بعد وقف إطلاق النار.. كل فردٍ في غزة يبدأ حربه الخاصة
11 فبراير 2025
"ستنتهي الحرب لكنّ تسعة أعوام من حياتي مُسحت، زوجي وأبنائي لن يعودوا" هكذا تحدَّثت لينا قفّة عن اختلاط مشاعرها وقت إعلان التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار.
ربما تنتهي الحرب بالسلاح، لكن ثمة حروب أخرى صنعتها هذه الحرب ويعيشها أهل ولا يبدو أنها ستنتهي قريبًا
حتى آذار/مارس 2024، كان للينا أسرة سعيدة، زوج مُحب وثلاثة أطفال تدفع روحها لسلامة إظفر أحدهم، إلى أن سمعت صوت صاروخ في الجوار، انفجر في بيت أهل زوجها، وفي قلبها أيضًا. ففي غمضة عين وجدت نفسها في نقطة الصفر، عادت لبيت أهلها وحيدة كما خرجت منه.
"دائمًا كنت أدعو أن تتوقف الحرب، فمشاهد الموت مؤلمة، ودموع الشوق قاتلة، وصيحات الفراق تشق الروح، لا أريد للناس أن يذوقوا ويلات الفقد وعذاباته" تقول لينا.
بالفعل، فرحت لينا عندما أشارت الأخبار لاقتراب الإعلان عن وقف إطلاق النار، لكن الفرح لم يدُم طويلاً،"فبعد لحظات، انتابتني مشاعر مختلطة لا تفسير لها، أريد أن تنتهي الحرب، لكنّ جرحي سُيفتح من جديد، هو لم يندمل أصلاً، ولا شيء أترقب الهدنة لأجله، ورغم أن حربي ستبدأ، لكنّي بكل صدق أريد لحرب الإبادة أن تنتهي".
أمام مصابها الجلل، وحربها الجديدة، تقوّي لينا نفسها بقناعتها، تقول: "لا أعلم ما تخفيه لي الأيام، لكنّها ستمضي والحياة لا تقف عند مُصابي، لذلك أجد نفسي أمام خيار واحد، أن أستمر، وأن الله أبقاني لسبب، ورغم عمق الجرح ووحشة الطريق، لكني على يقين أن الله إذا أخذ شيء عوّض بخير منه، وإذا ابتلي صبّر، وإذا كلّف أعان".
عزاءٌ جديد
حالٌ قريب من حال لينا يعيشه الشاب زكي محمد (١٩ عامًا)، الذي فقدَ والديه، وعددًا من أهل أمه، ولم يودع أحدًا منهم، ثم نزح وإخوته مع جدهم لأبيهم جنوبًا. يقول: "كنا نتغافل عن مأساتنا، شغلنا تفكيرنا بالخوف وأعباء الحياة عن الفقد، حتى حانت لحظة الحقيقة، لحظة العودة إلى غزة".
ويضيف زكي: "كنّا نواسي أنفسنا بأن لنا خالاً على قيد الحياة، سندٌ يعيننا ويقف في ظهرنا، لكن القدر خبأ لما مفاجأة صعبة، فبعدما انقطع الاتصال به في الأيام الأخيرة من الحرب، عثر الأقارب على جثته بعد دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ".
ويتابع: "منذ نزحنا، كنا نعرف أن جرحنا سيُفتح مجددًا وقت العودة، لكن لم نتوقع أن يُفتح عزاء آخر".
حياةٌ مجهولة تنتظر الإخوة في الشمال، خاصة أن الاحتلال هدم بيتهم، لكنهم لم يترددوا في العودة، يحذوهم الأمل بأن يجدوا شيئًا من أغراض أهلهم ليحتفظوا به.
يرى زكي أن مأساته، على صعوبتها، أصغر مما يعيشه غيره، فهو على الأقل يعرف مصير أهله ويعرف أماكن قبورهم. ويتساءل: "تُرى بماذا يشعر أهالي المفقودين الآن؟ وماذا سيفعل من بقي شهداؤهم تحت الأنقاض؟".
الشاب الذي بدا عليه الصبر وتحمّل مسؤولية إخوته، يؤكد: "سنمضي في حياتنا، لا أعرف كيف، ولكننا سنفعل".
سنبقى حيث العلاج
إيمان أبو تبانة، كما كل النازحين، تتوق للعودة إلى مدينتها رفح، لكنها لن تفعل، فالاحتلال دمّر مستشفيات المدينة، بينما هي وأسرتها بحاجة للعلاج.
تقول: "أنا وزوجي ووالده مرضى فشل كلوي، نغسل الكلى ثلاث مرات في الأسبوع، ويعاني زوجي عدة أمراض أخرى، منها مشاكل في القلب أدت لجلطات، بُترت على إثرها قدمه، وكتلة سرطانية لم نعرف بعد إن كانت خبيثة أم حميدة، أما والدته فهي مريضة ربو".
وتضيف: "مررنا بكل هذا ونحن نسكن خيمة داخل مقبرة، حياة الخيمة صعبة على الأصحّاء، فما بالكم بالمرضى".
وتتابع: "كنّا نأمل أن تنتهي الحرب لنعود لبيتنا، لعل صعوبة الحياة تخف قليلا، لكن بعد انسحاب الاحتلال من رفح، تغيّر الأمر، فلا بيت ولا مستشفيات".
جرّبت الأسرة الرجوع، لكنها عادت أدراجها إلى خان يونس بعدما شاهدت أطلال المدينة، فهم بحاجة لأن يكونوا على مقربة من مستشفى ناصر.
وتوضح إيمان أبو تبانة: "نخشى أن تتدهور أوضاعنا الصحية أكثر بسبب واقع القطاع الصحي، فأعداد المرضى الذين يخضعون لجلسات غسل الكلى كبيرة، يتكدسون كلهم في نفس المستشفى، ما يجعلنا نخاف من عدم الحصول على العلاج ذات يوم".
وتؤكد أبو تبانة أن الأسرة ستنقل الخيمة فوق ركام البيت بلا تردد لو أُقيم مستشفى ميداني في المدينة.
"الأمر لا يقتصر على مكان الخيمة، بل أيضًا استمرار الحياة فيها حرب أيضًا، ومن الواضح أننا سنبقى فيها فترة طويلة، ما يعني استمرار مكابدة اشكال المعاناة المختلفة، كبرد الشتاء وأمطاره، وحرارة الصيف، والتعب الجسدي" كما تقول.
أين بيتي وأبنائي؟
غربة الأبناء، واحدةٌ من الحروب الشخصية التي أنتجتها الحرب وبدأ الأهالي يشعرون بصعوبتها الآن، فمع توقف الحرب يلتئم الشمل، لكن شمل بعض الأسر تشتَّت بين غزة والخارج إلى وقتٍ لا يعلمه أحد.
أسماء محمود كانت تتجاهل هذه الحقيقة طوال الحرب، لكنها اليوم مضطرة لمواجهتها، فهي تغادر مكان نزوحها لتعيش في بيت أحد ابنيها المُغتربين.
تقول أسماء: "تخاف كثير من الأمهات من رغبة أبنائهن في السفر، لكنني لم أشعر بذلك يوما، فأبنائي يحبون غزة، ويرفضون مغادرتها، خاصة أنهم حصلوا على وظائف قبل تخرجهم، باستثناء الصغير الذي لم يلتحق بالجامعة بعد".
وتضيف: "ابني البكر الذي أشدُّ ظهري به سافر أملاً في النجاة من الحرب، ولحق به ابني الثاني للحفاظ على وظيفته، وهو يبحث عن عروس ليتزوج في شقة مجاورة لشقتي، أنفق كل مدخراته في رحلة السفر وها هو يحاول البدء من جديد".
وتتابع: "ابناي الباقيان هنا يخططان للسفر أيضًا، أحدهما للعمل والآخر للدراسة، قلبي ينفطر لكن لا أستطيع منعهما من بناء الحياة التي يريدون".
حربٌ أخرى تعيشها أسماء تتمثل في هدم بيتها، إذ تقول: "عندما أتذكر بيتي وأفكر في تفاصيل حياتي دونه، أكاد أُجن، أقطع التفكير فورًا".
وحين تتقاطع الحربان، تغمر أسماء مشاعر صعبة، كونها تغادر النزوح لتسكن بيت ابنها المغترب.وتضيف: "لا أتقبل فكرة وجودي في بيت ابني، بينما هو ليس فيه، أين ابني؟ أين ضحكات أحفادي؟"، لماذا أنا لستُ في بيتي؟ لماذا أجلس في بيت ابني ذو الجدران المدمرة بفعل القذائف؟".
جهد بدني وأمراض
العودة للحياة البدائية، واحدة من مآسي غزة الجديدة التي لا تنتهي بانتهاء الحرب، خاصة بالنسبة لأولئك الذين عاشوا حياة "عزّ" قبل الحرب، مثل سامح عطا الله، الذي تجاوز الثمانين عامًا، وقول إنه سخَّر شبابه ووقته وصحته لأجل أسرت، "لكنِّي اليوم أراهم منهكين ولا أجد لهم حلاً" كما يقول.
ويضيف سامح عطا الله: "كان دخلي فوق الممتاز، أنفقه كاملا لتوفير وسائل الراحة، اقتطعت جزءًا منه ليكون أجر عاملة منزلية تساعد زوجتي وابنتي، واشتريت الكثير من الأجهزة الكهربائية بناء على طلبهن، يتحركن بالسيارة مهما قصرت المسافة".
أما اليوم، يستدرك عطا الله: "أرى زوجتي السبعينية تنام على الأرض بدل أفضل نوع من الفراش كنت اشتريته في بيتي، وتجلس أمام فرن الحطب بدل الوجبات الجاهزة".
أما ابنته الثلاثينية فصارت تعجن وتغسل الملابس بيديها حتى تتضرر عمودها الفقري، وأصيبت بانزلاق غضروفي في العنق، وآخر أسفل الظهر، كلاهما يسببان لها آلاما حادة ويصعّبان حركتها، ومع ذلك لا تتوقف عن بذل الجهد.
ويرى عطا الله المعاناة تمتد لأحفاده الذين كانت قد شملتهم "الرفاهية" قبل الحرب، فحفيدته تتألم كثيرًا بسبب مشكلة في الأعصاب نتيجة الجهد اليدوي والضغط النفسي، أما الفتية فينقلون المياه للطابق الرابع، ويمشون مسافات طويلة حاملين مشتريات الأسرة.
التوصية الأولى التي يقدمها الأطباء لزوجته وحفيدته الراحة، وهذه مستحيلة في النزوح، أما الأدوية التي يصفوها فأغلبها غير متوفر.
ويضيف عطا الله: "مع توقف الحرب وفتح المعابر ربما نجد الأدوية في الصيدليات، لكن أين نجد الراحة؟ الحياة البدائية ستعود معنا لغزة، سيبقى أهل بيتي يعانون الأشغال الشاقة التي أرهقتهم منذ اندلاع الحرب".
الكلمات المفتاحية

"بأمّ عيني".. شهادة بصرية لتاريخ الفلسطينيين بين الماضي والحاضر
يعدّ المعرض بمثابة أرشيف حيّ لعلاقة متداخلة بين الماضي والحاضر، ويهدف إلى تقديم شهادة بصرية متداخلة بين الماضي والحاضر

"غزة ليست للبيع".. رسائل مؤيدة لفلسطين تغطي ملعب ترامب في اسكتلندا
نشطاء مؤيدون لفلسطين يقتحمون ملعب الغولف "ترامب تورنبيري" في اسكتلندا، احتجاجًا على تصريحات ترامب حول غزة، ويرسمون شعارات مؤيدة لفلسطين على العشب والجدران

"يحدث في البيوت".. رواية جديدة لعباد يحيى عن رام الله في السبعينات والثمانينات
تستعرض رواية "يحدث في البيوت" أحداثها من النكبة الفلسطينية وصولًا إلى الزمن الراهن، مع التركيز على عقدي السبعينيات والثمانينيات في رام الله

العربي الجديد: قتيل ومصابان من المحتجزين الإسرائيليين في القصف على غزة
قيادي في حماس: نتنياهو يسعى للتخلص من المحتجزين لتجنّب الأثمان السياسية

حماس: الاحتلال ينقلب على اتفاق وقف النار ونتنياهو أشعل الحرب للهروب من أزماته
اتهمت حركة حماس الاحتلال بالانقلاب على اتفاق وقف إطلاق النار واستئناف المجازر في غزة، مشيرة إلى أن الادعاءات بشأن تحضيرات المقاومة لشن هجوم هي ذرائع لتبرير العدوان

رواية الاحتلال.. هكذا تم استئناف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة
تم تقديم الخطوط العريضة لاستئناف العمليات العسكرية خلال اجتماع مصغر للحكومة نهاية الأسبوع الماضي، لكن الوزراء لم يُبلغوا بالتوقيت الدقيق لبدء الهجوم.

خطوة غير مسبوقة.. صحفيون باكستانيون يزورون تل أبيب
زار وفد باكستاني "إسرائيل" في خطوة مفاجئة شملت جولات في مواقع تاريخية رئيسة، بدعوة من منظمة "شراكة" رغم عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين