوت العرب نظيفة للغاية لكن شوارعهم ليست كذلك"، هذا ما قاله الكاتب والصحفي البريطاني روبرت فيسك عقب زيارته الأولى لبعض الدول العربية عام 1976. فيسك رأى أنّ السبب في هذا التناقض يعود إلى أن العرب يشعرون أنهم يمتلكون بيوتهم، ولكنهم لا يمتلكون أوطانهم. فهل وراء كل شوارع نظيفة، مواطنون يشعرون بامتلاكهم لأوطانهم؟ ثم ماذا يعني أن يمتلك الإنسان وطنه؟ وكيف يمكن لهذا الشعور أن يتحوّل إلى سلوك يوميّ تلقائي كأن يحتفظ الشخص بعلبة عصير فارغة في يده إلى حين يجد سلة نفايات، مهما طال به الأمر؟

في مقابل الهوس العام لدى العرب فيما يتعلق بنظافة البيوت، الذي قد يصل إلى حد أن يُطلّق الرجل زوجته، أو يضربها، أو يخبرها برغبته الزواج من أخرى، إذا لم يجد بيته نظيفًا أو مُرتبًا. فإن الشوارع والمرافق العامة عادة ما تكون مليئة بالنفايات. وإن كانت المنطقة غير ذلك فإن مسببات نظافتها تُعزى لكونها منطقة تسكنها عائلات من نخبة معينة، وأنّها تحظى بعناية خاصة من حيث الإشراف على نظافتها وزراعتها بالورود والأشجار بين الوقت والأخر.

في هذه الحرب كل شيء مهم، حتى علبة العصير الفارغة الملقاة على الشارع    

أعرف أنّ الحديث عن نظافة الشوارع والمرافق العامة يرتبط بمهام الحكومة، وأن هذا جزء من مسؤولية مؤسساتها وعملها. وإذا ما حاولنا فهم واقع الشوارع العربية من هذا المنطلق فإن الأمور ستكون سهلة على الفهم، فالتقصير الحكوميّ والإهمال والفساد سيكون السبب في كل هذه الأوساخ التي تملأ الشوارع. ولكنني أعرف أيضًا أنّ العرب أكثر من يتحدث عن حب الوطن والانتماء له، وأعرف أيضًا أنّهم يخلقون من أسماء مدنهم وقراهم مفخرة. ويتباهون بجنسياتهم. ولكن ما لا أعرفه كيف أن كل هذا الحب لا يمنع الواحد منهم من رمي أعقاب سجائره على الأرض! فكيف يمكن أن يحب إنسان مكانًا إلى هذا الحدّ بينما يعجز عن الحفاظ على نظافته؟

اقرأ/ي أيضًا: إسرائيل عندما تعوِّل على الواقي الذكري

في الأغاني الرومانسية يغازل الحبيب حبيبته ويعدها بأنه سيحضر لها القمر إن أرادت، وأنه سينتزع قلبه من مكانه ويمنحها إياه لتسمع بنفسها اسمها في دقات قلبه. وأنها إن عطشت سيسقيها من ماء عيونه. والكثير الكثير من العبارات والصور المبالغ فيها، والتي تعجُّ بها الأغاني العربية، ولكن المثير للدهشة أنّ التعبير عن الحب بهذه الصورة الواسعة الخيالية وبهذه العبارات المستحيلة يجعل الحب أسهل على قائله، ومع الوقت تبدو التفاصيل الحقيقية الصغيرة تافهة وغير جديرة بالذكر، رغم أنها حقيقة. مثل أن تقول الزوجة لزوجها: لا أريد أن تحضر لي القمر لثبت حبك، ولكن دعنا نُنظف هذا البيت معًا، هكذا أشعر أنّك تهتم حقًّا. عندها ستبدو الزوجة تافهة لأنها لا تدرك عظمة ما يقوله زوجها من كلام الحب، وتلتفت إلى مجموعة صحون وملاعق متسخة لتتأكد من حبه. وما كان هذا المثال إلا توضيحًا للبلاد التي يسهل على الإنسان فيها كتابة قصائد عن حب الوطن والانخراط في الأحزاب وتنظيم المظاهرات، ولعن العالم يوميًا، لأنه يحجب عن بلاده الحرية، بينما يصعب عليه أن ينتظر عشر خطوات ليرمي ورقة لا يحتاجها في سلة النفايات، هناك في أخر الشارع.

فلسطينيًا؛ سيكون الاستخفاف بفكرة النظافة العامة وأهميتها هو أوّل ما قد يخطر على البال. فنحن نتحدث عن حرب يخوضها شعب أعزل مع دولة مدججة بالسلاح والتكنولوجيا والدعم العالمي، دولة مجرمة ولكنها ذات سمعة طيبة. فكيف يمكن لشوارعنا النظيفة أن تحاربها؟

في تشرين ثاني/ نوفمبر وجّه مايك بنس نائب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رسالة مسجّلة للشعب الإسرائيلي ومن ضمن ما قاله: "نحن نعرف أن إسرائيل ليست مكروهة من أعدائها بسبب ما تفعله من أخطاء، بل بسبب ما تفعله من صواب، فإسرائيل تُعلّم العالم كلّ يوم كيف تحوِّل الشُحّ إلى وفرة، المرض إلى صحة، الفقر إلى غنى، فكيف يمكن لأي شخص جيّد أن لا يقف مع إسرائيل؟".

اقرأ/ي أيضًا: التعداد الإسرائيلي الأول: أنت تُحصى إذن أنت موجود!

من سوء حظ الفلسطينيين أنّ عدوهم مجرمٌ بارع، يعرف كيف يقتل ويسرق بينما تظل يداه نظيفتان. والعالم متى ما نظر إلى إسرائيل غالبًا ما يراها دولة ناجحة متطورة تعاني مشاكل مع دول الجيران. ومن سوء إدارة الفلسطينيين وقلة وعيهم، أنهم حوّلوا أنفسهم إلى دعاية مجانية تدعم فكرة عدوهم وتؤكد روايته. فيكفي أن ينشر أي إسرائيليّ صورًا يقارن فيها بين نظافة المدن الفلسطينية المحتلة التي تسيطر عليها إسرائيل مقابل صور لمدن تخضع لحكم السلطة الفلسطينية ويتساءل: برأيكم من يستحق هذه البلاد؟ ومن هو صاحبها الحقيقي؟

من سوء حظ الفلسطينيين أنّ عدوهم مجرمٌ بارع، يعرف كيف يقتل ويسرق بينما تظل يداه نظيفتان  

قبل سنوات انطلقت على الفيسبوك حملة إلكترونية ليعبِّر الناس عن مشاعرهم وتصوراتهم في حال زال الاحتلال عن فلسطين، بعنوان "لو فلسطين مش محتلة" على أن يكمل المشاركون الجملة، وكانت الكثير من الإجابات تتمحور حول حرية التنقل وزيارة مدن الداخل المحتل وعبارات غزل بحيفا ويافا وعكا. وهنا يخطر التساؤل المؤلم على البال: كيف كان سيكون شكل هذه المدن لو كُنّا نحكمها؟ وبعيدًا عن تحميل الاحتلال مسؤولية نفايتنا الملقاة في الشوارع: هل ستتحول يافا إلى رام الله أو جنين؟

انتبه؛ في هذه الحرب كل شيء مهم، حتى علبة العصير الفارغة الملقاة على الشارع.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الخدمة المدنية: سلاح إسرائيل الناعم

ماذا تعرف عن أكشاك التجميل الإسرائيلية؟

إمبراطورية تجارة الأعضاء.. إسرائيل وراء كلّ هذا!