تقارير

برقة.. مشهد يلخص حرب المستوطنين لاقتلاع الفلسطينيين من أرضهم في الضفة

18 أكتوبر 2025
برقا بلا موسم زيتون
صورة عامة لقرية برقة شرق رام الله | gettyimages
فاطمة الخطيب
فاطمة الخطيبصحفية من رام الله

"هذه الأرض من أيام جدي. زيتونها روماني قديم، عمره من عمر البلاد"، يقول جاسم معطان وهو يراقب أرضه على التلة الغربية من بلدة برقة شرق رام الله، خلف أسلاك نصبها المستوطنون، ومطوَّقة بخيامهم وأغنامهم وكرفاناتهم. ويضيف: "نشروا الشجر، حرقوه. ما ظل غير الأطلال".

 90% من عائلات برقة حُرموا بالكامل من موسم الزيتون هذا العام، بعدما منعهم الاحتلال من الوصول إلى أراضيهم في الجهات الغربية والشمالية والجنوبية، وحتى في المنطقة الشرقية القريبة من البيوت، طُرد الأهالي من أراضيهم

يملك جاسم وعائلته خمسة مواقع مزروعة بالزيتون في الجهة الغربية من القرية، في منطقة مصنفة "ج" وفق اتفاق أوسلو، يزيد عمر بعضها عن مئة عام، جميعها باتت داخل ما يصنّفه الاحتلال "منطقة عسكرية مغلقة". وفي عام 2017، كانت المرة الأخيرة التي يقطفون فيها ثمار الزيتون "بشكل طبيعي".

يشرح جاسم معاناتهم قائلًا: "في كل مرة نحاول الوصول لأرضنا، يمنعنا الجيش. صارت الأرض خرابًا، خرب المستوطنون وأغنامهم كل شيء". ويوضح أن إنتاج الزيت في هذه الأرض، قبل استيلاء المستوطنين عليها، كان يصل إلى 40 – 45 تنكة سنويًا، يتقاسمها مع إخوته. أما اليوم، فلا يستطيعون قطف زيتونهم، ولا يعرفون ما حلّ بالشجر.

ويضيف: "صرنا نشتري الزيت اللي كنا نبيعه. وتنكة الزيت ستباع بأسعار عالية هذا العام". ويستدرك أن وجعه الحقيقي لا يُقاس بالخسارة المادية، بل بالاقتلاع من الأرض: "فبدون أرضنا ما بنقدر نعيش. هذه مش تجارة، هذه حياتنا. مش سهل تشوف أرضك اللي كنت تعمّرها سنين، تروح هيك. كل سنة نحفر، نزرع، نربي الشجر، واليوم ممنوع نوصل، بتحس حالك مخلوع من جذورك".

ويستذكر جاسم معطان آخر موسم زيتون "طبيعي" في عام 2017، قبل أن تتحول أرضه إلى "منطقة مغلقة"، مبيّنًا أن جميع المزارعين في هذه المنطقة لم يعودوا قادرين على الوصول إليها منذ إطلاق إسرائيل حرب الإبادة على قطاع غزة. ويقول: "كل الشجر اللي ظل هناك إما انحرق أو انقطع، ولم يبقَ سوى ما يقارب 10% من أشجار الزيتون".

وقبل عامين، كان جاسم واحدًا من ثلاثة مزارعين تعرّضوا لاعتداء مباشر من المستوطنين أثناء محاولتهم الوصول إلى أراضيهم: "حينها ضربوني في رأسي، نزل الدم، أما الجنود فوقفوا متفرجين. ومن يومها ما رجعت"، أضاف.

ورغم تقديم شكاوى للجهات الفلسطينية ومؤسسات دولية، إلا أن شيئًا لم يتغير، بحسب جاسم: "طلبوا منا كواشين الأرض وصور، ورفعناها، بس ولا شي صار، حتى لما تيجي مؤسسة تصور، الجيش بمنعهم. الأمور كلها شكلية".

واليوم، لا يرى جاسم في أرضه سوى أطلال الذكريات. يقول: "والله يا عمي، كل ما أحكي عن الزيتون يوجعني قلبي. ما بحب أفتح الموضوع، لكن الله يفرجها ونرجع في يوم نلم الزيتون بإيدينا وليس بالحسرة".

ويُوضح رئيس مجلس قروي برقة، صايل كنعان، أن 90% من عائلات القرية حُرموا بالكامل من موسم الزيتون هذا العام، بعدما منعهم الاحتلال من الوصول إلى أراضيهم في الجهات الغربية والشمالية والجنوبية، وحتى في المنطقة الشرقية القريبة من البيوت، طُرد الأهالي من أراضيهم.

ويشير كنعان، في حديثه لـ"الترا فلسطين"، إلى أن بعض الأراضي في برقة باتت مراقَبة من قبل ميليشيات المستوطنين المعروفة باسم "فتيان التلال"، وبمجرد اقتراب أصحابها منها يتعرضون لإطلاق النار أو التهديد.

ويقول: "حتى عندما تمّ التنسيق من قبل الارتباط والمجلس القروي للسماح للمزارعين بقطف الزيتون في المناطق الشمالية والغربية، أعاد الاحتلال إلغاء التنسيق في اللحظة الأخيرة، بحجة أن الأراضي التي تم التنسيق لها هي منطقة عسكرية مغلقة".

ويؤكد أن "نسبةً كبيرة من أشجار الزيتون في هذه المناطق تمّ حرقها على يد المستوطنين، وأخرى قُطعت بالكامل، حتى لم يبقَ سوى الجذور اليابسة كشاهدٍ على ما جرى".

برقة معزولة لسنوات

يقول صلاح الخواجا، مدير عام مديرية الوسط في هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، إنّ قرية برقة تُعدّ من أكثر المناطق سخونة من حيث اعتداءات المستوطنين في الضفة الغربية، خاصة بعد شق شارع 60 الذي حاول أن يفصل القرية عن امتدادها الطبيعي بمحافظة رام الله والبيرة.

ويوضح الخواجا لـ"الترا فلسطين" أن السنوات الخمس الماضية شهدت بناء خمس بؤر استيطانية في محيط برقة، مما عزلها بالكامل عن القرى المجاورة مثل بيتين ودير دبوان، وحتى عن محافظة رام الله والبيرة. ويقول: "الدخول إلى برقة والخروج منها اليوم لا يتمّ إلا عبر جسرٍ يربطها بدير دبوان، ما يعني أنه في أي لحظة يمكن لجيبٍ عسكري واحد أن يُغلقها بالكامل ويعزلها عن العالم".

برقا
السنوات الخمس الماضية شهدت بناء خمس بؤر استيطانية في محيط برقة

ويبيّن أن "الحياة في هذه المناطق أصبحت شبه مستحيلة، فقد توسّعت الاعتداءات خلال السنوات الأخيرة لتشمل منع المزارعين من الوصول إلى أراضيهم، والاقتحامات المتكرّرة للبيوت، وحرق عشرات المنازل والمركبات بالكامل، إلى جانب عمليات تخريبٍ طالت كل شيء تقريبًا".

ويضيف: "نحن نحاول دائمًا أن نشارك أهالي برقة في الوصول إلى أراضيهم، لكن الأمر يتحوّل في كل مرة إلى مواجهات مع عشرات المستوطنين المتطرفين المنتشرين في البؤر المحيطة بالقرية. ومع كل اعتداء جديد، تتضح أكثر منهجية الاحتلال في تفريغ برقة من أي وجودٍ فلسطيني".

ويشير الخواجا إلى أن برقة بقيت معزولة لسنوات، دون خدماتٍ قادرة على إنقاذ العائلات وقت الطوارئ، فلا دفاع مدني ولا إسعاف يمكنه الوصول في الوقت المناسب، مؤكدًا أن هذا التصعيد ليس عشوائيًا، بل ممنهج ومنظّم من قِبل ميليشيات المستوطنين، "الذين يسعون لقتل الحياة في برقة بالكامل".

الإرهاب اليهودي
مستوطنون من ميليشيات فتية التلال

ويوضح الخواجا أن اعتداءات المستوطنين والجنود تبلغ ذروتها في موسم قطف الزيتون، مشيرًا إلى أن برقة اليوم محاطة من كل الجهات، وأهلها محرومون من الوصول إلى أراضيهم، كما تمّ حرق منازل ومركبات أمام بيوت أصحابها، بما في ذلك سيارات قانونية، هذا عدا عن الإغلاقات المتكرّرة ومنع الحركة والتنقّل، ما رفع من حجم الخسائر بشكلٍ كبير.

وبحسب وزارة الزراعة، فقد تكبّدت محافظة رام الله والبيرة خلال عامي 2024 و2025 خسائر كبيرة قُدّرت بمئات آلاف الدولارات، نتيجة اعتداءات المستوطنين وتدمير مساحات واسعة من الأراضي المزروعة بالزيتون. وتشير البيانات إلى أن القرى الشرقية للمحافظة، مثل المغير ودير دبوان وبرقة وترمسعيا والمزرعة الشرقية، كانت من بين أكثر المناطق تضررًا.

حرب على الجذور والزيتون

في المشهد الأوسع، لا تبدو برقة استثناءً. فوفق هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، شهدت الضفة الغربية، بالتزامن مع حرب الإبادة الإسرائيلية، أكثر من 38 ألف اعتداء نفّذها جيش الاحتلال والمستوطنون، استهدفت الأراضي والممتلكات والأرواح على حد سواء، في محاولة لفرض واقعٍ جديد على الأرض الفلسطينية.

ويؤكد رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، مؤيد شعبان، أن "ما يجري في الضفة الغربية ليس أحداثًا متفرقة، بل منهجية استعمارية منظّمة تستغل الحرب لإعادة هندسة الجغرافيا الفلسطينية وفق خرائط تمييزية، وخلق بيئة قهرية طاردة تدفع الفلسطينيين بعيدًا عن أرضهم، من خلال سلسلة من الاعتداءات والعقوبات الجماعية التي طالت القرى والتجمعات البدوية".

الخسائر الإجمالية بفعل اعتداءات المستوطنين بين عامي 2010 و2023 بلغت نحو 100 مليون دولار، فيما قفز الرقم إلى 124 مليون دولار في عام 2024 وحده

وتُظهر معطيات الهيئة أن اعتداءات الاحتلال والمستوطنين منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023 تسبّبت في اقتلاع وتحطيم أكثر من 48,728 شجرة، منها 37,237 شجرة زيتون، إلى جانب حرق مساحات واسعة من الأراضي الزراعية وتدمير منشآت ومصادر مياه، ما حوّل المواسم الزراعية في كثير من القرى إلى مواسم للحزن والفقد.

وتؤكد وزارة الزراعة لـ"الترا فلسطين" أن الخسائر في الضفة الغربية تشمل جميع المحافظات، مبيّنة أن الخسائر الإجمالية بفعل اعتداءات المستوطنين بين عامي 2010 و2023 بلغت نحو 100 مليون دولار، فيما قفز الرقم إلى 124 مليون دولار في عام 2024 وحده، أي أن إجمالي الخسائر في عام 2024 وحده يفوق مجموع الخسائر في الأعوام الثلاثة عشر التي سبقته، وفق ما تمكنت الوزارة من توثيقه حتى الآن.

الكلمات المفتاحية

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب

لم يكن المشهد الذي رافق استئناف العملية التعليمية في غزة يشبه أي عودة مدرسية شهدها القطاع من قبل


اقتحامات الضفة الغربية

10 أيام من الاقتحام: الاحتلال يحوّل منازل في يعبد إلى ثكنات عسكرية ويُشرد العائلات

"منذ اليوم الأول للاقتحام، احتلّ الجنود ستة منازل بالكامل، والآن يسكنون فيها، بعد أن أجبروا سكانها على المغادرة وإبقاء الأبواب مفتوحة".


رصاص وكمائن حول الجدار: تصاعد خطير في إصابات العمّال الفلسطينيين

رصاص وكمائن حول الجدار: تصاعد خطير في إصابات العمّال الفلسطينيين

64 عاملاً استشهدوا منذ بداية الحرب على غزة، منهم نحو 40 عاملاً منذ مطلع العام 2025. وهناك أكثر من 3 آلاف إصابة موثقة خلال العامين الماضيين


الدفاع المدني في غزة.. حربٌ أخرى ضد الركام

الدفاع المدني في غزة.. حربٌ أخرى ضد الركام

يقف جهاز الدفاع المدني أمام مهمة تفوق قدرته، إذ يواجه نقصًا حادًّا في المعدات الثقيلة والآليات الميدانية، مما يجبر طواقمه على العمل بما تيسّر من أدوات يدوية

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب
تقارير

مدارس غزة.. عودة مرتجفة للتعليم بين الركام والنازحين ومقاعد بلا أصحاب

لم يكن المشهد الذي رافق استئناف العملية التعليمية في غزة يشبه أي عودة مدرسية شهدها القطاع من قبل

قيادي في حماس لـ "الترا فلسطين": تواصلنا مع روسيا والصين والجزائر لإحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن
مقابلات

قيادي في حماس لـ "الترا فلسطين": تواصلنا مع روسيا والصين والجزائر لإحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن

قال القيادي في حماس وليد كيلاني، لـ"الترا فلسطين"، إن الحركة أجرت اتصالات عديدة في الأيام الماضية، خاصة مع روسيا والصين والجزائر، للضغط بهدف إحباط المشروع الأميركي في مجلس الأمن


مركز غزة: مليوني فلسطيني بالقطاع يعيشون كارثة إنسانية تتفاقم يوميًا مع اقتراب الشتاء
أخبار

الإعلام الحكومي: 288 ألف أسرة بغزة لا تملك أبسط مقومات الحياة

قطاع غزة يحتاج 300,000 خيمة وبيت متنقل لتأمين الحد الأساسي للسكن الإنساني.

عن رواتب الأسرى.. بيان للرئاسة الفلسطينية يكرر التأكيد على دور "مؤسسة تمكين"
أخبار

عن رواتب الأسرى.. بيان للرئاسة الفلسطينية يكرر التأكيد على دور "مؤسسة تمكين"

في 10 شباط/فبراير، قرر الرئيس الفلسطيني محمود عباس نقل صلاحية صرف رواتب أسر الشهداء والأسرى إلى مؤسسة "تمكين"، تحت عنوان "إصلاح النظام المالي" واستعادة المساعدات الدولية المعلّقة

الأكثر قراءة

1
تقارير

اغتصاب وتعذيب جنسي.. محرّرو غزة يروون لـ"الترا فلسطين" فظائع السجون


2
تقارير

الجبهة الديمقراطية لـ"الترا فلسطين": مصر عرضت على الفصائل خطّة من 5 بنود وهذه تفاصيلها


3
تقارير

داخل صندوق أسود: هكذا تُدار الدبلوماسية الفلسطينية


4
تقارير

خاص | الترا فلسطين يحصل على نصّ وثيقة الخطوات التنفيذية لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة


5
راصد

توني بلير.. سيرة إداري للإيجار