14-مارس-2021

إذا سلَّمنا بحقيقةٍ تقول: "حتى اللحظة، لم تُعايَن تجربة الأسر داخل سجون الاحتلال، فنًا وأدبًا كما يجب"، فإننا نقف أمام معاينة تجربة الأسيرات –تحديدًا- في ذات السجون، مقصرين بشكلٍ أقرب للفضيحة، في ضوء أن مساحة المُضمر والمخفي في تلك التجربة، أكبر بكثيرٍ من حجم المُفصح عنه، والمعالج فنيًا، دراميًا، وسينمائيًا أيضًا.

نحن هنا للحديث عن عملٍ وثائقيٍ سينمائي، بإمضاء مخرجٍ فلسطينيٍ شاب، يقيم الآن في كندا

أسباب ضعف المعالجة كثيرة، ولسنا بصدد الكتابة عن ذلك، إنما نحن هنا للحديث عن عملٍ وثائقيٍ سينمائي، بإمضاء مخرجٍ فلسطينيٍ شاب، يقيم الآن في كندا، وهو كرم أبو علي، صاحب فيلم "رمادي أزرق أبيض" (107 دقيقة).

اقرأ/ي أيضًا: الفلسطينيون على “Netflix”.. الحلقة الأولى

وأبو علي هنا لا يقترب من الأسيرات مُكرِّرًا، بل يذهب عميقًا في سرديةٍ بصرية، فيها ما يميزها عن غيرها من الوثائقيات الفلسطينية، فهو هنا يغوص في التفاصيل، ويكشف عن صعوبات الحياة داخل السجن بأدق التفاصيل، وأصعب اللحظات، وعلى لسان من عشن التجربة، كما أنه يمد يده نحو "عش دبابير"، تحديدًا في موضوع المجتمع الذي يتنكر لمناضلاته، ويتعامل معهم بطريقةٍ منافية لما يدّعى.

صحيحٌ أن هناك تجارب سينمائية معدودة، للحديث عن واقع الأسيرات، أبرزها تلك التي عالجت الموضوع روائيًا في فيلم المخرجة الفلسطينية مي المصري "3000 ليلة"، لكن وثائقي أبو علي، الذي هو مشروع تخرجه الجامعي، يحمل الكثير من عناصر القوة، وملامح الإبداع، التي تكشف عن مخرجٍ يمتلك أدواته الفنية، والقضايا التي يؤمن بها.

الفيلم يحمل الكثير من عناصر القوة، وملامح الإبداع، التي تكشف عن مخرجٍ يمتلك أدواته الفنية، والقضايا التي يؤمن بها

فبعيدًا عن البلاغة والإنشاء، اللذان يحضران غداة الحديث عن قضايا نضال النساء الفلسطينيات، يأتي الشريط صادمًا، ومخالفًا للمزاج العام. يأتي في لحظةٍ يميل المجتمع الفلسطيني فيها أكثر نحو المحافظة، وهو ما يمسُّ مشاركة النساء في النضال السياسي، الذي أصبح يعاني انكفاءً ملحوظًا، في وقتٍ تزداد فيه مخاطر المشروع الصهيوني على القضية الفلسطينية برُمّتها.

اقرأ/ي أيضًا: الفلسطينيون على “Netflix”.. الحلقة الثانية

يعود المخرج والمصور أبو علي إلى الوراء كثيرًا، ليستعرض تجارب "نضالية قديمة" لأسيرات فلسطينيات، وقد انقضت على ذكرياتها المُرّة سنواتٍ طويلة، هنَّ على التوالي حسب الظهور: حنان امسيح، وعبير الوحيدي، وماجدة السلايمة، ورولا أبو دحو، يغوصُ معهن في موضوعاتٍ "مسكوتٌ عنها" منذ زمن.

"رمادي أزرق أبيض" (مفردات السجن اللونية)، يتناول حكايا الأسيرات الأربعة، باستعادةٍ تمتاز بأكبر قدر من الصراحة والجرأة والصدق، وصولًا إلى سؤال: هل نال منكنَّ الندم؟ بكل ما يحمل من أوجاعٍ واعترافات.

ويبدو جليًا أن المخرج عمل كل ما في وسعه ليمنح الأسيرات أكبر مقدارٍ من الحرية لسرد الحكاية، "ما تعرضن له في التحقيق والسجن، وما نلنه من المجتمع الذي يحاصرهن، ويرمقهن بالنظرات مختلفة المغزى". كل هذا أتاحه في جلسات ما قبل التصوير، مستعينًا بباحثات من أجل إجراء الحوارات الدقيقة، ومصوراتٍ من أجل إضافة مزيد من الراحة والطمأنينة.

"رمادي أزرق أبيض" (مفردات السجن اللونية)، يتناول حكايا الأسيرات الأربعة، باستعادةٍ تمتاز بأكبر قدر من الصراحة والجرأة والصدق

يدخل المخرج بيوت الأسيرات بعين فنّان، يمسك كاميرا ترصد الإنساني، والعفوي، والجمالي، في وجوه ومفردات شخصياته (الأسيرات). لقطاتٌ عامةٌ للحياة، وأخرى شاردة في السماء حيث الغيوم وألوان الغروب، ومن ثم "كلوزات" لوجوه الأسيرات الأربعة.

اقرأ/ي أيضًا: فلم 7 أيام في عينتيبي.. محاولة فاشلة في الحياد

ابتسامةٌ من القلب، لحظةَ تأمُّل، قِرطٌ في أُذن إحداهن، حبة خال، سيجارة في بداية اشتعالها، شعر يلعب به الهواء، أيدي تغسل الأطباق.. كأس قهوة، يستمر المخرج لدقائقٍ ثلاث بلا تعليق، موسيقى هادئة على البيانو (للعازف بشار الخواجا)، وشخصيات تتفتل أمام المشاهد بهدوء في أرحب حضور ممكن.

طوال الدقائق الطويلة، لا يبدو المخرج مهمومًا بجودة الصورة بمقدار اهتمامه بما تحمله هذه الصورة من معنى للمشاهد، وبمقدار ما تحمل من رسالةٍ للفيلم، وبمقدار ما تلمّح إليه، ولا تقوله صراحة.

نراها تتراقص وتفقد "الفوكس" من أجل هدفٍ أسمى، تغزو الكادر إضاءة قادمة من الخارج كي تمنح الخيَار الفني الذي انتقاه المخرج وهجًا آخر، ويا له من خيار، إنه أشبه بتجلٍ فنيٍ امتد على طول الشريط.

مهارةٌ عالية في رسم الشخصيات، ترتّب عليها وضع حدودٍ لكل شخصيةٍ فلا تطغى على أخرى، مع مراعاة لأن تكمل قصة إحداهن الثانية.

مهارةٌ عالية في رسم الشخصيات، ترتّب عليها وضع حدودٍ لكل شخصيةٍ فلا تطغى على أخرى

يجلسن في أكثر وضعية مريحة: واقفات، متحركات، متكئات على كرسي، أو ممددات على أريكة، في أكثر المشاهد عفوية وبراءة وإنطلاقًا، ليكون الفيلم أقرب للبوح منه لصيغة السؤال والجواب الكلاسيكية.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم بيروت.. صدى قديم جديد للإمبراطورية

وخلال ساعة، يتجول الفيلم بين قصص المناضلات الأربع، بدءًا من استعادة لحظات الاعتقال الأولى، مرورًا بالتحقيق ومجرياته وقساوته، والصراع مع السجان، وصولًا إلى الحياة في السجن، والعلاقة مع السجان، وتكنيكات الصمود والبقاء، انتهاءً بلحظات "الحرية الأولى" الخروج من السجن.

نحن إزاء شهادات تسردها ذاكرت أسيراتٍ محررات، عن واقع تجربةٍ طويلةٍ مرة. فيها يتعرى السجن بصفته مكانًا يمتلك أثرًا متغلغلًا في نفوس مسجونيه، فحتى بعد سنواتٍ طويلة من الحرية، هناك من تشعر بالتوتر من صوت المِفتاح، أو من طرقاتٍ قويةٍ على باب المنزل.

يسرد الفيلم على لسان بطلاته طبيعة "الحياة المشتركة" في السجن بين الأسيرات، وانعدام الخصوصية، وكيف يواجهن اللحظات الصعبة والمواقف المحرجة مثل: لحظات الولادة في السجن أمام الجنود، مسائل النظافة الشخصية، وكيف يؤثر صوت بكاء طفلٍ صغير على سجينات لم يسمعن صوت بكاء منذ سنوات؟ وكيف يكون لطفلٍ واحدٍ هناك 30 أمًا؟ وعلاقة الأسيرات مع الألوان، ولؤم السجّانات، والخوف من مرور الزمن بدون زواجٍ وإنجاب، وعدم القدرة على الضحك، وظلم المجتمع الذكوري الذي لا يصبر على غياب "أسيرة"، لكنه يطلب من خطيبة أسير أن تنتظره مدى الحياة في نقدٍ اجتماعي جريء، بالإضافة إلى التنكر للأسيرات بعد الخروج من الأسر، وصدمة العودة للمجتمع وتحولاته الصعبة على الأسيرة.

هذا فيلم مختلف، سيُغضب البعض بحجج العيب والوطنية

ولا يبدو أن الأسيرات نادمات بعد، ورغم كل ذلك. صحيحٌ أنهنَّ "دفعن الثمن غاليًا" أو "عذبن عائلاتهن"، وقد "يصعب أن يقاس نضالهن بمقاييس اليوم"، كما جاء على لسان بعضهن، لكنهن مؤمناتٍ بخياراتهن، فيما ترفض بعضهن على لسان الأسيرة والأكاديمية رولا دحو، مسألة أن يتم التمييز بينهن وبين الأسرى؛ فهن مناضلات، ولا يتوقعن من عدوهن أن يتعامل معهن بطريقة مختلفة. رسالة المُخرج في فيلمه كانت تقول في جملةٍ مختصرَة اختتم فيها آخر المشاهد: "من الأجدر لهذا القلب أن يحترق بنار الحب".

اقرأ/ي أيضًا: 8 أفلام أجنبية تناولت القضية الفلسطينية

هذا فيلم مختلف، سيُغضب البعض بحجج العيب والوطنية، وسيجعل من أناسٍ يطرحون سؤالًا –على الأقل بينهم وبين أنفسهم: ألا يضر الحديث عن صعوبات السجن وقساوته في فرص انخراط نساء في النضال ضد الاحتلال؟

على أهمية السؤال، ورغم هذه المخاوف، هذا الأمر لا يجب أن يقف عائقًا أمام سرد تجربة كل أسيرة فلسطينية، فتوثيق التجربة، ونقلها للأجيال، وكشف زيف ونفاق المجتمع "الساعي للحرية"! وقبح المحتل وعنفه، هي أولوية حقيقية. 

لا يمكن لمخرج أن يقدم هذا الفيلم بهذه الشاعرية والحساسية العالية، بتجاوز ما قالته الأسيرات عن أنفسهن وتجاربهن

بقي أن نقول: إن الفواصل البصرية التي جمعت القصص الأربعة، من خلال مشاهد من الشارع والحياة اليومية، حيث الناس تهيم وتسير في دروبٍ بدون تركيز، وإن كانت خيارًا تقليديًا في كثيرٍ من الأفلام، إلا أن المخرج عَمَد إلى خياراتٍ فنية من ناحية تسريع المشاهد، ومن ثم جعلها بطيئة، لتعكس إيقاعًا يوميًا، كما أنه دمجَ مشاهد قديمة من الحياة في فلسطين (بالأبيض والأسود)، مع مشاهد الحياة اليوم، ربما للتدليل على أن حالنا اليوم يشبه حالنا بالأمس، والفضل هنا لـ"مونتيرة" متمكنة اسمها (سندس مصطفى).

وختامًا: لا يمكن لمخرج أن يقدم هذا الفيلم بهذه الشاعرية والحساسية العالية، بتجاوز ما قالته الأسيرات عن أنفسهن وتجاربهن، وبهذا القدر من الجمال والحب، من دون أن يُغرم بالشخصيات أولًا. غرامٌ يقود إلى تحويل ساعات الفيلم الأربعين (خام الفيلم) لساعةٍ واحدة، اختزلت جهد عامٍ كامل.. ساعة واحدة كافية لتخبرنا أن كرم أبو علي، هو وريث المرحوم مصطفى أبو علي، مؤسس سينما الثورة الفلسطينية (عم والده)، وحفيد الأديب والكاتب الفلسطيني الراحل رسمي أبو علي.


اقرأ/ي أيضًا: 

7 أفلام فلسطينية وصلت العالمية

هدايا الأسيرات: فيض حب وأمل حرية