منوعات

بين الخيمة و"الحمَّام".. رحلة رعبٍ ليلية في غزة

11 فبراير 2025
النازحون في غزة.png
فاطمة أبو حية
فاطمة أبو حية صحافية من غزة

خيمةٌ في الشارع، و"حمَّام" بعيد، وبينهما مسافة غير قصيرة، ودرجات حرارة متدنية، ومياهٌ تسبب الألم لشدة برودتها. طائراتٌ مسيَّرةٌ تحلّق على ارتفاعات منخفضة تصور الشاردة والواردة، وطائراتٌ من كل الأنواع، وقصفٌ قريب، وحيوانات ضالة، وظلامٌ دامس. خوفٌ من إضاءة المكان، غرباء أو ربما لصوص. في هذه الأجواء يكون ذهاب النازحين إلى الحمَّام قطعة من العذاب خلال ليالي الحرب الطويلة في غزة.

طائراتٌ مسيَّرةٌ تحلّق على ارتفاعات منخفضة تصور الشاردة والواردة، وطائراتٌ من كل الأنواع، وقصفٌ قريب، وحيوانات ضالة، وظلامٌ دامس. في هذه الأجواء يكون ذهاب النازحين إلى "الحمَّام" قطعة من العذاب خلال ليالي الحرب الطويلة في غزة

ربو وبردٌ قارس

تُحدّثنا رشا السرحي بصوت يوحي أنها مصابة بالزكام، لكنها ليست كذلك، بل مشكلتها أكبر، فهي بالإضافة لكونها مريضة ربو، خضعت لعملية جراحية في الجيوب الأنفية قبل الحرب بثلاثة أشهر، أخبرها الطبيب بعدها بضرورة الالتزام باستخدام "بخّاخ للأنف".

التزمت رشا بالعلاج حتى شهر شباط/فبراير من العام الماضي، حين اقتحم جنود الاحتلال بيتها في غزة وأجبروها على النزوح جنوبًا، ومنذ ذلك الحين لم تجد البخاخ في أي مستشفى أو نقطة طبية أو صيدلية. أما بخاخ الربو، فتذهب من دير البلح إلى النصيرات لشرائه، وصارت تستهلك عبوة على الأقل في الشهر الواحد، بعدما كانت العبوة الواحدة تكفيها لأكثر من أربعة أشهر قبل الحرب.

ما علاقة كل ذلك بالمسافة بين الخيمة والحمَّام"؟ توضح رشا السرحي، أن"البرد يؤثر بشدة على الربو والجيوب الأنفية، والخروج من الخيمة ليلاً يعني مواجهة برد لا يُوصف. أغطى أنفي وفمي، لكن بلا جدوى".

مؤخرًا، تقلصت المسافة إلى 10 أمتار، وهي ليست بسيطة، لكنها "نعمة" مقارنة بما كان عليه الحال سابقًا، حيث كانت رشا تمرُّ بين الخيام وتعبر الشارع إلى ضفّته الأخرى لتصل الحمَّام.

وتقول: "الخيمة لا تقينا البرد، لكن على الأقل أشعر ببعض الدفء أنا وابني عندما نرتدي المزيد من الملابس ونتلحف بأغطية أكثر، لكن حتى هذا القدر الضئيل من الدفء ينتهي فور خروجنا من الخيمة".

أما برودة المياه، فهي عذابٌ لا يفهمه إلا من جربه، فتبُيّن رشا أن "الغاز المتوفر لا يكفي لتسخين المياه كل ليلة، ولا أجرؤ على إشعال الحطب والسماء ملبدة بالطائرات، لذا أؤخر صلاة الفجر لما قبل موعد شروق الشمس مباشرة، وفكرت بالتيمم لكن أخشى أن يكون غير جائز".

تستخدم رشا السرحي بخاخ الربو فور عودتها لخيمتها بعدما تذهب للحمَّام ليلاً، ومع ذلك تتردد على المستشفى بين وقت وآخر كما حدث معها بعد المنخفض الجوي الأخير، وهذا لم يكن يحصل قبل الحرب.

وتوضح رشا أن للخطر أشكال عدة، منها المُسيَّرات، ففي ليالي كثيرة يبكي ابنها ويمتنع عن الخروج من الخيمة بسبب صوتها ووميض إضاءتها في السماء مرددًا: "بيصورونا يا ماما"، رغم أنها ترافقه كل مرة خوفًا عليه.

وتضيف: "قبل أشهر، كنا نتوجه لحمَّام أبعد، كنا نخاف اللصوص، كنت أخشى أن يفتح أحدهم الخيمة ويهاجمني، كوني أرملة، وابني طفل، أطلب من زوجة أخي مرافقتي، نضحك على أنفسنا لنشعر بالأمان".

على كرسي متحرك

نزح ربيع دلول (67 عامًا) من غزة إلى النصيرات في اليوم السابع من الحرب بسبب وضعه الصحي، فساقه مبتورة، وكذلك عدد من أصابع يده. يقول: "غيَّرت مكان نزوحي عدة مرات، في إحداها، نصبت خيمة عند باب مدرسة، للاستفادة من الحمَّامات فيها، كنت أنتظر الطوابير الطويلة، وأقاسي البرد، بينما أنا على كرسي متحرك".

ويضيف ربيع دلول: "في كل محطة نزوح تتجدد المشكلة ولا أجد مكانًا مناسبًا لقضاء الحاجة، فبسبب صعوبة حركتي وتلف كرسيّ المتحرك أحتاج وقتًا للوصول للحمَّام، ويساعدني أهل بيتي، ولا شك أننا نحتاج إضاءة ولو خفيفة لنرى طريقنا". هذا يعني أن يتحرك أكثر من شخص، لمسافة غير بسيطة، ولعدة دقائق، تحت مرأى طائرات "كواد كابتر"، وفي ذلك أسباب كثيرة للخوف من التوجه لدورة المياه ليلاً. هذا يُضاف إلى درجات الحرارة المتدنية في ليالي الشتاء، وخطورتها على مسن مريض.

لأجل ذلك، اضطر ربيع دلول لبناء "حمَّام" خاص به وبأبنائه وبناته وعوائلهم لتكون بين خيامهم، فتقلّ المسافة ويقلّ معها البرد والخطر.

عبءٌ نفسي أيضًا

ستّيني، يخضع لجلسات غسيل الكلى ثلاث مرات أسبوعيًا، يعاني من ست انزلاقات بعموده الفقري، ووصلت به الأمراض حتى الاعتماد على أنابيب الأكسجين في التنفس. رجلٌ بهذا الحال كيف يخرج من خيمته عدة مرات كل ليلة ليقصد الحمَّام؟ يوضح ابنه كامل البوبلي: "نتيجة وضعه الصحي، يتردد أبي على الحمَّام طوال الليل، وفي كل مرة يرافقه شخصان على الأقل".

نزحت عائلة البوبلي من المغازي إلى دير البلح قبل سنة، جربوا خلالها الصيف والشتاء والخطر بكل أشكالهما.

يقول كامل: "على مدار العام نخاف من الكواد كابتر، خاصة أننا نكون ثلاثة أشخاص على الأقل ونستخدم الإنارة ونتحرك ببطء، وفي الشتاء يوشك البرد أن يقتل أبي عندما يخرج من الخيمة، خاصة أنه يشعر ببرد مُضاعف في أيام غسل الكلى".

ويضيف: "أصبح الأمر مرهقًا لنفسيته بسبب الخطر من جهة، ولشعوره أنه يُتعبنا من جهة أخرى، فصار يمتنع عن أي تناول أي مشروب ليلا".

ويتابع: "كان لا بُدَّ من حمَّام خاص بأبي في خيمته، لكننا لا نملك تكلفة إنشائها، فاستخدمنا كرسيًا بلاستيكيًا، فرغنا منتصفه وجعلنا تحته دلوا". ويوضح كامل البوبلي أن هذه الفكرة البدائية خففت مشكلة الخروج من الخيمة، لكنها تؤثر على رائحتها، مع الخوف من أن تسبب الأمراض لأن التهوية فيها غير جيدة.

مسافةٌ تنتهي بالمرض

النازحة من حي تل الهوا في غزة إسراء حمدان تتذكر دفء بيتها وهي تُحدثنا بحسرة عن الخيمة، كانت تهتم بتشغيل المدافئ أغلب الوقت في "المربعانية"، تشد الأغطية على صغارها في الليل، وتتأكد من حرارة غرفهم.

اليوم، توصيهم بعدم الإكثار من شرب السوائل في الليل، وتتأكد من دخولهم للحمَّام قبل النوم، وتؤنبهم إن تجاهلوا نصائحها فاستيقظوا لقضاء حاجتهم.

تقول: "بين خيمتي والحمَّام 10 أمتار تقريبًا، قطع هذه المسافة ليلاً تنتهي بالمرض غالبًا، لذا أحتفظ بالأدوية اللازمة لنزلات البرد". وتضيف: "يخاف أبنائي من الخروج وحدهم في الليل، ومن الحيوانات الضالة واللصوص والكواد كابتر، وأخاف أنا أكثر منهم".

وتوضح إسراء حمدان أنها عوّدت أبناءها على إيقاظها لمرافقتهم فور شعورهم بالحاجة للتوجه إلى الحمَّام رغم الخوف حرصًا على صحتهم.

التبول اللاإرادي... مشكلةٌ تتفاقم

لبعض الأطفال معاناة خاصة، فقد أصابت الحرب الكثير منهم بالتبول اللاإرادي، وآخرون كانوا يعانون المشكلة ذاتها قبل الحرب، وهؤلاء يصعب علاجهم في الخيام.

تتحدث عن هذه المشكلة "أم أحمد" -التي طلبت الاكتفاء بالكنية احترامًا لخصوصية ابنها البالغ (10 أعوام)- مبينة أنه "كان يعاني من التبول اللإرادي قبل الحرب، وقد بدأت بعلاجه وتحسّن تدريجيًا، ثم مع اندلاع الحرب تدهورت حالته، ولكن لم أيأس من محاولة علاجه، فقد كنت نازحة في منزل أحد الأقارب".

وتضيف: "نزحت من رفح إلى دير البلح في مايو للماضي، ومنذ ذلك الوقت ساءت حالته، لا أستطيع إيقاظه في الليل لقضاء الحاجة، فكيف أقنع طفلاً بالخروج من الخيمة بينما هو يسمع صوت كواد كابتر عاليًا للحد الذي يجعلنا موقنين أنها تسير على انخفاض يوازي ارتفاع الخيمة؟".

وتابعت: "أنا أخاف أيضًا، لا أجرؤ على الخروج من الخيمة، ففي أفضل الحالات تكون المُسيَّرات واضحة في السماء". مع ذلك، تجرب العلاج في بعض الليالي، فتوقظه ليذهب إلى الحمَّام، وأحيانًا يتبول في الطريق خوفًا من صوت الطائرات.

في الشتاء، ظهرت عقبة أخرى أمام "أم أحمد"، فتقول: "لم نعش من قبل بردًا كالذي نعيشه في الخيمة، وعند الخروج منها لدورة المياه يكون البرد مضاعفًا، فلو خرج الطفل بملابسه المبتلة سيمرض بلا شك، وكذلك سيمرض لو أكمل النوم بملابس مبتلة، لذا أضطر لتغييرها مرة على الأقل في الليلة الواحدة".

وأشارت "أم أحمد" إلى حرارة المياه تبدأ بالانخفاض بعد غياب الشمس، "حتى توشك أن تصبح ثلجًا قبل الفجر، فتؤلمنا أيدينا حين نستخدمها، ما جعل الوضوء لصلاة الفجر عبادة شاقة لا أقوى عليها كل يوم، فألجأ للتيمم أحيانًا".

وبالعودة للخوف من الخروج من الخيمة، تُخبرنا "أم أحمد" أنها ذات ليلة اضطرَّت لتناول دواء مدر للبول، وتقول: "لم أملك شجاعة كافية للخروج من الخيمة، شعرتُ بالرعب بسبب أصوات القذائف المدفعية، فاستخدَمْتُ برطمانًا قضيت حاجتي فيه".

كان لا بُدَّ من حمَّام خاص بأبي في خيمته، لكننا لا نملك تكلفة إنشائها، فاستخدمنا كرسيًا بلاستيكيًا، فرَّغنا منتصفه وجعلنا تحته دلوًا. وهذا يؤثر على رائحة الخيمة، مع الخوف من أن تسبب الأمراض لأن التهوية فيها غير جيدة

وتحدثت "أم أحمد" عن غارات متتالية من طيران الاحتلال وقعت أثناء وجود ابنتها في الحمَّام، حينها، ملأت طائراتٌ مروحيةٌ السماء، فحبست ابنتها نفسها في الحمام بانتظار أن تنتهي الغارات، ولمَّا طالت المدة اضطرت للعودة إلى الخيمة ركضًا دون الاستعانة بأي إنارة.

وتقول: "الإنارة من أسباب الرعب بالنسبة لنا، نضطر لاستخدامها بسبب الظلام الدامس، لكن نجعلها خافتة جدًا، إذ الكاد نرى موضع أقدامنا". ذات مرة، بسبب الظلام، ولأن الأرض رملية وغير مستوية، تعثرت "أم أحمد" بأوتاد الخيمة وسقطت أرضًا أثناء توجهها للحمَّام، فشعرت بآلام حادة في كامل جسدها استمرَّت عدة أيام.

غير أنَّ الإنارة الخافتة لا تكون مناسبة في كل وقت، فقد يُضطر النازحون للإنارة العالية خوفًا من الكلاب التي تتجول بين الخيام، وحينها لا بُدَّ من الإضاءة العالية. وتوضح "أم أحمد" أن قبل عدة شهور كثر الكلاب في المنطقة، بدرجة جعلت أحد الجيران يسهر كل ليلة لحماية أسرته، فيمسك حديدة يهشّهم بها، ويقلّد أصوات بعض الحيوانات ليُخيف الكلاب".

الكلمات المفتاحية

الكاتب الفلسطيني مصعب أبو توهة يفوز بجائزة التعليق الصحفي لعام 2025

الفلسطيني مصعب أبو توهة يحصد بوليتزر 2025: صوت غزة يصل إلى العالم

جائزة بوليتزر تكرّم الشاعر الفلسطيني مصعب أبو توهة عن مقالاته في "نيويوركر"، والتي وثّق فيها معاناة الفلسطينيين في غزة خلال الحرب


البابا فرنسيس عيادة في قطاع غزة

سيارة البابا فرنسيس تتحول إلى عيادة صحية للأطفال في غزّة

تم تجهيز السيارة التي استخدمها البابا الراحل خلال زيارته إلى فلسطين عام 2014 بمعدات تشخيصية ومعدات طبية طارئة لمساعدة المرضى الأطفال في قطاع غزة


مخاوف إنسانية تدفع إسبانيا إلى تحدي مشاركة إسرائيل في "يوروفيجن"

دعوات إسبانيّة لنقاش أوروبي حول مشاركة "إسرائيل" في "يوروفيجن" بسبب حرب غزة

مخاوف إنسانية تدفع إسبانيا إلى تحدي مشاركة إسرائيل في "يوروفيجن"


خريجو جامعة كولومبيا يمزقون شهاداتهم احتجاجًا على اعتقال الناشط محمود خليل

خريجو جامعة كولومبيا يمزقون شهاداتهم احتجاجًا على اعتقال الناشط محمود خليل

بدلًا من المشاركة في يوم خريجي كلية سيبا السنوي، تجمع عشرات من الخريجين والطلاب خارج الحرم الجامعي كجزء من احتجاج نظمته مجموعات خريجي سيبا وبرنارد من أجل فلسطين

الشهيد الصّحافي حسن اصليح، اغتاله الطيران الإسرائيليّ المسيّر أثناء علاجه، داخل مستشفى بخانيونس
تقارير

الاحتلال يلاحق الصحفي حسن اصليح ويقتله على سرير العلاج في مستشفىً بخانيونس

استُشهد الصحفي حسن اصليح فجر الثلاثاء داخل مستشفى ناصر الطبي بخان يونس، بعد أن استهدفته طائرة مسيّرة إسرائيلية أثناء تلقيه العلاج من إصابة سابقة

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو
أخبار

تقارير: خيبة أمل إسرائيلية بشأن خطة ترامب للتهجير وغضب تجاه نتنياهو بعد الإفراج عن ألكسندر

قالت القناة 12 الإسرائيلية إن "هناك حالة من خيبة الأمل في إسرائيل بشأن التقدم المحرز في تنفيذ خطة ترامب للتهجير في قطاع غزة".


الطريق إلى ضم الضفة: إنشاء طرق استيطانية تصل لمئات الكيلومترات دون ترخيص وبدعم حكومي
تقارير

خطة تسوية الأراضي بالضفة الغربية: شرعنة للضمّ وتجريد للفلسطينيين من أراضيهم

قالت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان لـ"الترا فلسطين" إن قرار "الكابينيت" بشأن تسوية الأراضي في الضفة الغربية يستهدف "ما تفعله السلطة الفلسطينية من تنظيم وتسوية وتسجيل للأراضي بالضفة".

مجاعة غزة_1.jpg
أخبار

تقارير أممية: خطر المجاعة في غزة عند مستوى "حرج"

قال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إن سكان قطاع غزة بأكملهم يواجهون مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحادّ وخطر المجاعة.

الأكثر قراءة

1
تقارير

خاصّ | ملف الأسرى المبعدين: تجاهل من السلطة الفلسطينية وتنصُّل عربي


2
أخبار

خاصّ | خلافًا لرغبة الرئيس عبّاس.. مركزية فتح ترفض ضمّ اللواء ماجد فرج


3
تقارير

من "ملف التنسيق" إلى نائب الرئيس.. القصة الكاملة لصعود حسين الشيخ


4
تقارير

خاصّ | اجتماع بلا حوار: المجلس المركزي يتفرّد ويُقصي


5
تقارير

"هذا هو المتوفّر".. مرضى غزة يتلقّون أدوية منتهية الصلاحية